تاليف: شاكر لعيبي

تقديم: موسى الخميسي

 إذا كان الفن ضروريا بالنسبة للإنسان على المستوى الفردي، فهو بالأحرى ضروريّ على مستوى الأمم والشعوب الإنسانية. فالأمم العظيمة وثقّت سيرتها من خلال فنونها، ذلك أن الأمم والشعوب لا تُقاس قيمتها ولا تأثيرها في هذه الحياة إلا بمقدار رصيدها من الفن بشتى أنواعه وأجناسه. فالفن الذي يسمو ببعض الأمم، إن كان متواجدا ومتميزا بفاعليته وريادته، فان قوته ونضجه ورقيه، تبلغ حد الكمال كما هو الحال مع الفن العراقي القديم الذي لا يضارعه إلا الفن الفرعوني واليوناني والروماني.

إن الفن العراقي القديم نشأ وتطور وازدهر متأثرا بعناصر حضارية رافدينية عريقة خالصة، غَذّته البيئة الخصبة لبلاد ما بين النهرين بمقوماتها، وتعهده العقل العراقي المرهف الحس، وطورته الأحداث السياسية والاجتماعية، وفرضت عليه العقائد الدينية قيودا الْتزمها طوال العصور التي مر بها وحتى سقوط الحضارة البابلية.

ترافق ظهورالفن وانتشاره بمتابعات دراسية بحثية نقدية، من باب أنه مادة إبداعية. أمّا عن إمكانية وجود فن بدون التفكيرالنقدي فهو أمريعكس فقر فكري ومعرفي، فالباحث، كاتب وناقد قبل أن تمكنه ادواته الكتابية من ممارسة نقده بوسائل جمالية معاصرة. فانه في كل الأحوال هو العامل الفعّال، الذي يتحكّم في كل حركة ابداعية في عالم الثقافة والفنون.

في تاريخ الفن القديم والمعاصر لا يمكن لهذه الحركة أن تستمر وتكون نشيطة بخمول البحث النقدي في عالم الجماليات. لا يمكن لأي مشهد ثقافي أن يتطوّر بدون بحوث نقدية منهجية متجددة. إن الباحث الجمالي، يعتبر بمثابة وقود لاستمرارية وتجدد المجتمعات من خلال فنونها.

يمكننا اليوم أن نرى جيدا، بعد أن توضحت الصورة أمامنا، أنه لابحث نقدي جمالي جيد في ظل فقدان حرية البحث وتطوير ادواته المنهجية التي تنسجم مع احتياجات ومتغيرات العصر، إنّها متلازمة لا يمكن تفكيكها، وإنجاحها.

أُعتُبر البحث النقدي الجمالي في عالم الفنون الذي يستند على منهج دراسي، مقياسا لتقييم أي نتاج إبداعي، ومنذ مطلع القرن التّاسع عشر، تم ابتكار النقد المعاصر، الذي تطوّر عابرا مراحل عديدة، وفق المناهج العديدة التي وصلتنا اليوم، وهي وليدة نقاشات جادة تداخلت فيها المضامين الفلسفية التي أسست لحركة النّقد بشكل عام. وهكذا خرجت البحوث النقدية المعاصرة من الجبّة الضيقة التي أُلبِست له، لم يعد يكتفي بتقييم سطحي باعتماد توصيفات بسيطة، استنادا لأوصاف المكتشف الاثاري، اوالكاتب الصحفي او الناقد الادبي، بل يذهب بعيدا في جعل تفاصيله تنطق بالأشياء الخفية فيه. ان العمل في مجال العلوم البحثية النقدية للفنون القديمة والمعاصرة تمّ التقليل من شأنها، وهذا فيه من التناقض ما يكفي لتوجيه أصابع الاتهام للمشتغلين في هذا الحقل.
الشاعر شاكر ألعيبي ، الباحث والناقد في علم الجماليات،استطاع في معظم دراساته النقدية التقيمية الابداعية  في الجماليات ان يضع نفسه  خارج الأسوار العاطفية الوصفية والتقيمية الهشّة التي أصبحت تشكّل سجنا كبيرا للباحث الكاتب الناقد .الذي يقوم بتتويج الأعمال الجيدة، كمكافأة لاجتهاد أصحابها في ابتكار إضافات ذات قيمة متميزة، وهذا هو الموقف الواقعي الوحيد الذي يضعنا في مواجهة عملية ارتقاء مثمرة، .لم يتخلّى شاكر عن وظيفته في عملية النبش في جماليات الفن، بل لازال مستمرا بحيوية ووعود كمحرك نشط، للإبقاء على جوهر الجميل، واتساع جمالياته. لانه يدرك بان ما انجزه الفنان العراقي القديم من اعمال فنية في العمارة والنحت، يثبت لنا، أنه لا تنقصه قوة الملاحظة، أو تعوزه دراسة الطبيعة من حوله.

تحملنا الدراسة القيمة التي قام بها شاكر بأننا بحاجة لإعادة إعمار بنية البحث النقدي، ذلك إن ما ينقصنا فعلا هو حرية القول، وحرية التقييم الإبداعي خارج الأسوار العاطفية الهشّة التي أصبحت تشكّل سجنا كبيرا للكاتب كما للباحث الجمالي الذي يقرأ قراءة نقدية ساعيا إلى التقاط كل جوانب مشروعه، والتّخلص من أي مؤثّر خارجي قد يبعده عن الحقول الدلالية لاظهار عمله بدون شوائب، وأبعادها لأن النقد ينبع من العمل نفسه. وشاكر العيبي صاحب ذخيرة فكرية ومعرفية، وعين متفقدة عارفة، وشجاعة كافية لمواجهة هذا السيل الهادر من السطحية المسيطرة على مشهد البحث الجمالي. لأنه يعتبر عمله بمثابة أداة معرفة مثل الفلسفة، لكن بمعايير وقواعد مختلفة مدعومة بذائقة جمالية فذة، إنه فن البحث عن المعرفة، واكتشاف الغامض مما تخفيه الاحكام والمقاييس السلبية للدراسات الجمالية، بدون التوقف عند حدود رسمها الاخرون، إنه يخترق جوارحنا، ويحرّك تلك البرك الراكدة في داخلنا، لتصحيح مسارنا الحضاري كله. وهو مافعله بدراسته عن " غوديا"حاكم (آنسي) المدينة السومرية لكش (اسمها الحالي تلّو) الذي عاش حوالي 2075 ق.م. وربما معاصرا للملوك الاوئل من سلالة اور الثالثة. وهو من أشهر الممثلين للنهضة السياسية والثقافية للسومرية المحدثة التي تلت سقوط مملكة الاكاديين السامية.

ما بين 3500 و3000 ق.م. نجد في البلاد السفلى لما بين الرافدين ظهور وتطور التجمعات السومرية الحضرية الاولى (المستوطنات)، والتي يوجد على رأسها تجمع اوروك الحضري (الوركاء بلساننا). وهكذا ولدت المدن- الدول، وهي كيانات ذات اكتفاء ذاتي أُسّست على التراتب الاجتماعي المتنوع وعلى تعاون مكوناته وتكاملها. والمدار الاساسي لحياة جماعات المدن-الدول تلك مزدوج: "القصر" و" دار الاله الحافظ او الالهة الحافظة"، او بلغة اخرى "المعبد"؛ والاول مقر السلطان (الحكم) الزماني (اللائكي) والثاني مقر السلطان الديني. بيد انه تجدر الاشارة الى ان ولادة المدينة- الدولة السومرية كانت مصحوبة بحدث اخر ذي مدى استثنائي بالنسبة الى تاريخ الانسانية اللاحق. وفعلا فان اختراع الكتابة ينتمي الى نفس فترة التطور الحضري لتجمع اوروك/الوركاء الحضري: ذلك ان تثبيت الكلمات رسما على حوامل مادية قد كان من أكبر الاختراعات الرائعة واكثرها تأثيرا في نهاية الالفية الرابعة ق.م. ويعود فضل هذا الاكتشاف من دون ادنىى ظل للشك الى سكان الوركاء.

وفي بدايتها كانت طبيعة الكتابة تصويرية بالاساس ثم تطورت في وقت قصير الى نسق متفمصل من العلامات من جنس الكتابة المسمارية، التي كانت جامعة بين الكتابة الرمزية والكتابة المقطعية (حيث من الممكن وصل وحدات المقاطع لتكوين الكلمات)، المنقوشة بأقلام، اتخذت من المعادن او من القصب، على الواح من طين. وهكذا كانت فاتحة عملية مضاعفة: تدوين ونقل نتاجات الفكر عبر وثائق مكتوبة، ومنذ ذلك الوقت البعيد انتقلت الى معارفنا جملة واسعة من المعطيات عن تلك الحضارة الموغلة في القدم.

واما "لكش"، المدينة- الدولة، فقد ازدهرت وتطورت بين 2200 و2100 ق.م. تحت المملكة الثانية التي ابتدات مع الملك "اور-ننجرسو" الاول وانتهت مع "نامّا-آني" والتي كان أكبر ممثلا لها غوديا الذي يعني اسمه في لغتنا 'المنادى' لحكم المدينة، وبطبيعة الحال فان المنادى قد هتف بندائه مناد هو ربه "ننجرسو" الحافظ له، إله مدينة "لكش".

الا ان بلاد ما بين الرافدين قد عرفت، ايضا، فترة مظلمة في تاريخها؛ بفعل الهيمنة القاسية والوحشية للكوتيين، وهم شعوب بربرية نازلة من اعالي الجبال الايرانية والتي احتلت بلاد الوسط الجنوبي لبلاد ما بين الرافدين وظلت محتفظة بالسلطان عليها وبحكمها لمائة سنة؛ وبالرغم من ذلك فان العديد من المدن- الدول السومرية تمكنت من الحفاظ على استقلالها ومن المحتمل ان ذلك قد كان مقابل دفع الجزية للمسيطرين، ومن بين هذه المدن- الدول تتميز دولة لكش التي كان يحكمها غوديا. 

والمعرفة التي حصلت لنا بأهم وأشهر حاكم لها مرتبطة ارتباطا وثيقا بما وصل الينا من الحوامل المكتوبة الشاهدة عن ذاك الماضي البعيد: النقوشات المسمارية بلغة السومريين التي تغطي سطحي الاسطوانتين الشهيرتين ('ا' و 'ب ‘)، او تلك النقوشات المثبتة على تماثيله المهداة وعلى تُميثيلات التاسيس المشخصة، محاكاةً، لصورته واخيرا النقوش المفكوك رقيمها والتي نجدها على العديد من اجزاء متبقية من مسلات.

ومن النقوشات التي تصف لنا نشاطه المعماري- البنائي الاهم نعني، تلك التي احتفظت لنا بحدث، بناء "الانينّو" (المعبد)، بيت الرب "ننجرسو"، علمنا ايضا ان غوديا قد قام بمعهادات تجارية مع كل العالم المعروف آنئذ؛ معاهدات لاستيراد وجلب المواد الاساسية لبناء المعبد ولإنتاج تماثيل الاهداء المجسدة لصورته. ولقد علمنا ان من بلاد ماغان (التي هي عمان اليوم) كانت تأتي السفن محملة بحجر الديوريت [[1]]، المادة التي تنحت منها التماثيل؛ اما من بلدان ملُووَى، جوبي ودِلمون' (والتي هي، حسب الترتيب، بلاد الهند وإيران وجزيرة البحرين) فيستورد منها الخشب الثمين، واساسا الابنوس، والذهب؛ ومن بلاد "عمانو" (التي هي اليوم لبنان) يستورد خشب الارز المستخدم في بناء المعبد (الانينّو)؛ ومن تيدانوم، بلاد الاموريين [[2]]  كان يجلب قطع "الاباسترو" [[3]]. اما النقوشات الكتابية للتمثال 'ب ‘وللاسطوانتين فتوفر لنا المعلومات الاكثر تفصيلا عن هذه الشبكة التجارية الواسعة كما تكشف لنا بصفة أخص عن ان مملكة لكش بقيادة غوديا كانت ذات سلطان على هذه الشبكة.

وايا كان الامر فانه من اليقيني بان مملكة "لكش"، تحت حكمه، كانت تبدو وكأنها قد فرت من الانشطة العسكرية لولا الاشارة الى حرب يوثقها تمثال 'ب' (العمود الخامس ، 64-69) حرب ضد مدينة "عيلام" «ضربت اسلحتها مدينتي "أنشان"  و"عيلام" وجلبت الى "ننجرسو "(الاله) الغنائم وادخلتها الى المعبد" ؛ بينما عاشت مملكة لكش (لاغاش) فترة اتسمت بالسلم والرخاء شاهدة بان غوديا قد ادى واجبه كراعٍ شرعي للبلاد والعباد، بعناية ورعاية فائقتين، مدخلا اصلاحات ادارية ودينية مثلما يصف لنا ذلك هو نفسه سواء في التمثال 'ب' ام في التمثالين 'ه' و 'و'.  

أهمية المنحوتات الممثلة لغوديا مضاعفة؛ ذلك ان اعمال النحث التي تمثله تمكننا سواء من دراسة اصناف الرسم المحاكية او، بعامة، من دارسة فنّ واحد من المراكز السومرية المحدثة الاكثر ازدهارا. وتماثيل غوديا تشكل توليفة سعيدة واصيلة بين التراث النحتي المحلي، المتسم بمقوم الحس الحيوي بالاحجام الملئية والصلبة (نذكر هنا بتمثالي لوباد ونظيره لأور- باو) وبين مجلوب التراث الاكادي؛ وهذا الاخير نجده كثيرا سواء في جزئيات ايكونوغرافية (كتفصيل الفم او حاجبي العينين في شكل بارز على هيئة شوكة السمك) او في الحس الجديد بالضوء حتى وان كان هذا العنصر، على خلاف ما نجده في الاعمال الفنية الاكادية، يستخدم كثيرا في ابراز صقل الاسطح بطريقة تجعله يكاد يكون مضارعا للصقل المعدني. وتبدو هذه التوليفة متجلية ببيان بليغ في المنحوتات الممثلة لشخص غوديا، اذ كانت اساسا لانتاج اعمال نحت اتسمت بعودة ظهور النزعة الهندسية القديمة (نسبة الى الهندسة بالمعنى الرياضي) ، وان تحت نزعة طبيعوية ظاهرة، التي يكعس تجريدها الاساسي، عكسا يكاد يكون شفيفا، البعد الميتافيزيقي (المابعد طبيعي) للعالم الروحي للحاكم السومري: وفعلا فان الكتابات (التدوينات) المتعددة المتعلقة بغوديا توثق لنا بصفة عينية العمق الديني لهذا الرجل او العمق الديني الذي يبدو انه كان عليه؛ ذلك انه جعل نفسه يصور في المنحوتات وفي الاختام على هيئة المصلي او العابد الخادم التقي امام الالهة.

من العسير ان نقبل، كالعادة وفي أكثر الأحايين، بان مرد تلك الاختلافات في ملامح وجه غوديا (والتي ترد هي الاخرى الى تنوع تصنيفي والى ثمرات المعاينات التقنية لاهل الاختصاص) في المنحوتات المتنوعة والمحاكية لصورته الى اعمار الشخصية الممثلة في واحدة من المنحوتات: وهو ما يجعلنا نفترض ان تلك الاعمال انخراط في المعطى الطبيعوي الذي كان مجهولا بالاضافة الى الايكونوغرافيا الشرقية القديمة. ويكفي لإثبات ذلك ان نعتبر ونتأمل حق التأمل والاعتبار تُميثيل غوديا المحتفظ به في مجمّعة (Collection) ٱستوكلى (Stoclet) في بروكسيل: الذي يعزى الى غوديا في شبابه؛ وهو تميثيل ذو مقومات اسلوبية (لباس اقل خشونة ووقع أكثر انفتاحا) تقربه من تمثال" اور-ننجرسو"، وهو ابنه الذي خلفه في ملكه، ومن البديهي ان يكون ذلك التميثيل لاحقا بالإضافة الى تماثيل غوديا المكتهل.

 وايكونوغرافيا غوديا، بغض النظر عن الشكل المذكور قبل قليل والذي نقش على اختام اسطوانية، مكونة اساسا من تماثيل مجسمة تقدم لنا صنفين اساسيين: صنف المؤمن الواقف بيدين مقبوضتين عند الصدر (وهو صنف ايكونوغرافي مشهود بانتمائه الى بلاد ما بين الرافدين منذ القرن 3 ق.م.) وصنف الصورة الممثلة لشخص جالس على كرسي عديم مستند الظهر. وكلا الصنفين مشهود لهما وفق قانون امين ومطابق للنسب الطبيعية ووفق قانون يظهر فيه الرأس وقد نحت بابعاد غير متناسبة مع البدن؛ رأس يتخذ عظما غير متناسب مع سائر البدن.  وتتوزع هذه الايكونوغرافيا على مجموعتين من الاعمال. مجموعة اولى ذات ابعاد تكاد تكون طبيعية، تمثل غوديا واقفا:  تمثلة قطعة من الغرانيت الموجودة في المتحف البريطاني، ينقصها الجزء السفلي، وان كانت الوحيدة التي تحتفظ بالراس؛ ومجموعة ثانية مكونة من خمسة تماثيل من حجارة الديوتريت الصلدة، كلها من دون رأس، والتي هي محفوظة في متحف اللوفر (وهذه التماثيل قد توضع على تسميتها بـ 'ا' ؛ 'ج' او "ذو الكتفين الضيقتين" ، 'ه'  او "ذو الكتفين العريضتين" ؛ 'ز'  او "ذو الكتف المكسر" واخيرا 'ل' ، كسري/ ذو اجزاء؛ ويلحق بهذه التماثيل الخمسة تمثالين اخرين؛ واحد اعيد بناؤه وتشكيله حديثا في متحف اسطنبول ( وان باجزاء من اللوفر ايضا) وثان لدى مجمّعة خاصة. ويحتفظ هذين الاخيرين بالرأس (من صنف الرأس عديم العمامة)، بيد ان الاصالة المشكوك فيها لتمثال المجمعة الخاصة (لنشازه اولانحرافه الكبير، اسلوبا وتصنيفا، عن التماثيل الاخرى) والمكملات الجوهرية لتمثال اسطنبول لا تمكننا من الدراسة الاسلوبية.

اما في التماثيل الاخرى فان البعد المعلمي هو الغالب وكلها جد متشابه، باستثناء التمثال 'ج'، الذي يتميز ببعد أصغر من ناحية البنية (المادية) التراتبية لمكوناته (والتي كانت اصلا في تسميته بـ "ذو الكتفين الضيقتين") وبالحركة الاكثر حرية وطلاقة للباس وهما أمران يضعانه في مكانة خاصة قريبة جد لتمثال بروكسيل ولتمثال "اور- ننجرسو" الذي سبق ذكره. كما نجد تمثالا وسيطا بين المجموعة الاولى من الاعمال النحتية والتُّميْثيلات المشخصة لكودية واقفا ادخلته الى متحف اللوفر مجمّعة "بلات" (Platt) عام 1953، فهذا التمثال بالرغم من كونه قد اخرج بابعاد قابلة للملاحظة (1,05م) فان وجود العمامة التي تغطي الراس تجعله مشاكلا للثميثلات الاصغر حجما منه. ومنحوتة مرمرية صغيرة من مجمعة ٱستوكلى (Stoclet) في بروكسيل وتُميثيل من الستياتيت (حجر صخري المعروف ايضا بالحجر الصابوني ذي الالوان المختلفة) الموجود في مجمعة 'ناي كارلسبارغ' بكوبنهاغن واخرى في مجمعة خاصة تشكل جملتها المجوعة الثانية من المنحوتات ذات الاهمية الايكونوغرافية البالغة (تُميثيل كوبنهاغن يشخص كودية بيده مزهرية/اناء نفيس، اما في تُميثيل بروكسيل فان وضع اليدين مختلف عن وضعهما العادي: اذ اليمنى تمسك بمعصم اليسرى وليس بكفها). وفي هذا الإطار لا نجد بدا من ذكر ملحوظة هامه مؤداها ان تميثيل بروكسيل يتسم من الناحية الاسلوبية بفرقان عياني عن غيره وذلك لكونه أكثر نعومة ولطافة علاوة طلاقة قده تفصيلا وتصويرا.

ويتجلى مثال المعلمية الذي اتبعه غوديا أفضل تجلٍّ في مجموعة التماثيل ذات الاحجام الكبيرة التي تشخصه جالسا، أحدها ويسمى بـ "الفخم" وذلك لفرط عظمه بالاضافة الى الحجم الطبيعي. وجميع هذه التماثيل من حجر الديوريت وكلها من دون رأس وجميعها محفوظ في متحف اللوفر (ما عدا تمثال واحد قد ضاع والذي لا يعرف من غير الصورة الفوتوغرافية التي تشهد بإمكان وجوده)؛ وقد أطلق عليها: 'ب ‘او "المهندس" لكون غوديا يظهر فيها وعلى ركبتيه مخطط تصميمي لبناية؛ 'د' او "الضخم"؛ 'و' او "المهندس بالمسطرة" وذلك لكون هذه الاداة موضوعة على ركبتي غوديا. اما التماثيل المشخصة لغوديا جالسا وفقا لقانون الحجم الصغير فتبدو بشعة ودميمة وذات قيمة فنية بخسة؛ ويوجد منها تمثالين بمتحف اللوفر، أحدهما من دون رأس (التمثال 'ك ‘) والاخر عبارة عن نسخة مكررة عن الاول وله، وتبدو نسخة اصيلة، ادخلت الى المتحف المتروبوليتاني لنيويورك عام 1959؛ وتمثال آخر يوجد بالعراق بالمتحف العراقي في بغداد واخيرا يوجد تمثال اخر في مجمّعة خاصة. ويبدو ان تمثال المتحف العراقي ببغداد قد أُتمّ برأس كان يحتفظ به في فيلادلفيا، كما تقول المصادر الايطالية.

 واخيرا ثمة سلسلة من الرؤوس التي من المحتمل ان تتمّم العديد من التماثيل المذكورة، والتي اغلبها من دون رؤوس. وعلاوة على تمثال فيلادلفيا، المذكور، يوجد آخر في باريس ذو قيمة فنية عالية والذي اعيد نسخه في قطعة موجودة في ولاية "بوسطن" الاميركية، وهو امر لا تخفى غرابته سيما وانه ولا واحد من رؤوس غوديا يشبه الاخر؛ كما انه لدينا خبر عن راس، مبتور، التقطت له صورة في احدى التنقيبات في مدينة نيبور (نفر بالعربية). وكل رؤوس غوديا تلك مغطاة بعمامة صوف متميزة؛ الا انه توجد رؤوس اخرى عديمة العمامة وحليقة تماما: واحد منها يوجد باللوفر، واخر بمتحف 'البرادو' بمدريد وراس ثالث عزاه عالم الاثار الفرنسي اندريه بارّو(ت) الى غوديا (بمتحف اللوفر) وان مع شيء من الشك والتحفظ؛ وبالرغم من كونها رؤوس قابلة للاندراج بيسر في البيئة الفنية لمدينة لكش، التي كان يحكمها غوديا، الا انها لا تتوفر على عناصر كافية تمكننا من عزوها الى ذلك الحاكم للاختلاف العميق الذي يفصلها عن الراس المجمع على اصالته وعلى نسبته اليقينية الى شخصيتنا، الممثلة نحتا، والذي يحتفظ به المتحف البريطاني. كما تجدر الاشارة الى الاجزاء المتعددة لتماثيل اخرى غوديا المحتفظ بها في متحف اللوفر وبعض الكسور الجزئية لرؤوس يبرز في أحدها راس غوديا ممثلا وقد بصر به عن جنب.       

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[[1]]الحجر الصلد الشبيه بالغرانيت وبه شيء من الصقالة وهو حجر ملون وهو من حمم بركانية.

2[1]] قبائل سامية قديمة احتلت فيما بعد بلاد ما بين الرافدين حوالى 2000 ق.م والتي انهت حكم الاور.

[3] وهي الحجارة ذات الطبيعة المزدوجة الكلسية او الجبسية والمتميزة بنيتها بعروق منضدة وملونة. وهو حجر مطواع للمصنوعات لليونته التي تسمح بالرسم كتابة وتشكيلا وتصويرا.

 

عرض مقالات: