في الجنوب البعيد، في قرية نائية. هناك حيث يغور الجوع والمرض بعيدا في تلك الشعاب والسواقي وبيوت الطين، ليصطاد ويغل حقده في صدور البشر دون رقيب وحسيب. كان جبار مطشر مهودر، بعامه الذي لم يدون في تأريخ محدد، يشذب سعفاته، استحضارا لطلب جديد. فقد أمتهن منذ طفولته صناعة المقاعد والمناضد من سعف النخيل. 

 يروي جبار مطشر مهودر بفيض من كلمات، إن عمره من عمر ملك العراق فيصل الثاني، الذي قتلته اليد الظالمة في اليوم الأول من جمهورية عبد الكريم وعبد السلام. هذا ما يؤكده جبار مطشر بتلذذ يخالطه شيء من الحزن، حين يُسأل عن عمره. يدون في ذاكرته هذا التأريخ مع تفاصيل أخرى، يلذ له الحديث حولها، ويردف ذلك بالقول تأكيدا لما يرويه، بأنه سمع ذلك وغيره، من عمته لطيفة، التي ماتت بالتدرن بعد وفاة أمه بعشرة أعوام، لذا أحتاج لمعرفة يوم مولده مدة ليست بالقصيرة، ودائما ما يقول بأنه ما عاد يأسف لضياع أيامه، ولا حتى سنوات طويلة قضاها هاربا من الخدمة العسكرية، يجوب الهور، يعبر الحدود نحو إيران هربا من رجال الأمن العراقيين، ومن ثم يعود هاربا حين يطارد من الشرطة الإيرانية.

 كان يمط شفتيه ويشعر بالنشوة وهو يتحدث عن عمره، الذي يقرنه بولادة ملك العراق، بالرغم من أنه لا يعرف بالضبط في أي عام أو يوم ولد ذاك الملك. ولكن جبار مطشر مهودر يقول إن عمته لطيفة كانت ذكية نبهة وتؤرخ للقرية حوادثها وأبناءها، لذا لا يمكن الشك فيما تقوله أو تعلن عنه.

 دائما ما يبدو جبار مطشر في حديثه عن عمره، وكأن له علاقة قربى بذاك الشاب الجميل الطلة الأنيق الذي اغتالته رصاصات رعناء، لم تأخذ بالاعتبار حتى صلة الرحم التي تربطه بآل بيت النبوة، هكذا يصف جبار الملك فيصل الثاني والواقعة التي أسست للجمهورية الأولى في العراق.

 يسرح في البعيد، ومع دقات فأسه فوق اللوح الخشبي وهي تشذب السعف وتنضده، يتذكر سنوات عمره التي سارت بعجالة، دون أن يتغير حاله كما حال قريته المنسية الراقدة بين الماء والسماء.

فوق حصير جوار باب كوخه الطيني، جلس جبار مطشر مهودر يبسط يده ويرفعها في عمل دؤوب مثابر، تحيطه كومة سعف نخيل، وجواره جلس حفيده ذو التسعة سنين، ينظر لكف جده وهي تعمل بترو ودقة، فيشعر بذات الزهو الذي يعتمر قلب جده.

ـ جدي ، مَن هو بوش؟!

قال الحفيد وهو يتطلع لفأس جده وهي تنقر برتابة غصن السعفة لتشذبه.

بوجه باش وابتسامة عريضة أجابه الجد:

ـ بوش هو رئيس أمريكا.

ـ أهو من عشيرتنا؟!

ـ كلا يا ولدي فهو رئيس أمريكا.

ـ وأين تسكن عشيرة أمريكا؟

ـ أمريكا ليست عشيرة، أمريكا دولة يا ابني.

ـ وأين تقع دولة أمريكا؟

ـ إنها بعيدة جدا عنا.

ـ أبعد من سوق الشيوخ؟

ضحك الجد بصوت مكتوم قبل أن يرد، وراح يمسد شعر حفيده:

ـ أبعد وأبعد.

ـ أبعد من الناصرية؟

ـ أبعد وأبعد يا ولدي. قالها وتغضن جلد خديه، حين انفرج فمه عن ابتسامة برزت معها عظام وجهه المكدود الهرم، وبقايا أسنان نخرها دخان التبغ.

ـ أبعد من بغداد؟

ـ إنها بعيدة عنا جدا، بعد السماء عن الأرض.

ـ ولكن لماذا تأتي وتضربنا بالقنابل مثلما يقول أبي.

ـ إنها تريد أن تأخذ نفطنا.

ـ ولكن جارنا أبو أرحيم جاء وأخذ منا صفيحة نفط، برضانا دون أن يؤذينا.

ــ إنه قدر فرض علينا يا ولدي.

عرض مقالات: