باقر صاحب شاعر من بطاح العراق والتفاحة لاتسقط الاّ بقرب الشجرة . حين يكتب فهو مدركاً أنه قد تسامى الى الذين يفقهون الإبداع بمعناه العميق والرصين والمؤثر في غائيته وأهدافه ، مثلما فعلها يوما الشيوعي الرسام الشهير بيكاسو ، حين سأله أحدهم : لماذا ترسم بهذه الخطوط والألوان المتداخلة ، فتناول بيكاسو ريشة وراح يرسم حبة قمح على ألأرضية فكانت حقيقية إلى درجة أنّ أحد الديكة تقدم محاولا التقاطها ، عندها إنبهر الرجل وقال لبيكاسو : لماذا إذن تصر على هذه الرسوم الغريبة وأنت تحسن الرسم بهذه الطريقة الرائعة . فأجابه بيكاسو ساخرا وبهدوء : في الحقيقة أنا لا أرسم للدجاج . هكذا باقر صاحب بفنيته الهائلة التي تجعل الرائي والقاريء في أقصى غايات الذهول وإلإنبهار من شدة السبك وتناغم شطائر ثيماته حتى يخيل لك لو أكلتها كلها في آن واحد لما شبعث ، بل تريد المزيد
لكثرة ما بها من معاني واضحة في النثر الذي إعتنقه عن قناعة ومن أنه الشعر ولاسوى الشعر غيره لا في السونيته ولا في العمود المتخم بكروش الروي ، عدا بعض الذين أضافوا له مسحة من الحداثة . أنه الشاعر النثري الذي كلما قرأتُ له أزددت إعجابا في كيفية بناء القصيدة أفقياً وعمودياً وكيفية الإعتناء بثمرة القصيدة المتوّجة بالمعنى الإنساني والوجداني والتي لاتخلو من السياسة والتعرض للطغاة . لذلك وجدت باقر شاعراً من النوع الذي يفكر بوضوح فيعبر بوضوح على حد قول زعيم الثورة البلشفية لينين العظيم .
أشعاره مثل رقصة الزومبا الهندية كنوع من أنواع ( اليوغا) التي تهدف الى تخفيف الوزن وجعل الأجساد رشيقة تسر الناظر ولهذا جاءت قصائده بعيدة عن تبجح العمودية وشكلها وأوزانها التي تأكل الثريد كما عادة العرب الأقحاح منذ زمن بعيد فتتخم مما يثير إشمئزاز الناظر والقاريء . باقر صاحب شاعر من النوع الذي يدرك من أننا لايمكن أن ندير ظهورنا لآلام الآخرين ، في أغلب نصوصه وجدت المحاكاة والشكوى ومناغاة العلّة والمعلول مثلما قول الكاتب النرويجي كنوت هامسن (هل صنعت قلبي وأنت نائم يابعل السماء) . يكتب بالثبات الراسخ الرصين حتى يدفع صفعة بداياته لركل الشيخوخة لعلّه يقلل من تسللها الى عنفوان شبابنا فتجعل من أفعالنا اللاإرادية قاتلة لدورة أيامنا في مجتمعات ينخر بها الجمود بكل شيء من العقائد الى التقليد السائد والمقيت الى وسائل ترفيهنا المعدومة تماما .
شاعرٌ لايوغل في الإيمان المطلق بل يسعى الى المعرفة ، وفقاً لماتقوله لنا الطبيعة الأم التي يأتي منها الجمال مع البيئة المعاشة حسب تصور الشاعر باقر، مثل الطيور التي تتلوّن بلونها الأبيض في بقعة جليدية بيضاء ، فالطير هنا لايريد أن يظهر جميلاً وإنما يريد التخفي فأخذ لون الطبيعة . الطائر الأمازوني أيضا نراه ملونا لأن الغابات الأمازونية ملونة بأشكالها الغريبة العجيبة فياخذ لونها لكي يتخفى من الصقور الكاسرة التي تبطش به . وهكذا إنطلق الشاعر باقر وفق هذه المفاهيم لكي يرسم لنا التصورات الحقيقية للبشر وما يترتب عليها من أفعال .
القصيدة النثرية لدى باقر تعني الشفافية والحداثة التي لاتعرف التبعيض ، لأنها لم تتعلّم أصول إنتقام العربي الصحراوي بقصائده المقفاة التي أصبحت تجتر ماتكتبه ، كما أنّ عادات العرب باقية ولاتتغيير مثلما الزير سالم حين ثأر لأخيه وظل يقول أربعين عاما على لسان أخيه كُليب ( وعظمي صار في الأرماس كحلاً وجسّاس ابن مرة في الحياة) روح الإنتقام متأصلة لاتتوقف عند حد في هذه القصيدة الثأرية حتى لو جاء السلم العالمي كله في أحضان هكذا نوع من الشعر . أما القصيدة النثرية ناعمة بريئة وحتى إن أرادت تعلّم العنف فهي تبقى على سليقتها مثل تلك الفتاة في الفلم العالمي (إنتقام) والتي أرادت أن تنتقم من مغتصبها قاتل صديقها المثلي الجنس بسبب العنصرية الجديدة في هذا المنوال البغيض ، فتدربت على رمي السهم لكنها بقيت بذات البراءة التي توّسمت بها وحينما حبست أنفاسها كي تسدد على مغتصبها قالت : تماما مثلما نفعلها في وضع المسكارة في أعيننا . هكذا هو فعل قصيدة النثر لدى باقر صاحب . لذلك نراه يوجه الركلات بكل ترافة كما فعل المسكارة هذي لكنه يسدد بالكلمات الراكلة وحسب ، مثلما في نص (صفعة البداية) :
أكتبْ
كي تزجرَ شيخوخة أيامك
عن التسلل الى وسامة روحك
أكتب ْ
كي لاتدع البؤس
يتوسّد اليك
يحملُ نهارك
أكتبْ
كي تجمّلَ ماتبقى من يومك
كي لاتزريه قيود الغبار والحر ودورة العمل والبيت
باقر في هذا النص جسد لنا ماقلنا أعلاه عن الطبيعة ، أراد التخفي في أجواء الكتابة لكي يبعد نفسه عما يزعجه من كل ضررٍ ممارساتي يمر علينا طيلة أيامنا ، ولم ينس الشاعر هنا الضرر الناجم من الحكومات والطغاة فقال ( كي لاتزريه قيود الغبار والحر) ،أعتقد هنا ولستُ جازما يشير الى آلام العراقيين من إنقطاع الكهرباء بسبب السرقات فنحن لا نعاني من شحة الأموال ، إنما من وفرة اللصوص . ورغم ذلك نرى باقر لايكترث بما يحصل غير أنه يستمر ولابد له من المضي مع تلك الشوارع واللحظات المقيتة كما في ( لحظة وشارع ):
نص لحظة وشارع
ليس هناك
مايؤلمُ في لحظتي
لأنها بيّاضة للعدم
كما ليس هناك مايفرح
لانها ولاّدة للشقاء
الفيلسوف هيدجر ونظرته للعدمية التي لاتشكّل له عنصرا للخوف لأنه يقول( نحن نسير ونحمل موتنا معنا ، أحيانا يمر وقت موتنا ونحن لم ننتبه ، وإذا متنا لانحس هذا يعني أن الموت ليس مصدرا للخوف أو الرعب في الحياة أو الممات ) . وحتى في اللحظات السعيدة هناك مفاجآت من الألم الذي لايطاق ، فالممثل الأمريكي الراقص( جون ترافولتا) الذي إشتهر بترافته وسعادته ، طار من بيته وبطائرته الخاصة مع عائلته الى أسبانيا للراحة والإستجمام ، وبعد يومين من وصوله توفى إبنه فجأة وهو في السابعة عشر من عمره،وهذا أدى بجون ترافولتا أن يترك التمثيل لمدة خمس سنوات من كثرة مصابه الذي لايُطاق . وحين عاد الى التمثيل كان أول فلم له حول إبنه ومدى حبه له الذي ظل ينخر بنفسيته وجسمه . فحادثة هذا الراقص تتوائم مع ماقاله الشاعر باقر (كما ليس هناك مايفرح /لأنها ولاّدة للشقاء) .
كتب باقرعن التشكيك والتشاؤم والأمل والتساؤل ، كتب عن الكثير لكنه وجد نفسه لابد أن يكتب عن الأيروس ولم لا ، فالكاتب الحائز على جائزة نوبل (أناتول فرانس) كان إشتراكيا ملحدا كتب عن مختلف المواضيع القاهرة والمؤلمة وحتى حين حصل على جائزة نوبل 1924 أهدى ماله الى جياع روسيا . لكنه لم يكتف بهذا حتى كتب رواية جنسية ماجنة (جريمة سلفستر بونارد) والتي تلاقفتها صالات الفن السابع أنذاك . وهكذا فعلها الشاعر باقر في النص أدناه الذي شكل منعطفا مغايرا في الديوان بأكمله :
أضيئي بأناملك
سباخَ جسدي
وعرّفي غفوة الشرق
إقتليني برياح الشهوة
كي أعلّمّ الزهورَ رشفة العراء
فردوس بلا حب تعني الجحيم، نعم هنا باقر يدخلنا في الجدلية المثيرة بين اللوغوس والأيروس ، أي بين العقل والجنس والتي خطت بأصابع عباقرة التأريخ بدءً من (دي موساد )الذي كتب قصيدته المسرحية على لوحٍ من الجلد وهو في السجن ، وكلها عبارة عن لوحة ماجنة فاسقة حسب إدعاءه هو نفسه . (هربرت ماركوزة) أيضا ، وأما (ميشيل فوكو) فهو الذي أصبحت مؤلفاته دروساً إنطلقت بها أوربا في هذا الجنس الحضاري الذي نراه اليوم ، كتب الكثير عن الرغبة التي لاتفارق تفكيرنا وأبداننا . ماركس أيضا الذي تكلّم قبلهم عنها ولكن بحذر لاكما هؤلاء الذين أوغلوا في دروس الشهوات والجنس وكيفية جعله حضارة وعِلم مكتوبين وفي متناول الشعوب ، لأن الحضارة بدأت عند إختراع الكلمة ، وأصبح بالإمكان رميها في وجوه من يظلمونا بدلا من رميهم بالحجارة. وهنا تبرز براعة باقر حين نجده شاخصا بين الكلمة والحب . فنراه يقول ( أنيري سباخ جسدي) ، السباخ هنا تعني البور أو الجدب بالمعنى العامي مثلما غناها ذات يوم المطرب قحطان العطار ( كلبي وحشة ليل وعيونك نهار / روحي جدبة وضاكت بحبك خضار ) . إذن دعوة من الشاعر باقر أنْ : تعالي وأمطريني بإخضرارك ( عشك أخضر) لناظم السماوي أو تعالي جرّبيني للعظيم الجواهري .
ثم ينتقل بكل وثوق فيقول ( كي أعلّم الزهور ) عادة نحن نتعلّم من كائنات الطبيعة بشكل عام
، لكن مثلما قالها رمويو لجوليت حين عكس المفهوم الذي أراد إيصاله الى جوليت ( أنّ نجوم السماء أخذت زرقتها من عينيك) في حين أنّ أغلب الإبداع يؤول الأمر من أنّ العينين أخذت من السماء زرقتها فكان الوصف بارعا متجاوزا متحدياً وهذا الأمر ينطبق على الشاعر باقر في تعليمه للزهور .
ما يؤرق الشاعر باقر كحال معظم المبدعين في هذا العالم الشسيع هو الشيخوخة والإقتراب
من عتبات الرحيل القهري وتوقف وصالنا وانجماد دماءنا :
لستَ في عتبة خمسينك
سوى قبرٍ مفتوحٍ
كما شوارعنا
وأيامنا
ماضغةً كلّ لحظة ٍ
بكبسة زرّ ، لوحشٍ من عفن القرون
هنا الشاعر تشكيكي متمرد على نوعية الحياة التي نعيشها وكذبتها المستمرة التي تحصد بنا على يد ( وحش من عفن التأريخ ) وأغلبنا يعرف ماهو المقصود هنا بالوحش ، فعلا هو مصاص الدماء والاّ لو كان كما روح فراشة بريئة لتوقف عن ديناميكية زهق الأرواح دون كلل أو ملل ولا حتى له القابلية على تغيير طباعه العنيفة في القتل ذات يوم ، بل يتمادى في السخرية منا مثلما يفعلها الطغاة فما الفرق هنا لاشيء ، مثلما صرخ بها ذات يوم التشكيكي والفلسفي عمر الخيام . فهنا الزر الوحشي هو بمثابة رجل يشاهد الدراما فيستطيع ان يقدم الوعظ لكنه لايستطيع الشعور بألم الناس وتجاربهم في البقاء . فإذا كنت شجاعا أيها الملائكي المارد تعال لتلقي القبض عليّ في وكري وليست الشجاعة أن ترمي بشباكك كي تصطاد سمكة ، فلماذا لاتخفف من حصدكّ إيانا في كل فصولك . ومهما يكن من أمرفكل هذه التداعيات المنطلقة من باقر تدور رحاها في سموت الميتافيزقيا التي تصلنا موهومين الى هذا الوحش الكامن في ألاساطير والأديان . ولهذا تتوالى علينا الخيبات تلو الخيبات وما من أمل في الإفق (تاج خيبة) .
ماتبقى
رغيف شيخوخة بارد
أقضم ُصباحاً
إزورار خطى حبيبة العشرين
مشيب الأرصفة بالغبار
إنطفاء تضاريسِ حلمِ قديم
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجزء الثانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
هاتف بشبوش/شاعر وناقد عراقي