سعید انا بمشاركتي في هذه الاحتفالیة الثقافیة المتمیزة التي یحتفي فیها الحزب الشیوعي العراقي، في اطار مشروع ثقافي مدروس، بواحد من مثقفینا العراقیین المتمیزین هو الشاعر یاسین طه حافظ. ویمكن القول بكل ثقة ان الحزب الشیوعي العراقي هو الحزب الوحید الذي وضع نصب عینیه منذ البدایة العنایة الاستثنائیة بشؤون الثقافة والادب والفكر والفن، ولهذا نجد هذا الارتباط العضوي الاستثنائي بین المثقف العراقي وبین الحزب الشیوعي عبر تاریخه الطویل. ومرة كنت امزح مع احد اصدقائي، فقلت له ربما نسمیه حزب المثقفین العراقیین وليس حزب الطبقة العاملة. ولو عدنا الى التأریخ الكبیر الى هذه العلاقة لوجدناها خصبة جداً ومثمرة للطرفین .
وفي الحقیقة ان الحزب لم یكن یتدخل عبر تأریخه الطویل في الكثیر من التفاصیل وانما كان یمنح الحق والحریة للمبدعین ان یقرروا الكثیر من الاشیاء. وما قیل في حینها من ان الحزب كان یفرض على الادباء والفنانین أسلوباً معیناً او موقفاً آیدولوجیاً محدداً وانه كان طرفاً في صراع بین السیاب و البیاتي وانه انحاز الى البیاتي مسألة لا اعتقد انها صحیحة، لكوني تابعت الكثیر من مراحل علاقة الحزب بالمثقفین.
في احدى المرات في مطلع السبعینات طالبت شخصیا في لقاء عقدته مجلة (الثقافة الجدیدة) وحضره عدد من اعضاء اللجنة المركزیة والمكتب السیاسي، ان یساهم الحزب في اضاءة الكثیر من الاشكالیات الثقافیة المطروحة آنذاك فكان الرد مفاجئاً: انتم افضل منا في فهم تفاصیل المشهد الشعري والادبي والثقافي، ان ما تقررونه هو الصواب.
وفي مرة اخرى ایضا تحدثت مع الرفیق حمید مجید موسى سكرتیر عام الحزب آنذاك فقال: نحن نتعلم منكم ایضاً ومن ممارساتكم وانشطتكم الثقافیة والاجتماعیة والمدنیة.
ویسعدني بشكل خاص ان اجد بین فترة واخرى الاستاذ مفید الجزائري عضو المكتب السیاسي للحزب بصحبة الشاعر ابراهیم الخیاط، وهو یحمل باقة ورد لكي یقدمها هدیة واحتفاءً بهذا الفنان او ذاك او الى هذا الادیب او ذاك. وهذه الحالة استثنائیة في الاحزاب العراقیة، التي لم تفكر یوما في مثل هذه الاحتفاءات الدائمة.
صدیقي الاستاذ الشاعر یاسین طه حافظ، الذي نحتفي به الیوم، تربطني به اكثر من آصرة. فنحن ابناء جیل واحد، انا تخرجت في عام 1961 وصدیقي الاستاذ یاسین طه حافظ تخرج ایضا في العام ذاته. كان طالبا في كلیة التربیة وكنت آنذاك طالباً في كلیة الآداب، وكنا نتواصل بطریقة أو بأخرى حیث كان النشاط الثقافي والسیاسي یجمعنا في ذلك الوقت، واول ما قرأت له هي قصیدة نشرت في مجلة "المثقف" التي كان یشرف علیها الكثیر من المثقفین، التنویرین الیساریین . كانت قصیدة جمیلة وحداثیة واستثنائیة في المشهد الشعري العراقي آنذاك وكان لمايزل طالباً في الجامعة. و حدثني مرةً عن هذه التجربة ، فقال: حملت قصیدتي وانا محرج ودخلت الى مكتب مجلة "المثقف" ووجدت هنالك عمالقة امثال علي الشوك ود.مهدي مرتضى وأمجد حسین، وقدمت لهم هذه القصیدة التي سرعان ما نشرت، فحدث هذا الارتباط الروحي الوثیق بین یاسین طه حافظ وبین هذا الفضاء المفتوح للفكر التنویري العراقي ولا اقول الملتزم تنظیمیاً او حزبیاً وهكذا كانت مشاركة الزمیل یاسین طه حافظ بعد ثورة تموز متمیزةً في اتحاد الادباء وفي ندواته وفعالیاته ونقطة مهمة في حیاته الثقافیة. وكنت بطریقة او باخرى قریباً منه، وهو ایضا كان قریبا مني في الكثیر من مشروعاتنا الثقافیة وخاصةً في الفترة التي اعقبت السبعینات. كان صوتا مهماً في الثقافة العراقیة، وفي الحقیقة قدم الكثیر للثقافة العراقیة، على مستوى الكتابة الشعریة وعلى مستوى العمود الصحفي وعلى مستوى الترجمة والتحریر الصحفي و النشاط الثقافي.
تجربة یاسین طه حافظ تمتلك قیمة شعریة خاصة، ولكن ایضا تخلق اشكالیة في عملیة التحقیب والتجییل. فقد اعتدنا على الحدیث عن جیل الخمسینات، جیل السیاب و نازك وكذلك البیاتي وبلند الحیدري ومحمود البریكان، وتعلمنا ان نتحدث عن هذه النقلة التي حققها جیل الستینات ممثلاً بفاضل العزاوي وفوزي كریم وسامي مهدي وخالد علي مصطفى واخرین، والتي تمثلت رؤیویاً ونقدیا من خلال (البیان الشعري) .
كان هناك عدد من الشعراء الذین بدأوا في اواخر الخمسینات، وواصلوا تجاربهم الشعریة خلال عقد الستینات، ولكنهم لم یدرجوا ضمن هذا التیار الستیني التجریبي الحداثوي، الذي یحمل شعارات ورهانات معینة لتجدید القصیدة العراقیة على مستوى حداثة العصر. وكان الشاعر یاسین طه حافظ من هؤلاء الشعراء الذين یضمون أیضاً شعراء مهمین وبارزین امثال حسب الشیخ جعفر ویوسف الصائغ وسعدي یوسف وصادق الصائغ ورشدي العامل ومحمد سعید الصكار وغیرهم. ولكننا نستطیع ان نقول اننا، بعد المراجعة الطویلة، یحق لنا الزعم انهم ضمناً اندرجوا ضمن تجربة الشعر الستیني جیلیاً، ولیس ضمن تجربة هذا التجمع التجریبي الحداثوي، لانهم قدموا اضافات نوعیة للقصیدة الحداثیة، ربما تتفوق في بعض اوجهها عما حققه شعراء البیان الشعري.
ویمكننا توظیف مصطلح المعاصرة الذي یمكن ان یحل مثل هذه الاشكالیة. فیاسین طه حافظ وزملاؤه یعدون من معاصري جیل الستینات التجریبي دون ان ینتموا بالضرورة الى الاتجاه الستیني التجریبي، وهم ایضا استطاعوا ان یتواصلوا عبر الاجیال ومنحهم ذلك حریة الحركة والتطور، ولهذا كانت تجربة یاسین طه حافظ ربما التي بدأت منذ كان طالباً في الثانویة وبعد ذلك في الجامعة، بدأت ربما في هذه القصیدة التي نشرها اما في 1960 او 1961 فهي البدایة ولكن تواصلت هذه التجربة في العدید من الدواوین والمجموعات الشعریة التي اغنى بها مكتبتنا .
اصبح یاسین طه حافظ بحق صوتاً مهماً لا یمكن تجاوزه في الثقافة العراقیة وفي الشعریة العراقیة، وكان لي الشرف في ان ألاحق تجربته في كتابي النقدي (شعریة الحداثة: من بنیة التماسك الى فضاء التشظي)، وهنالك دراسة جدیدة لي عنه في كتابي النقدي القادم (رهانات شعراء الحداثة) تتناول تجاربه الشعریة المتأخرة.
یاسین طه حافظ، یمتلك تجربة متمیزة عن اقرانه، فهو لا یوغل في التجرید والتجریب الا نادراً، وبصورة محدودة ولا یتورط بما یسمى تبذیر اللغة لانه یتقن شرط الاقتصاد اللغوي، ولكنه كان یقدم تجربته الخاصة التي ایضا تنتمي بطریقة اخرى الى مشروع الحداثة بمعناه العمیق. فهو على صلة وثیقة بالثقافة العالمیة، وكان یدرك ما هي المفاصل الحقیقیة لعملیات التحدیث، لیس من خلال الانبهار بالصیاغات الشكلانیة الصرف، ومن خلال التجرید الرمزي المستغلق فحسب، وانما من خلال ادراك جوهر الاشیاء التي كان یلتقطها في هذه التجربة الانسانیة والجمالیة او تلك، ولهذا كان یخوض حوارات ابداعیة تخییلیة مع شعراء كبار وكان یترجم لهم ویتعلم منهم ویشاركهم، وكان یرتقي ایضاً الى مصافهم. كان یعمل بهدوء وبصمت ویقول هذه كتاباتي وهذه قصائدي احتكموا لها، انا لا احب الضجیج وامیل الى العزلة.
في دواوینه الشعریة الاخیرة التي درستها في كتابي النقدي القادم عنایة خاصة بمراجعة مسیرته الشعریة والحیاتیة وكأنه یبدو مثل شیخ یرید ان یقدم وصایاه الاخیرة الى ابناء جیله والى الشعراء والادباء. كان یبدو مثل رجل حكیم، یقدم اخر ما توصل الیه من استنتاجات وحكم وخلاصات في الحیاة والشعر، وربما منها مراجعته لمفهوم الحداثة بعد اعادة قراءة هذا الموروث الشرقي الباهر حیث شعر اننا قد اوغلنا اكثر مما ینبغي مندفعین نحو كنوز الحداثة ناسین هذه الكنوز الحقیقیة التي تقدمها لنا هذه الرؤیة الشرقیة العمیقة، فراح ینهل منها ویتعامل معها بروح خلاقة مستلهماً، بشكل خاص، جوانبها الروحیة والجمالیة والصوفیة، في عملیة مزاوجة واستلهام لهذا الارث الكبیر، فقدم لنا مجموعة من الدواوین والتجارب التي بدأها بدیوان (فاطمة) الذي قدم فیها رؤیة صوفیة حداثیة تختلف عن الرؤیا الصوفیة التقلیدیة، لان تجربة الشاعر الحداثي العراقي وكذلك العربي، ومنها تجربة الشاعر یاسین طه حافظ، لم تكن تجربة صوفیة خالصة وانما هي تجربة جمالیة اذا جاز التعبیر.
وتقترب تجربة الشاعر ياسين طه حافظ في دیوان (فاطمة) من تجربة الشاعر عبد الوهاب البیاتي في دیوان (بستان عائشة) وبشكل خاص في تمثل الرؤیة الصوفیة في الشعر والتي كانت تهدف الى محاولة كسر المألوف والوصول الى فضاءات لا مرئیة، تلك الفضاءات التي لا یمكن الامساك بها بسهولة. وهذا ما حاول أيضا ان یحققه الشاعر في دیوانه هذا، فهو عندما كان یحلق في فضاءات روحیة ومیتافیزیقیة كان یعود ثانیة الى قاع الواقع والارض في نماذج حیة فیها الكثیر من الحزن والالم والشجن، وفیها هذا التماس مع الیومي، مع معاناة الانسان وحیاة الفرد العراقي. كان الشاعر یبتعد في دواوینه الاخیرة عن المباشرة والنزعة الذهنیة والتجریدیة التي لمسنا بعض مظاهرها وتجلیاتها وخاصة في بعض دواوینه السابقة حیث كنا نلمس لوناً من المحاجة الفكریة والایدیولوجیة، ولكنه راح یتكلم لاحقاً من خلال المشهد الشعري، من خلال الصورة وبناء المشهد الدرامي والحركة الداخلیة.
وتتحول القصیدة لدیه أحیاناً الى دیوان شعري متكامل هو عبارة عن قصیدة مطولة، بحضور مجموعة من الوحدات الدرامیة والسردیة والمشاهد والصور المتقاربة التي تشكل بنیة متكاملة حركیة، والقصیدة التي قرأها المبدع الفنان د.میمون الخالدي (وردة النار عبر العصور) في هذه الاحتفالیة كانت رائعة بوصفها دراما شعریة داخلیة ملیئة محتشدة بالاصوات. فلهذا نجد ان الشاعر یمتلك القدرة على إقامة مثل هذه العوالم، و كما اشرت سابقاً كان الشاعر یعمد الى تشكیل عوالمه من وحدات بصریة اذا جاز التعبیر وسمعیة وكان مفتوناً الى درجة كبیرة بقصیدة التفعیلة السیابیة والتي تدفعه أحیاناً الى لون من الالتزام بقافیة موحدة ببعض النماذج، ولكن تشعر بانه كان یمتلك الحریة في الخروج وفي العودة واحیانا في اللعب باللغة والكلمات وفي الصور والمفردات بحیث انك تشعر انه سید الكلام وسید الشعر وهو سید الكلمة أیضاً.
تجربة الزمیل الشاعر یاسین طه حافظ تجربة خصبة تحتاج الى قراءات متعددة على مستوى ثقافي وبنیوي وعروضي وتناصي وهو یحتاج الى دراسات خاصة لانه ترك فضاءات كثیرة وترك ایضا فجوات بحاجة الى ان تمتلئ بهذه الكشوفات الداخلیة التي یخبئها لنا الشاعر مثل لؤلؤة عراقیة مدفونة تحت الرمل، ولكنها في النهایة تتوهج لتعلن عن شعریة حقیقیة، شعریة عراقیة نفخر بها.