شتاء 2002 كان النهار من فضة ٍ دفيئة، حين أوقفتْ عيناي قدميّ عند مكتبةٍ من مكتبات رصيف  شارع الكويت في مدينتي البصرة، تسمرت العينان على كتاب ٍ يهمني (نصيّات بين الهرمنيوطيقا والتفكيكية) تأليف ج. هيوسلفرمان (ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح). كانت جيوبي شبه نظيفة، هرعت إلى أديب كانت دكانته خلف شارع الكويت بمسافة عشر خطوات بيننا علاقة طيبة وطلبتُ منه..... وهذه المرة الأولى أطلبُ منه أو من سواه، وأخبرته سأعود عصراً وأعيد له المبلغ : ............. عدت ُ لبائع الكتب وقلت له لا تبع هذا الكتاب ياكريم سأذهب إلى البيت وأجلب لك المبلغ. بكل حنو قال لي بائع الكتب كريم : أستاذ خذ الكتاب.. (عفه عليك) من يومها وعلاقتي تتواصل مع هذين المعرفيين العراقيين  الكبيرين  من خلال ترجماتهما الفذة فهما زودا المكتبة العربية بعشرات المصابيح. في كانون الثاني 2010 كان بحوزتي ترجمتهما للكتاب الشيّق (القارئ في النص) تحرير سوزان روبين سليمان / إنجيكروسمان.. وحين لم أحصل على ترجمتهما لكتاب غادامير (طرق هيدجر) اتصلت ُبالصديق الأستاذ الدكتور مجيد حميد جاسم. واتصل بالدكتور علي حاكم صالح، عرفتُ من العزيز مجيد حميد: لايملك علي حاكم غير نسخة واحدة. بعد شهور اشتريت نسخة من (طرق هيدجر)

                في 2018 أبحرت في كتاب من ترجمتهما للناقد غادامير (مَن أنا ومَن أنت / تعليق حول باول تسيلان) وكانت متعتي لا توصف وأنا أغوص في كتبٍ من تأليف الناقد علي حاكم صالح (الوقوف على حافة العالم) و(استعارة الرخام) و(شعرية العابث) و(مفاهيم الشعرية) للناقد الدكتور حسن ناظم وكتابه  الماتع (النص والحياة).

(*)

لا خلاف على المكانة الكبيرة التي نالها الشاعر محمود البريكان فهو صنعها بشعره. أما شخصيته الفذة فقد خدشتها  المخيلة الجمعية  التي هي في الغالب لم تقرأ من شعره إلا القليل. أقول ذلك من خلال زياراتي له برفقة الأديب الكبير محمود عبد الوهاب في مساءات معظم أيام الجمع، منذ 1991 وكانت زيارتنا أقل من ساعة بقليل، كنت أشعر أن ثمة ساعة بيولوجية لدى أستاذي محمود عبد الوهاب، في زيارتنا  أكون مصغيا لا مشاركا  في تحاورهما. لمستُ في البريكان  تواضعه ورقته وأناقة التحاور بنبرته الخفيضة الحيية، وعرفتُ منه أنه يتابع نصوصنا المنشورة في الصحف  والمجلات..

(*)

تفرد  الشاعر محمود البريكان  بعزلة مبصرة مؤتلفة، وهكذا تحول البيت الذي يسكنه في شارع الجزائر: محجة للمثقفين وأصحابهم ولم يكن يتبادل الزيارات، لكن ذلك لم يبعد الناس عنه بل ازدادوا التصاقا به. من هنا كان بعض الزائرين يمتلك خيالا خصبا في التحدث عن البريكان  أو عن مكانته لدى الشاعر!! وحده الشاعر الفقيد رياض إبراهيم بشفافيته العذبة استطاع أن يهبنا كنزا من كنوز البريكان الشعرية وينشرها بموافقة الشاعر في مجلة الاقلام / شباط/ 1993 ثم نُشرت قصائد للبريكان في الأقلام أيضا في 1998 وهكذا يكون البركان قد نشر ثلاث مرات في مجلة الاقلام . المرة الأولى كانت كانون 1970

(*)

لماذا البريكان..؟

هل بسبب شهرته الشخصية التي سبقت مكانته الشعرية؟ أم القارئ يعود إليه بسبب نهايته المأساوية؟ كما فعل القارئ العراقي مع الروائي القتيل علاء المشذوب حيث ازداد الطلب على كتبه بعد الحادثة؟  هل علينا : كن قتيلا ً لتكون مشهوراً !!

(*)

تركة البريكان تنشطر إلى: نصية ومجتمعية والثانية لا تعنينا في معالجة النصوص، فهي (مؤشرات تقع خارج نصه يمكن تسميتها مؤشرات لا نصية. وإدراج هذه المؤشرات اللانصية في قراءة البريكان ليس مطلبا حتمياً لمن لا يريد أن يرفع ناظريه خارج النص /26 / علي حاكم محمد)

(*)

والسؤال الآن هل يمكن التعويل على هكذا نوع من القراء؟ ربما نجد بعض الاجابة فيما يقوله الناقد الدكتور حسن ناظم: (قصائده ذات اللغة التي تبدو لأول وهلة أشدّ مباشرية لكي تصلح لتجسيد قصيدة، وذلك جليّ في جملة من القصائد التي اعتمد فيها على ما اللغة العادية من لغة شعرية مختلفة / 22/ شعرية العابث).

 (*)

المؤشرات اللانصية، كانت لها جاذبية لا يمكن التملص عنها، وبخصوص هذه المؤشرات نسأل: هل مسرَح َ البريكان شخصه بنوع شعري من البونتميم؟ وقد صانت هذه المسرحة شخصية البريكان من التجاذبات العقائدية، في عراق يتماوج دائما ولا ينال ومضة راحة أو استراحة. ولقد فشلت كافة أنواع الصمت والعزلة والتحاشي التي استعملها البريكان ولقد كسرت أفق توقع الشاعر: الجريمة النكراء. أما تأويلنا لهذه القصيدة أو تلك كفعل استباقي لمقتله، فهذا تأويل بعضنا بعد مقتله وهنا نقترض من المعرفي الكبير محمود أمين العالم من خلال (الوقوف على حافة العالم) للناقد علي حاكم صالح ونقول على لسان العالم (أن مصادرة الخبرة الشعرية لشعر الحداثة تكون ثقافية قرائية، معرفية أكثر مماهي خبرات إنسانية حية/30/ علي حاكم صالح).

(*)

لا أحد ينكر التأثير الكبير للسياب في القصيدة العراقية والعربية، وهذا التأثير بسبب حضورين للسياب أعني حضوره المزدوج في الحركة الوطنية العراقية والريادية الشعرية العربية والشاعر البريكان آنذاك كان معروفا من لدن السياب وسواه وهما من جيل واحد وبصرة واحدة: السياب 1926 والبريكان 1929 وكانت للبريكان قصائده منذ 1957 ولديه قصائد بنكهة يسارية مثل (قتيل في الشارع) مكتوبة في 1954(المرصود) نفس السنة و(عندما يصبح عالمنا حكاية) 1957 و(حادثة في المرفأ) 1957 و(رقم 96) في السنة نفسها وهذه القصائد حداثية تتجاور مع حداثية السياب وفي عام 1958 تألقت شعرية البريكان في قصيدته (هواجس عيس بن أزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقة) وهو في هذه القصائد يتماهى مع المغلوبين الكادحين والمناضلين و(أغنية حب من معقل المنسيين) 13/6/ 1958 أي قبل ثورة 14 تموز بشهر واحد. والسؤال هنا هل هذه القصائد التي ذكرناها هنا نُشِرتْ في حينها؟ أم.... بعد فترة من الزمن؟ نستعين هنا بما يقول الناقد الدكتور حسن ناظم (يُكتشف بعض الشعراء بعد حين، في زمان غير زمانهم. قد يغط بعضهم في سبات عميق طويل، ثم تستنهضهم حقبٌ جديدة ٌ لاعتبارات جديدة وقد ينتفضُ بعضهم فجأة دون أن يدع النسيان يلف عالمه لوقت طويل /22 ) لكن عدم تصدر البريكان المشهد الريادي يبقى هو السؤال.

وقد اشتغل الدكتور الناقد حسن ناظم على هذا السؤال من كتابه (الشعرية المفقودة) الصادر عن دار الجمل في 2009 وعنوان الكتاب يعني أن شعرية البريكان (بقيت بعيدة عن التأثير في حركة الحداثة الشعرية العربية).. شخصيا أرى أن مقتل البريكان انفتح على تحويل الفضاء البريكاني إلى حيز الجريمة، وهكذا تأطرت قصائده بهذا الحيز، لكن قصائد البريكان تتمرد على كل الأطر وتكسرها، محلقة ً في رحابة الفضاء.

وهنا نتساءل مع الناقد حسن ناظم (أهي الميتة العنيفة، تقوم فاصلاً، وعلامة  فارقة، أم أنها الكلمات البريكانية وقد صارت كنزاً من ذهب، مطموراً في ضباب التفلسف وغموض،، العوالم المتداخلة،،؟ / 23) شخصيا ومن خلال كتاباتي عن  قصائد البريكان أرى أن البريكان  يتحصن بجغرافية الأقنعة ليستعيد حريته ويحرر أحلامه من قفص الذاكرة وقيود أنظمة السلوك الجمعي وبالطريقة هذه ينأى عن عقلانية السرد الصارمة التي لاتؤدي إلاّ.. إلى عرقلة اتصالات الناس لكن ما الذي يقدر أن يفعله الشاعر في (عالم من ظلال يتفكك في الريح) هل يطلب (الصفح من الأموات؟) هل ينشد (الكلمة في معترك الرايات؟) في (المدن المطمورة الخالية؟) ومن جراء عمق وعي شاعرنا يرى أن (حارس الفنار) هو المسؤول الأول عن جمال الوجود فتدفعه رهافة الحس إلى قلق الأسئلة:(هل أحمل وزر المجازر؟) (هل أتأمل تلك الدماء؟ تلطخ كلتا يدي؟ هل أستطيع افتداء العبيد؟ هل أتجاهل جوع العبيد؟ وهكذا يتواصل الشاعر مع الوجود ويواصل اشعال الأسئلة وهو يرى أفقاً من ذئاب في ليل القنوط وفي كل أسئلته ُ ينتج سؤالاً.. (هو في غاية السرية والوضوح في آن/32/ علي حاكم صالح) والبريكان وهو ينتج أسئلة شعرية عن الوجود والأنوجاد (لا يتوقع أية إجابة في الحقيقة) لأن الشعر ليس وصفة جاهزة فالشعر لدى البريكان (لا ينتظر إجابات معينة عن تساؤلاته وإن غامر في هذا الانتظار فلا بد من أن يكون هو لا غيره مصدر هذه الإجابة) بشهادة المعرفي علي حاكم صالح . والأمر نفسه أكده المعرفي حسن ناظم بقوله (يحاول محمود البريكان أن يفكّر في الوجود شعراً، يدخل إلى هذا العالم الغامض ليؤسس بالشعر أنطولوجيا تقيم أسئلة، وتنأى بنفسها عن تقديم إجابات نهائية../25).

(*)

يفهمنا البريكان شعريا أننا كبشر نتواصل عبر الزجاج وهكذا لا نتجاور فيما بيننا ولا نتباعد (والزجاج كما هو معروف يوفر رؤية صقيلة عندما يكون لامعا كما هو الحال في قصائد البريكان، لكنه لا يوفر اتصالية بين الذين يفصل بينهم الزجاج وهنا تكمن الوظيفة الاشارية لمفردة (زجاج) فهي توفر للعين رؤية واضحة لكن تحرم اليدين من نعمة التلامس../   12 اتصالية الزجاج/ مقداد مسعود/ الأذن العصية واللسان المقطوع).

(*)

يكتشف الناقد الدكتور حسن ناظم قارة شعرية جديدة هي من تخليق محمود البريكان. قارة البريكان هي قارة لغوية تتملص من أطواق الآيدولوجيا، قارة روضّها البريكان وتحديدا الذات البريكانية في حركيتها بين الوجود والإيجاد، وهكذا انسحبت هذه الذات المتقدة من حركية الشارع في (محاولة الذهاب إلى عمق الظواهر والأشياء بقصد الكشف عن طبيعتها الحقة وليس المصطنعة والمنحولة../ 102/ بنسالم حمّيش) في قصيدة البريكان (قصيدة ذات مركز متحول) نكون مع صوت شعري بمديات كونية، فالبريكان من أكبر أمراء المنفى مثله مثل الشاعر سان جان بيرس في قصيدته الكونية (أولئك هم أمراء المنفى) وفي تساؤلات البريكان الشعرية يكون الشاعر منهمكا في صوغ أسئلة الوجود والإيجاد وعلينا كقراء أن نصوغ أسئلة من كل سؤال يصوغه البريكان. وعلى حد قول مثقف عراقي من بيئة البريكان (لا بد للشاعر أن يكشف عن النهايات القصوى.. ليفتح أمامنا الطريق/ نجيب المانع )

(*)

الناقد حسن ناظم وهو يثمّن التجربة البريكانية، يسلط ضوءاً جديدا عن الكشوفات اللغوية الشعرية لدى البريكان وسنعمد إلى ترقيمها لأهميتها:

(1)

(بمثابة مسار آخر في تجديد الشعر العربي يوازي المسارالذي أختطه السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري)

(2)

مسار لم يُكتب له الانتشار ولا التأم حوله جدل يغذّي عوده الطري ولا كان له تأثير بين الشعراء العرب

(3)

إن الشاعر نفسه لا يكاد يعرفه العرب على نحو يليق بمكانته الحقيقية

(4)

الأغلبية الساحقة عرفته بطريقة أن هناك شاعراً عراقياً قُتل بالبصرة في العام 2002

(*)

شخصيا أقول أن ما قاله الناقد العراقي حسن ناظم هو الحق– الحقيقة، لكن للأسف هذا القول الجديد المنصف بشكل متميز لشعرية البريكان: تأخر كثيرا

ثانيا : أرى أن النقد العراقي الذي عاصره البريكان منذ الخمسينات إلى مقتله.. أن هذا النقد يعاني من أزمة ضمير نقدية ولم يعترف بتقصيره بحق البريكان.. استثني بذلك كتب ثلاثة: كتاب عبد الرحمن طهمازي (سيادة الفراغ) 1989 وكتاب الشاعر والناقد والمترجم رياض عبد الوحد (الفأس والبذرة) في تسعينات القرن الماضي. وكتاب الدكتور فهد محسن فرحان (الإبلاغ الشعري المحكم: قراءة في شعر البريكان/ 2001

ثالثا : يتحمل البريكان جزيئة من ذلك فهو بسبب دماثة خلق الكريم وتواضعه الجم، وذاته الزاهدة، لم يروّج لنصوصه كما فعل الكثيرون الذين لم ينوشوا قامة البريكان  ونالوا شهرة ً عربية وعالمية ً بالمجان.

رابعا: أن وزارة الثقافة لحد الآن لا تتكفل تصدير المطبوع العراقي الصادر عن دار الشؤون الثقافية. فالمطبوع العراقي يتورط به المؤلف.. فهو يوزع كتابه في المهرجانات التي تعقد في المحافظات، ومن خلال تجربتي تبقى معظم الكتب المهداة في غرف الفنادق !!

(*)

  • حسن ناظم / شعرية العابث/ دار التنوير/ بيروت/ ط1/ 2019
  • علي حاكم صالح/ الوقوف على حافة العالم/ منشورات الجمل/ ط1/ 2012
  • بنسالم حميّش/ الذات بين الوجود والإيجاد/ المركز الثقافي للكتاب/ الدار البيضاء/ ط1/ 2019
  • مقداد مسعود

(*) الأذن العصية واللسان المقطوع/ دار الينابيع/ دمشق/ ط1/ 2009/ (اتصالية الزجاج : نوافذ البريكان/ ص9- 23)

(*)القصيدة بصرة/ دار ضفاف / العراق / بغداد / دولة الامارات المتحدة/ ط1/ 2012 (حرائق الأسئلة في ليل القنوط) الشاعر محمود البريكان في (قصيدة ذات مركز متحول)/ ص72

(*) من الأشرعة يتدفق النهر/ قراءة في الحداثة الشعرية العراقية/ ط1/ بغداد/ من اصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية/ 2013 (التمويل الذاتي في قصائد البريكان)/ ص127

 

عرض مقالات: