وأنا أتجول في زخات الذاكرة المطرية الطويلة للشاعر يحيى عبد، وجدته يَحضَر بوجهه الحقيقي وسط حفلة تنكرية لهذا العالم الممتليء بالقيح والدمامل، مما زاد نصوصه في أن تبقى ناهدة أمام الزمن وعثراته وأمراضه. في أغلب ثيمات نصوص يحيى نراه يعتمد المنطق بشطريه (الاستقرائي والصوري). المنطق الاستقرائي هو أنّ الذهب يذوب في النار ويعاد سبكه وأما لماذا يذوب، لأنه متكون من المادة الفلانية والفلانية القابلة للانصهار ولهذا عرفتُ كيف يذوب. وهذا ما يسمى استقراء لحيثيات الموضوعة التي يُراد تناولها لغرض ما كما فعلها الشاعر يحيى في ديوانه هذا المتشعّب في أكثر من معنىً ومفصَلٍ وسبر أغوار حيثيات مادته في كل نصٍ وشطر وكل توقفات الضرورة بين بيوتات القصيد. أما المنطق الصوري هو كأن تقول واحداً زائدَ واحداً يساوي إثنين، أو هو أنني لو رأيت صديقي السكير يدخل باراً فيلوح لي مباشرة من أنه سوف يشرب الخمر، ومن المستحيل أن أفكر من أنه سوف يشرب القهوة فمدمن البار معروفة نواياه بلا جدال يذكر. لذلك حين نقرأ ليحيى نرى من أنه شاعر النوايا والمقاصد المباشرة والهائلة والتي ينتابنا من خلالها شعور يتغلغل في العقل النيّر من أنه شاعرٌ يفيض بالعلى والسمو اللذان أخذهما من نخيل مدينته وماءها وقفارها. شاعرٌ معجونٌ بالرومانسية والمباشرة، الولوج في الجمال، التشكيل السطري، ترتيب الكلمات حسب نسَقها على الورق، حذِقٌ ولبق قليلُ الزلق، ابتعد عن الرمزية التي تصيبنا بالغثيان، لقد كان قادراً في أن يجعلك مذهولاً وأنت تقرأ نصوصه بلا مغادرة ولا استراحة. في تضاريس نصوصه قلما نجد طريقا مسدودا أو غير منظور فهو قد حرص أن يجد لك مخرجا ذو معنى تستدل عليه في الوصول الى نهايات غاياته الشعرية والإنسانية وسط عالمٍ نرى به الإنسان يعض على سنين عمره كي يوقف رقّاص الثواني والساعات لتبقيه شابا قويا نظِراً مهما كلّف الأمر من بطشٍ لأخيه الإنسان ، المهم هو البقاء والبقاء من أجل الرغبات التي تحقق وجوده في عالمٍ زائلٍ لا محال لكنه يصر على المضي هروبا حتى في النكوص مثلما فعلها ملك فرنسا لويس السادس في قتل أخيه الورع مدعياً أنه سوف يرسله الى الجنة سريعا فهي أفضل له من البقاء في الحياة العديمة النفع له . هكذا تفكير المجرمين ومبرراتهم السمجة. يحيى قد فضح في ديوانه هذا كل تجار الكلام الكهنوتي وما يطلقونه من أكاذيب يستسيغها الجاهل لكنها لا يمكن أن تمر على أهل العلم والأبستمولوجيا مثلما قالها يوما محرر العبيد إبراهام لنكولن (تستطيع أنْ تخدع كل الناس بعض الوقت، أو بعض الناس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع أنْ تخدع كل الناس كل الوقت). يحيى عبد في ديوانه (مسامير في محطات الذاكرة) وهو موضوع دراستنا هذه وجدته قد غزل مويجات دجلة والفرات كما ظفائر شعر البنات وعطّرَ الطفولة عند دعابات بائع الحلوى التي تعرف بشَعر البنات أيضا. يحيى يزخر ثراءً ونصاعة ووطنية وهو يعطي انطباعاته في (صورٌ عراقية):

لا تتجمعوا هناك أمريكان

انهم بعيدون

وإذا بإطلاقةٍ شرسةٍ منهم

تنبشُ الجدار

ترحل

ويهربُ المضيفون

فهل سمعنا يوما من أنّ المضيّف الذي يأويك في داره ويقدم لك جميلا يهرب من بيته لأنك وقحاً شريراً فيخلو بيته خوفاً منك بل حتى المُستضاف لا يفعلها فهذه هي أعراف البشر وقوانينهم، فكان يحيى هنا في أقصى غايات المخيال الشعري التوظيفي الذي أثار في نفوسنا الانبهار كمتلقّين أو رائيين وقراء. أمريكا وما أدراك ما أمريكا. ذات يوم صحفية تسأل الكاتب البرتغالي الشهير (جوزيه ساراماغوا) عن أمريكا التي يكرهها وهو يمسك كوب الماء، وإذا فجأة وهو يسمع كلمة أمريكا سقط كوب الماء منه فقال، الحمد لله أنه كوب الماء وليس القهوة لأن أمريكا لا تستأهل أن نخسر عليها كوب قهوة. هكذا هم العمالقة وأساليبهم في التهكم الشديد. أضف الى ذلك من النصائح التي يسديها (ميكافيللي) لأميره عند احتلال بلد، عليه أن يدمّر البنى التحتية لهذا البلد كحرق مزارعه وتدمير وسائل إنتاجه لكي يبقى البلد مشلولا لا يستطيع الاعتماد على نفسه وبالتالي لا يمكنه الاستغناء عن محتله، حتى يرضخ تماما ويرضى بتابعيته. لننظر وفق هذا المآل واستكمالا لما قاله الشاعر أعلاه في تيمته أدناه من ذات النص

:البعضُ منهم

يستبيحُ الحرام

إنها تجارةٌ مربحةٌ

في زمن التحرير والممنوعِ

ينتظرون العريفَ بوش

قرب جسرهم الحديدي المعلّقِ

ينسلّ الليلُ

يستلمُ المشروب

فينتهي واجبُ حفظ الأمنِ

وتحريرُ العراق

يقول أحد الكتّاب (إذا كان الغراب دليل قومٍ فحتماً سيهديهم الى دار الخراب). أما سقراط فقال من أنّ الشرقيين بطبيعتهم عبيد. وأما أبن خلدون فقال انّ الطغاة يجلبون الغزاة. مشكلة الأمم هم الطغاة في كل العصور وأول من أطلق مصطلح الطغاة هم الإغريق على الملك (جيجز) الذي أخذ السلطة بالقوة إذ كانت أنداك نوع من الديمقراطية. ولذلك توقف شاعرنا يحيى هنا بصدد الاحتلال والمهزلة التي بدأت بسماسرة الرأسمال الأجنبي وبسخرية بديعة تناول موضوعة الخمر والتعامل معها حين يسكر حماة الوطن نائمين عما يدور حولهم بينما أولئك يحللوا ويحرم واعلى هواهم كي تمتليء جيوبهم بسرقات الوطن فأين هؤلاء من زوجة لينين (كروبسكايا) عندما التقى بها (برنادشو) في قرية غوركي بعد وفاة لينين قائلاً لها أخبريني هل كفل زوجك دخلا طيبا لإعالتك ، فأجابته بدهشة : أن زوجي لم يعيلني في أي يوم فأنا أعمل بنفسي وقال برنادشو مندهشا ولكن كتبُ زوجك تصدر في ملايين النسخ ،ألم يتركها لك فقالت انّ مؤلفات زوجي هي ملك الشعب وليست لي. وقال برنادشو أعتقد أنك تحصلين على معاش، وعندها عرف إنها لاتزال تعمل وتكسب ما يكفي لسد حاجاتها، طوّح بيديه وهو يقول: لا لا لأنني لا أستطيع أن أخبر الناس في بلدي عن ذلك فلن يصدق أي انسان أنّ زوجة لينين تعمل لكي تكسب خبزها (من كتاب الإنسان الجديد في الإتحاد السوفيتي). فهنا الشاعر ووفقا لكل شكواه ومن الروح الشاعرية المتمناة راح يمنّي النفس بوطنٍ يريده هو، فالشاعر يفسّر فقط وما بيده لعبة التغيير، الاّ أنه يدير عينيه حول أمانيه في رائعته (أمنية) التي اتخذت غلاف الديوان الخلفي مستقراً لها.

آه كم هي قاتلة

زخاتُ مطركَ الصيفي

وكم هي ناهدةٌ

سنينكَ الراحلة

فمتى يا وطني

تبتلعُ الصيف

وأين

ومتى

تخترعُ المطر

(إذا أردت ان تكون تافها فما عليك الاّ أن تدير ظهرك لهموم الآخرين.. كارل ماركس)، لا يمكن للشاعر أن يظل في ميدانه رابضا بل من الضرورات القصوى أن ينزل الساحات بسلاحه الوحيد ألا وهو الشعر ونظم القصيد. كما وأنّه من طباع الكاتب أن يكون غير راضيا عن ذاته أو عما يحيط من حوله فمهمة الكاتب هي إعادة ترتيب الأشياء الى نصابها الصحيح (غابرييل غارسيا ماركيز). ولذلك يحيى في هذا النص لا يمكن له أن يتغاضى عما يراه من دمار للوطن في نفوسه وشعاب أراضيه، نراه متمردا لا قنوعا حتى يصيبه دوار اليأس في (جسور الخيبة):

نعبر الجسور الخشبية

التي عبرتنا عقودا

نعبرها

الى حيث العتمة والمنايا

*****

تترائى النهايات ُ

كأحلامِ الكبارِ

بعد انتهاء العبورِ

نص مفعم بالحركة ذو أبعاد اجتماعية هائلة في زمنٍ منكود وبائس. الظلم كما القدر لدى شعوبنا وهم يسعون اليه ويتبركون به مثلما يتبرّك الإبن الهندي بإهانته من قبل والديه، لكن الفرق والديّ الهندي حريصون على ابنهم من الضياع، أما أوطاننا شردتنا وخلّفتنا وأرجعتنا قرونا وقرونا. نعبر الجسور التي هي الأخرى ظلّت على حالها بينما جسور العالم المتحضر كبنى تحتية في أرقى طرازها، نعبرها ظنا منا أننا تجاوزنا الكثير من عجزنا لكننا نعبر فنجد أنفسنا في ضفة الخراب الأخرى وربما أسوأ من الضفة التي خلفناها وراءنا وكإننا كمن يركض وراء الذئاب فحالما نصل اليها تستدير الينا فتنهشنا وتقطعنا إرباً إربا، فنجد نفوسنا محاصرين لا طريق لمخرجنا، ولا أبواب تدخلنا ولو عن طريق الخطأ. ولذلك راح يحيى فيما يقوله لنا بهذا الصدد في النثرية الموسومة (أبواب):

تهرب الأبوابُ

حين نأتي اليها

مكبلين بعقولٍ، قد شاخت

بأكاذيب الأيام الضائعةِ

يحيى في إبداعه الصنائعي يجعلك تطير فوق عش المفاهيم الحقيقية وأنت بفرحك وأتراحك. في كل نص نراه له أصيصا يختلف عن غيره بلونه وشكله ومدى تعلّقه بشموس هدفيته التي يريد إيصالها. شاعر له حديقته الجوارس التي سقاها بمداركه لكنها ذات زمن تعرّضت لأهوال الريح والتي كادت أنْ تنقلها الى عالم الضياع والمتاهة، لكنه المُدرِك جيداً من أنها أكاذيبٌ وسلاسلٌ أكلَ عليها غابرُ الأزمان ورحل، فبقي ذلك الرجل الحريص في أن يكون بعيداً عن ضلالةٍ أو (ضياع):

زرعتُ كل أمتعتي

على رصيف الذاكرة وسافرت

عدتُ

فوجدتُ

الريف قد أصبح محطة

وأمتعتي قطار

فركبتُ من أجلها

هاجرتُ عقدين

وعدت ُ

فلم أجد شيئا

لا قطار لا رصيف لا ذاكرة

الاّ بستانٌ أجرد

البشر لو جمعناه وكسرناه لرأيناه عبارة عن مجموعة من الوشائج الذاكرية التي لا تنتهي. بدون الذاكرة لا يستطيع المرء أن ينقل حديثا واحدا ذو اهمية وفائدة تذكر، الذاكرة هي من تجعلني أرتبط بحبائل لا يمكنها الانفصال الاّ بالفناء، الذاكرة هي جذور الطفولة النزقة التي تؤسس لشخصية المرء، هي تأريخ حقبة زمنية مرّت وانتهت، هي سنّارة النسيان، هي الجاذبية الأرضية التي خطها لنا ووصفها عالم الاجتماع العراقي (على الوردي) والتي على ضوئها وأحد أسبابها الرئيسية يتشكل الحنين(الناستولوجيا) والعودة الملحّة الى الوطن في الاغتراب والابتعاد عن الديار كما في شطر الشاعر (هاجرتُ عقدين وعدت). عاد الشاعر على مضض أو من عدمه فماذا وجد وماذا أباح لنا؟ ربما نوجزها بقليل من الأسى فنقول: ضيعنا حقائب أيامنا وراء هذا الذي يُكنّى مستقبلا وإذا به سراب، وإذا به إنشادٌ يأن (وديارٌ كانت قديماً ديارا/ سترانا كما نراها قفارا.. جورج جرداق ورائعة أم كلثوم). يحيى هنا يريد أن يُصرّح لنا من أنها (الوحشة) الزمكانية أدناه:

تأن العصافيرُ

من وحشة المكان

وتهزأ من كبواتي القاتلة

حتى عصفور البراءة لم يستطع الخلاص من البشر ومن طفولته العبثية فكنا ننصب له المكائد بآلة بسيطة تقذف الحجر، دون أن نعرف أننا نسعى لقتل روحاً يراد لها المضي في الحياة والإمتاع فوق فضاءات الحرية مثلما تفعلها شعوب التحضر في تعاملها مع الحيوان. ومن شدة الم العصفورة تقول: لا تحزن فكل شيء يمضي سدىً، والذي يأتي سدىً، وما في العمر شيء يستحق، وها أنا أغنيتي تستدلٌ بها حجارةٌ، لتصنع موتي، بينما أنا لا استطيعُ الصلاة.

من وسط هذه المتاهات الضليلة والضغط القهري والخسارات المتتالية التي واجهت الشاعر نراه في موقفه الجذِل (الضحك من شدة البكاء) أو الضحك الحقيقي على بؤس حال المرء حينما يرى نفسه قد عاد الى نقطة الصفر المهلكة فاستوطنت لديه وفي عقله الباطن وأصبحت لديه (انطباعات قاسية جداَ):

أراك تبتسمُ

وأنت تنامُ الليلَ

وقوفاً

****

تسمو عالياً

وفي كفكَ رهانٌ

بأنكَ آخرُ

من حطّ على الأرضِ

ذبيحاً

 أول من تطرّق الى النوم وقوفاً هو شكسبير في رائعته (ماكبث) وكيف نرى زوجته التي تخطط بأسلوب شيطاني فتحثهُ على قتل الملك عمّهُ لكي يحصلا على العرش والحياة الهانئة ضناً منها سوف لا يطالها الذبح بل سيتوقف عندها طالما أحكمت القبضة. ومن ثم ما يحصل لها بعد قتل الملك وتتويجها بالعرش من تأنيب ضمير فتضل معذبة طيلة حياتها ومن إحدى عذاباتها هي أنها لا تستطيع النوم من كثرة القلق حتى باتت تمشي وهي نائمة، ثم يأتيها الدور بذبح زوجها وعائلتها وهكذا يستمر مسلسل الذبح فلا آولٌ هناك ولا آخر. هذه الملحمة الشكسبيرية مثّلت الى فلم من إنتاج 2015 تمثيل الشاب الوسيم (ميشيل فاسبنر michael fassbender) والشابة الصاعدة (ماريون كوتيلاردmarion cotillard) وإخراج (جوستين كورزيل Justin kursel). أما الروائي الإيطالي الشهير (ألبرت ومورافيا) فصور لنا ذلك في قصته الرائعة عن الزوجة التي تقتل زوجها وهي تمشي نائمة، ذلك الزوج الذي زرع في قلبها الحقد والانتقام من جراء خياناته المتعددة لها فذاقت ذرعا منه. أما لدى يحيى فهو التعاكس بعينه وسط وطنٍ باتت كل الحقائق فيه صعبة للغاية في تفسيرها وإذا ما أردنا التوصل لحلول ماثلة في الأفق ترانا قد ابتعدنا وهذه الدوامة تجعل المرء مصابا بمسٍ من التشوّش العقلي والفكري وكثرة (التضاد):

 يتبــــــــع

عرض مقالات: