في ثلاثيته المأساوية: "جزاء مينالي" يسلك ماجد الخطيب درباً يلتقي فيه أقران يعيشون مأساة أبطاله كل يوم في خضم حياة أصبح الدجل والعنف والخداع سمة عصرها بكل ما يعكسه من تراث عبَّر عنه الأدب الألماني بمصطلح Krone und Altar الذي يشير الى مدى ارتباط الكنيسة بالتاج بكل ما حققه هذا الإرتباط من حسابات الربح والخسارة للدين والدولة .
يوظف ماجد الخطيب في هذه"المأساة" اسطورة"الأسطة مانولة" البلقانية القديمة التي تتحدث عن لعنة تلاحق بناء معبد لا يمكن كسرها إلا ببناء فتاة عذراء في أساساته. يزاوج هذه الأسطورة باسطورة "نسر"، معبود حمير في يمن ما قبل الإسلام، ويستخدم عناصر من حكاية "جزاء سنمار"، ليقدم رؤية جديدة معاصرة تتصدى لعنف التحالف بين الدين والبلاط.
الدولة التي يصر ملكُها على إنجاز معبد تمارس فيه الأديان معتقدات أساطيرها، بالرغم مما يبديه، وبخجل احياناً، من عدم قناعته بهذه الأساطير، مع خضوعه لرغبات رواتها الكهنة " : لا تقل لي إن المكان ملعون فعلاً أو أن لعنة تطارد بنائيه .. أنا لا أؤمن بهذه الخرافات كما تعلمون" ، تعكس أعلى درجات الإنتهازية التي ينشأ على أساسها ويتحرك ضمن معطياتها حلف الدين والدولة، وإن كلف هذا الحلف التضحية بالإنسان الذي يدعي الكهنة بأنهم انما لا يريدون من انجاز هذا المعبد سوى توفير أجواء العبادة لتابعي كل الأديان .
تحالف الكهنة الثلاثة مع الملك، أو قل الحلف المعهود بين التاج والكنيسة، لا يرى في حياة عمال البناء المهددة بالسوء بالنظر لعدم استلام اجورهم ولأسباب لا طاقة لهم عليها ولا ذنبا لهم فيها، بل يرى أن انجاز المعبد أهم من هذه الحياة. وما استمرارية هذا الإستهتار بحياة الناس حتى يومنا هذا وطرح السؤال حول تفضيل بناء جامع على إطعام جائع، ومدى توفق ذلك مع معطيات الدين الذي يصفونه رحمة للعالمين.الكهنة يقفون موقف المتفرج الراضي على تلاعب الملك بقوت يوم العاملين، وربط ذلك باستمرار بناء المعبد، بل وانجازه .
وهذا ما يفرز لنا توأمة المؤسستين الدينية والسياسية حيث يتكئ كل منهما على الآخر ليبرر وجوده وليشرعن بذلك كل ما يمكن أن يصب في استمرارية التسلط على العقول، وبالتالي على رسم الطريق الوحيد الإتجاه صوب التجهيل ومن ثم الترديد البعيد عن الوعي .
قوى الشر هذه التي لا يرى فيها الملك حاشيته إلا بعين تحقيق رغباته التي تدعمها مؤسسة الكهنة التي تزعم الرحمة بالإنسان ، مهما قاسى هذا الإنسان في سبيل ذلك، لم يتركها ماجد الخطيب كسيدة للموقف الذي يبدو موحشاً لا رحمة فيه، بل جعل من محور الخير الذي تجسد في حب"اوتارا ، الإبنة العمياء للمعماري المشهور ومهندس البناء المصري " مينالي " ، للبّناء "جور" الذي يعمل تحت إمرة ابيها في بناء المعبد.
قوى الحب، قوى الخير، التي يمثل أحد أطرافها "جور"، الذي لم ير في قطع أجره عن عمله سوى وقت لترسيخ حب يزداد صلابة لحبيبته " اوتارا " ، يكاد يكون أكثر ثباتاً من البناء الملعون هذا الذي يقف في طريق تحقيق ما يريده العاشقان " : أريد نيل أجري يا حبيبتي . أعمل هنا منذ أكثر من سنة ولم أتلق الأجر الذي وعد به الملك . فقط بهذا المال نستطيع أن نبني مستقبلنا " يخاطب جور حبيبته بكل حنان ورقة .
وتزداد الأيام طولاً " : وحبي لك يزداد كل يوم يا جور" ترددها " اوتارا " على مسامعه. والكل ينتظر المعجزة التي ستؤول إلى ثبات هذا المعبد اللعين الذي تأبى جدرانه على الصمود ولا مَن يعرف سبب ذلك، حتى المعماري المتمرس " مينالي " استعصى عليه تفسير ذلك علمياً لفترة طويلة قبل أن يكتشف، بعلمه ودرايته بالبناء، ان الأرض التي يجري عليها بناء جدران المعبد كثيرة الغرف الهوائية ، ولابد من تجاوز ذلك باختيار مكان جديد لبناء سور المعبد " : اعتقد يا جلالة الملك أن البناء سيصمد في المكان الجديد اذا تجاوزنا لعنة الغرف الهوائية تحت الأرض" ، قالها " مينالي " في حضرة الملك الجالس على العرش يحرسه المدججون بالسلاح من خلفه .
يبدو ان الملك غير مقتنع تماماً باطروحة "مينالي" العلمية .: " لكن لا ضمانات أكيدة على ذلك يا "مينالي"، " يبدو أن لعنة نسر تلاحق البناء"، وجود التمثال في أطلال المعبد القديم يثبت وجود اللعنة ...... هذه قناعة ممثلي الاديان " . يرد الملك على اطروحة "مينالي " . فيجيبه " مينالي " بالقول : " على حد علمي، جلالة الملك لا يؤمن بالاساطير ......" يرد عليه المهندس المعماري الخبير، ويواصل رده :" اعذرني يا جلالة الملك، ولكنني مهندس وعالِم ومن الصعب عليَّ تصديق مثل هذه الأساطير، " يجيب "مينالي" على شكوك الملك مؤكداً ، قناعته بتفسيره العلمي لعدم صمود البناء فيما سبق وإصراره على تلافي هذا السقوط هذه المرة : " لن أتدخل في طقوسكم ، رغم اعتقادي بان البناء سيصمد هذه المرة بفضل العلم لا بفضل القرابين " يؤكد "مينالي" قناعته العلمية بما يقول .
الكهنة الذين يصغون إلى هذا الحديث بين الملك و "ميلاني " المهندس العالم بأسرار البناء، يقفون حيارى أمام موافقة الملك على البناء في الموضع الجديد ، البناء المستند على معطيات العلم .
وبعد أن ينصرف "مينالي" حاصلاً على موافقة الملك على البناء في الموضع الجديد ، ينبري الكهنة الثلاثة الذين لم ينطقوا بأي اعتراض على اطروحة ميلاني أثناء وجوده ، شأنهم شأن أي جاهل بالعلم لا يقوى على فتح فمه أمام العالِم ، ليحذروا الملك من مواصلة البناء دون تقديم ضحية إلى "نسر " ليكف لعنته عليهم ومن ثم على معبدهم . "جلالة الملك لن تصمد الجدران في الموضع الجديد دون أضحية " يصيح الكاهن الأول أمام الملك . " الوقت ليس في صالحنا " يؤيده بذلك الكاهن الثاني .: " العمال يهددون بالإضراب ، لابد من كسر هذه اللعنة الوثنية "، يؤيدهما الكاهن الثالث .
موقف الكهنة هذا أمام الملك بعد غياب "مينالي " عن المجلس يجسد بعض ألاعيب السياسة التي يجسدها الملك على أبشع صورها الإنتهازية حينما لا يتردد، بعد لحظات من تظاهره بالموافقة على ما توصل له العلم من خطوات لتلافي انهيار البناء قائلاً للكهنة : " المسألة في غاية البساطة، ادفنوا القربان في الجدران ودعوه يعتقد ان البناء لم ينهدم بسبب تقديراته العلمية ، جدوا طريقة لتنفيذ الأمر بسرية كاملة " امر الملك كهنته الثلاثة . ثم أكد لهم ما يعنيه قبل انصرافهم عنه بخشوع لتنفيذ ما أمر به " هيا ، قضية بناء المعبد قضيتكم ، لا تخيبوا ظني " .
وهنا يتجلى الصراع على حقيقته بين العلم والجهل ليعكس الصراع الأبدي بين الخير هنا ممثلاً بالحب بين "جور واوتارا " فاقدة البصر، وليس البصيرة التي ترشدها الى أن حبها هذا " اكثر ثباتاً من هذا البناء " ، والشر ممثلاً بروح القتل للإنسان من خلال تقديمه كضحية يؤمن بها كهنة المعابد على أنها المنقذ من واقع اليم لا يفقهون سر ألمه .
الصراع بين الخير والشر شكَل الموضوعة الأساسية للصراع مع الأديان واطروحاتها التي ناقضها العلم ببراهينه والفلسفة بمعطياتها التساؤلية التي لا تثبت على الحقيقة المطلقة التي تتبناها الأديان على اختلاف توجهاتها ومرجعياتها . حتى ان الفيلسوف اليوناني ابيقور 341 ـ 270 ق.م اعتبر مقياس الخير والشر بمدى تحقق السعادة والألم في كل منهما حينما تكون السعادة مرافقة للخير والألم مرافقا للشر.
وما الشر الذي يخطط له الكهنة الثلاثة بالتفتيش عن شخصية الضحية المراد نحرها على أسس اسوار المعبد إلا تعبيراً عن ذلك الجنون العقائدي بامتلاك الحقيقة المطلقة التي يصر الكهنة على تحققها في فكرة اللعنة المرافقة لموقع البناء والتي لا تزول إلا بما يؤمنون به من تضحية فداء بشرية، ومن الأفضل أن تكون فتاة شابة تشبع هواجس حيوانيتهم التي يعكسونها على شبح المجهول الذي وضع اللعنة المزعومة على بناء جدران المعبد ، فجعلها لا تصمد أمام البناء مهما كان هذا البناء متيناً .
هاجس الكهنة ومشكلتهم، التي ظلت تهد مضاجعهم، أصبحت موضوع تساؤلاتهم عن ماهية الفتاة الضحية، بعد أن حصلوا على موافقة الملك الرافض للأساطير كما يزعم : " ماذا نفعل ؟ كيف نختار الفتاة المناسبة ؟ لا أحد يرتضي أن تبنى ابنته في حجر الأساس قرباناً لمعبد ( كل الأديان ) بالطبع " يستفسر الكاهن الأول من رفيقيه . : " يمكننا تكليف الجنود بخطف فتاة من بنات العمال في القرية القريبة. لكن لا ينبغي أن يعرف أحد بالأمر ... ولا حتى الجنود " ، يقترح الكاهن الثاني على زميليه . يا لها من فكرة نراها حتى اليوم تتجلى في مفاهيم من وضعوا أنفسهم وكلاء على الدين، يفتون بما يروق لهم من الجريمة التي يحققون من خلالها ما يدور بعقولهم من جهل وغباء.
" لدي اقتراح أفضل " يبادر الكاهن الثالث لينقذ زميليه من عناء التفكير بهذا الأمر، ايجاد الفتاة المناسبة لنحرها على حجر أساس المعبد ودفنها هناك ارضاءً لـ " نسر ". : " أن تكون أول فتاة تصل ‘لى موقع العمل عند الغروب هي القربان " يُكمل الكاهن الثالث حديثه موضحاً ما اقترحه .
لقد أراد ماجد الخطيب ان يكشف لنا عن مدى الخُبث الذي يعشعش في عقول رواد الجريمة الكهنوتية، وهم يعلمون تماماً أن " اوتارا " هي التي ستكون أول من يصل إلى موقع العمل للقاء حبيبها بعد فراغه من عمله مباشرة : " نعرف جيداً انها ستكون " اوتارا " هي مَن يصل للقاء حبيبها "جور" ، يؤكد ذلك الكاهن الأول .
إلا أن شر الكهنة لم يتوقف عند ذبح " اوتارا " على حجر أساس المعبد، بل أرادوا التخلص من حبيبها "جور" ايضاً .: " علينا أن نبعد "جور" على وجه الخصوص عن موقع العمل عند المغيب " ، يقترح الكاهن الثاني على زميليه اللذين لا يمانعان ذلك ، بل ويضع الكاهن الثالث خطة احتياطية أخرى للتخلص من جور ، : " نطلب من الملك قطع رأسه أو ارساله إلى السجن بسبب تحريضه العمال على الإضراب " . ولِم لا ما دام التاج في خدمة المعبد والمعبد في خدمة التاج لتحقيق أهداف كليهما في استمرارية التسلط والتحكم برقاب الناس .
وتستمر مداولات ومؤامرات التاج والمعبد لوضع الخطط الكفيلة بالتخلص من الثلاثة " مينالي وابنته العمياء اوتارا مع حبيبها "جور" الذين يقفون حجر عثرة أمام نحر الضحية كقربان لثبات جدران المعبد الذي سيتعمد فيه المصلون بدم أراده الدين أن يكون بشرياً مهما كلف الأمر ، وأراده التاج أن يتحقق للكهنة ما يسعون إليه، حتى وان أبدى الملك عدم قناعته بأساطير الدين ، إلا ان الإحتفاظ بالتاج ، حتى وإن كان ثمنه التجارة بالدين، أهم بكثير من حياة عامل فقير أو فتاة عمياء أو حتى مهندس معماري مشهور .
لم يشأ ماجد الخطيب أن يترك الشر منتصراً، بعد ما حقق الحلف بين التاج والمحراب ما خطط له الإثنان ونفذاه بنجاح ، دون أن يجعل لصوت الحق موقعاً يهدر فيه في هذا البحر المزبد بامواج الغدر والكذب والجهل والدجل. لقد جعل الخطيب من مأساة "مينالي " بفقد ابنته العاشقة العمياء ذبيحة المعبد، صدى لثورة البؤساء تجلت من خلال هتاف "ميلاني " بعد أن اصابه الوهن بفقد ابنته حينما وقف هاتفاً أمام جلاديه : " كلكم مجرمون ... كلكم مجرمون، ملك يدّعي العدل، وكهنة يدّعون الإيمان، وبناؤون يدّعون العلم ... ولكنكم سفلة منحطون يضحون بالبشر بسبب خرافات ... لا قلوب تنبض في أجسادكم ... لا خير يقيم في عقولكم ... لا دماء في عروقكم غير دماء ضحاياكم ."
وأخيراً .... وعلى أشلاء الضحايا تم بناء المعبد الذي: " سيتحول إلى مزار للمؤمنين من كافة الأديان يقدمون له القرابين والأضاحي على مدار السنة "، قالها الكاهن الثالث، وهنا بيت القصيد الذي يتردد على أسماعنا حتى يومنا هذا الذي تحولت فيه الضحايا والقرابين إلى قصور فارهة وأموال طائلة لتجار الدين الذين مسكوا عصا السياسة والدين في آن واحد ليحققوا الحلف الشيطاني بين الإثنين . إذ ان الأمر سيُدار بسهولة أكثر لو أصبح بيد واحدة لا منافس لها .
ربما تحاورنا كثيراً، وفسرنا كثيراً ماهية هذا العالَم الذي يقود مآسيه الفقهاء على حساب الضعفاء، والجهلة على حساب أهل العلم، وقوى الشر تجتمع لتغتال قوى الخير، إلاأاننا لم نتدبر بعد بشكل يوحي إلى العمل بما قاله كارل ماركس (1818 ـ 1883) : " الفلاسفة فسروا العالَم بأشكال مختلفة ، الآن حان الوقت لتغييره. "