تشتغل قراءتي المنتجة على تعديد السرد:

* وجيز السرد

* السرد المنشطر

* السرد السياحي

* السرد المؤجل

* السرد المخبوء

"*"

تتكون الرواية من 341 صفحة، لكن وجيز السرد، لا يكلّف الشخصية المحورية، سوى هذه القصة القصيرة جدا: "وقد أكتب قصتي في ثلاث جمل.. أمي ماتت، ووجهي تشوّه بشكل كبير، وأبي يريد الزواج من امرأة أخرى".

"*"

يكاد السرد السياحي لمعالم الغرب: أمريكا - لندن، يؤثر نوع ما، على سيرورة التروية، لكن الرواية تجعله خفيف الظل من خلال شحنة السخرية العراقية اللذيذة. وتتخلص الرواية في أول مائة صفحة منها من حركتها السلحفاتية، وتستعير قدمين من عدائيّ سباق المسافات القصيرة.

"*"

يستوقف قراءتي المنتجة: السرد المخبوء/ المؤجل

"1" ما جرى لهاني حين ذهب إلى بيت طارق لجلب المنشار، حيث راودت هاني عن نفسها امرأة "تختصر الزمن في نصف ساعة فقط أقمت وعشت فيها حياة ً كاملة قبل أن أصحو لأجدني أنني ما زلت في مكاني، ولم يمض ِ علي سوى نصف ساعة فقط"، وسأنضّد ما جرى سردا سريا وبشهادة هاني نفسه "خفت أن أسأل أحدا  عنها حتى صديقي طارق نفسه.."، وستتكرر تجربتها مع هاني مرة ثانية بعد أسبوع ولكن من تكون هذه الزهرة الوحشية التي "تنتظر عشاءها أن يأتي إليها، لا أن تذهب هي إليه".

"2" الذي يعلنه هاني في "لم يظن أبي أن النار التي شبت، وكادت تلتهمه أيضا، ستجعله يسافر إلى الولايات المتحدة حيث يجب أن أتلقى أنا العلاج، ولم يشرح لنا أبي، الذي اقتربت النار من كتفه وأصابعه، كيف وجدناه بحالة جيدة من رأسه..... وكيف استطاع انتشالي من لهيب النار دون أن يصاب بجروح بليغة"، ثم سيقوم هاني نفسه بتفكيك هذه السفرة، بقوله:"يبدو أن الألم الذي خمد وتشرذم بفعل الأهوال التي مر بها، وقد استفاق وتيقظ بمجرد أن وصلنا إلى المستشفى التي سأباشر فيها جراحات الوجه وتجميله من الحروق، إذ شعر لحظتئذٍ، وللمرة الأولى، بألم في قدميه، واكتشف أن تلك الحادثة قد نالت منه أيضا، دون أن يشعر وقتها بأي عرض من أعراض الإصابة".

"*"

ما تقوم به الفتاة الأمريكية ريتا هو مسرحة حياة هاني وتنصيصها في شريط سينمي أنه سرد أمريكي لحياة شاب عراقي وسيم، تسببت القوات الأمريكية "سهوا" بتدمير حياته وحياة عائلته، ثم حاولت القوات ذاتها معالجته من جريمتها.. وبشهادة هاني "لقد اقتضى دوري في هذا الفلم أن أغني.. وأن تعلق ريتا قائلة إن هاني أمضى ثلاثة أسابيع في تدريب متواصل على أغنية راب عربية ترافق رقصة جارتها الأمريكية". إذن هي محاولة فنية لسرد نسخة أمريكية من هاني العراقي.

 "*"

في الصفحات الأخرى يتخذ السرد جهوية جديدة وهي التخييل السردي، فهنا تنقطع بالقوة  أمالي العين عن سرديتها، إذ تقصيه المخيلة إقصاءً شبه مطلق، فالميداني محض فلتر للمتخيل: "كنت أراها عندما أغمض عيني.. والآن أصبحت أراها كل وقت مع باقي أهلها وأخوتها".. هذا ما يخبرنا به هاني، عن بيت جانو، الذي أصبح شاغرا، بعد سفر العائلة بالتدريج إلى خارج العراق.. أما مصدر تشغيل مخيلة هاني فيتم عبر تراسل مرآوي مع الفاصل بين الداخل والخارج وبشهادته "النوافذ هي طريقي لاسترجاع الحياة خلفها، أو تخيّل ما كان يحدث هناك". ثم يرسل هاني الى القارئ شاهدا عدلا، لتعزيز سرد مخيلته فهو يرى الشرشف يتحرك! ويبرر ذلك.. "لا يوجد في هذه الدنيا فراغ يمكنني الركون إليه.. كل شيء يتغير ويتحول إلى شيء آخر، وما يوجد من الفراغ تحول إلى مقطع عريض من الصور والأصوات".

وهذا يعني أن الفراغ شاشة للعرض السينمي السري والخاص بهاني  وحده. ولا تتأطر المخيلة بفضاء البيت وحده، فهي تقنص البراني المجاور وتدحسه في الفضاء المغلق للبيت الفارغ من الأنفاس.. "بل إن رائحة الشاي التي تأتي من الجيران، جعلتني أرى البخار، وكأنه يتصاعد من وراء باب المطبخ، ومن خلاله رأيت بطرف عيني تقريبا ً هديل تهز رأسها وتثرثر فوق السلم".

"*"

هاني الذي بوظيفة سارد ضمني يسهم في تصنيع الحدث الروائي، وتلفيق سرد متخيل.بل ينافس السارد العليم في معرفة بواطن الأمور، كما هو الحال في فصل "آدم في الخيال" فهو يخترق اللاوعي لدى جانو ويعلن للقارئ الحقيقي "استطعت أن أقرأ أفكارها، وهي ممددة على الأريكة وتحلم حلما". فيخبرنا أنها وهي في لندن لنيل الماجستير، ستلتقي مصادفة بشاب وسيم أرادها أن تعيش قصة حب جديدة..  ثم يخبرنا هاني أنه هناك وهنا في الوقت نفسه.. "كنت أنا هناك أنظر إلى حلمها من بين القضبان التي لجمت نظري، تزحزحتُ من مكاني، وسخرتُ سمعي وحواسي". وبشهادة هاني نفسه: لا يوجد قطع حاد بين الهنا والهناك بين اليقظة الواعية لتحركاتها، وبين سعة المخيال.. "لحظة حلم تليها لحظة صحو..وشريط حلمها أثناء نومها يتناثر كالقصاصات أمام عيني، عاد والتصقت أجزاؤه مرة أخرى" ثم ينتقل السارد هاني إلى التواتر السردي "تشييد ذهني يتحقق عبر إزالة الميزات الخاصة لكل واقعة مع الاحتفاظ فقط بتلك الميزات التي تشترك فيها الواقعة مع الوقائع المشابهة لها/  شلوميت ريمون كنعان" والتواتر السردي أن هاني يحيل القارئ إلى جزيرة أم الخنازير، من خلال السفرة الجامعية في رواية ميسلون هادي" العيون السود".. وفي الجزيرة نفسها تدور" المركب".

"*"

الساردة جانو ينشطر سردها بمزاج الجغرافي، يتجسد ذلك مثلا في فصل" ما الذي جاء بنا إلى هنا. فالفصل يبدأ في بغداد وهديل شقيقة جانو منشغلة بتنظيف البيت أثناء ذلك يجيء هاني ليستلم منها معلومات من أجل استمارة سفرها إلى لندن، ثم تخبره جانو أنها قررت توديع بغداد من خلال جولة في الباص، لتنتقل في الصفحة نفسها إلى لندن وعمتها التي تصر على الصعود إلى الطابق الثاني من أجل التدخين، وفي الفصل التالي  "أبواب ومصابيح لندن" ستصعد جانو زعلانة إلى الطابق الثاني في بيتها أثناء وجودها في بغداد، جراء زعل حبايب بينهما: هي وخطيبها علي. نلاحظ أن السرد يواصل انشطاره المتواصل. ثم يعود السرد إلى زمن وجود جانو مع عمتها فريدة في لندن وهما في الباص، لكن حين تنزل من الباص لا تجد نفسها وبشهادتها.. "نزلتُ من الطابق الثاني للباص في لندن.. ولم أجدها هناك.. شعرت بأنني قد تركت نفسي تجلس في الطابق الثاني للبيت أو الباص الأحمر"، وكما انشطر السرد مكانيا بين لندن وبغداد.. سينشطر سرديا بين سردية بصوت جانو والتي اقتبسناها للتو وقوسناها. وبين سارد حيادي يلتصق جوار سرد جانو.. وهذا المقبوس التالي منه.. "حاولت ْتلك النفس فتح الشباك، ولم تستطع. شعرتْ بأنها يجب أن تخرج من هذا المكان.. سمعت ْ صوت القطار.. رأت أمها زعلانة عليها.. رأت علياً زعلاناً عليها.. رأت الكل زعلانين عليها.. إنها تتعذب كلما صعدت الطابق الثاني، لأنها تتذكر كل شيء في الطابق الثاني.. وترى الجميع واقفين في كل محطة. متأكدة أنها تراهم.. ولا تدري كيف يحدث ذلك. رؤية جانو الغائبين، تتجاور مع رؤية هاني لجانو وعائلتها ويتأمل الغرف من خلال وقوفه في الحديقة وتحديقه بزجاج النافذة.. ثم ينقطع بث هذا السرد بضمير الشخص الثالث ويعود إلى صوت جانو مباشرة.. "الرحلة كانت طويلة جدا بين لندن ومدينة يورك البريطانية..قطعت عليّ أفكاري عمتي فريدة".

"*"

في فصل "قصائد هاني" السارد هو هاني، يتذرع ليوصلها إلى المطار ثم ينتقل السرد من لسان هاني إلى سارد عليم بالشخوص ذاتها.

فحين تسأله جانو بكيدٍ لذيذٍ "هل معك منديل يا هاني ؟ " فهي أولا طلبت منه ما يخصه: "منديل" وللمنديل تاريخه الغرامي منذ "عطيل" حتى أغنية المطرب المصري ماهر العطار التي شاعت في الستينات "أفرش منديلك ع الرملة".. وما أكتفت جانو بذلك بل نادته باسمه وللمنادة/ مناجاة: لذة البوح بالمكنون .هنا يقتحم المشهد السارد العليم.. أعني حين تخاطبه جانو "هل معك منديل ياهاني؟".. هنا يتم تفكيك الشفرة على يد السارد العليم.. "بهذه الجملة توقف الزمن على أجمل نداء ممكن" وما بين القوسين تليق بكاتبين لا ثالث لهما: مصطفى لطفي المنفلوطي و جبران خليل جبران. لكن يبدو أن هاني وبشهادة السارد العليم بالشخوص ذاتها.. "لم يكن هاني يرغب في الدنيا بأكثر من ذلك النداء، أو ذلك الاحتفاء".

 والسارد العليم يبالغ في الفعل المسرحي القصدي التي قامت بإدائه الممثلة جانو وبشهادة  السارد العليم هو دور مسرحي مبالغ فيه.. "مسحت دموعها ثم اعادت له المنديل، فغسلت بتلك الإشارة كل شيء سيّئ من حياته.. هزت كيانه.. هزت كيانه كله، وجعلته يسمع، بذلك النداء نبضات قلبها للمرة الأولى" وسيستمر نفس جبران خليل جبران/ المنفلوطي: "اكتفى هاني بهذا الجزء من جانو.. بأن استودعته منديل دموعها على بغداد وعلي حبيبها عليّ، وربما عليه أيضا.. فعاد إلى البيت وهو يشعر بذلك المنديل يكمل أي نقص ممكن في حياته".

"*"

في فصل "يا حبيبي كان زمان" لدينا حزمة سردية بتنويعات وجيزة، في السطر الأول: منولوغ جانو المتنقل من طريق يورك إلى لندن، إلى لحظة عراقية بغدادية حيث جانو تغني لأمها وأمها تطالبها بالمزيد من هذا المساج النفسي .."في طريق العودة من يورك إلى لندن، استعدت ُ وجه أمي التي أصابها الشلل فكنت أواسيها بالغناء: يا حبيبي كان زمان طلعة الورد بأوان.

كانت تقول لي: صوتك جميل يا حبيبتي .. ظلي غني لي.. الغناء مفيد للصحة والعمر الطويل"، مع انتقالها الى المقطع الثاني من الأغنية، ستحدث نقلة زمكانية عراقية أخرى، وتحديدا قبل مغادرتها للعراق، تستعيد مع مقطع الأغنية، حفلة نسوية أقيمت لها بهذا الخصوص وبشهادة جانو نفسها "كنت أعرف أن هذه الحفلة مبالغ فيها من أجل أن أنسى ولا أتذكر.. لم أكن أرقص.. ولا أريد أن أسافر".. ثم في الأسطر الأخيرة من الفصل نفسه، يدخل السارد العليم "تطلعت ْ إلى فترة من الراحة عند عمتها من أجل البقاء عندها شهراً أو أثنين. أما وقد تحولت رحلة الاستجمام إلى سفر طويل، فقد شعرت جنان بأنها سوف تضيع، وكل شيء نحبه سوف يضيع. متأكدة أنها رأت نفسها وليس هنا، مع جمع غفير ممن تعرفهم، ولكن كيف السبيل إلى العودة الى بغداد؟ يجب أن تتصل بأحد ٍ ما هناك. يجب أن تكون هناك طريقة للرجوع".

 أرى هناك نقلتين: الأولى مكانية: من بغداد إلى لندن.أما النقلة الثانية فهي تقنية، إذ ينتقل السرد من ضمير المتكلم، إلى سارد عليم والتقاط هذه التنقلات الجميلة، تشترط على فعل القراءة: امتياز الفطنة.

عرض مقالات: