في يوم الخميس الخامس من كانون الثاني عام 1961 توقف قلب شاعر العامية المصرية العبقري بيرم التونسي بسبب تداعيات مرض الربو وهو في اوج عطاءه الشعري المتدفق الطافح بالصور الشعرية الرقيقة والقريبة على قلوب الناس وخاصة الشباب العاشقين للحب والحرية ، حيث عاش الشاعر ومات في زمن العمالقة من الشعراء والملحنين والمطربين ومن الادباء والكتّاب والسياسيين وغيرهم ..ان الكثير من الناس عرفت الشاعر بيرم من خلال الاشعار الرومانسية الجميلة التي سطرتها أنامله وغنتها كوكب الشرق السيدة ام كلثوم وعدد أخر من المطربين والمطربات لكن البعض الآخر يجهل كونه رجل موسوعي في كتاباته حيث انه كتب مئات الازجال ومنها قصيدته الثورية والتي اسماها بائع الفجل ..يا بائع الفجل بالمليم واحدةً ..كم للعيال وكم للمجلس البلدي ..! والتي هاجم فيها المجلس البلدي عام 1919 والتي كانت من اهم المؤثرات التي حركت الشارع المصري وجاءت بسبب فرض ضريبة كبيرة على صاحب كل نشاط في الاسكندرية وشملت الشاعر بيرم مما حدى به ان يهاجم المجلس البلدي بزجل معبر صار يتردد على كل لسان..!! فمن هو الشاعر بيرم الذي ذاع صيته خلال حقبة تاريخية عاصفة بالأحداث السياسية وخاصة ثورة 1919..إنه محمود محمد مصطفى بيرم الحريري المولود في 23 آذار عام 1893 في حي السيالة بالاسكندرية في مصر ووالده ايضاً ولد فيها لكن جده لابيه كان تونسيا مولود في تونس ..واشتهر الشاعر بإسم بيرم التونسي ، وكان صديق شبابه المطرب والملحن المعروف سيد درويش الذي ولد وعاش في الاسكندرية وقد ربط الفن بينهما ..حيث لحن سيد درويش عددا من اشعار بيرم ومنها اوبريت شهرزاد الذي سماه شهوزاد في اشارة الى شهوات العائلة الحاكمة لكن الرقابة منعت الاسم وغيرته الى شهرزاد ..!

كان الشاعر بيرم رجل موسوعي في كتاباته كما أشرنا، فقد كتب الازجال والاشعار الغنائية والقصة والرواية والاوبريتات وكان سيناريست لبعض الافلام والمسلسلات..وهو أول من كتب فوازير رمضان ..وكان سريع الكتابة تأتيه الافكار بسرعة ويمكنه ان يكتب أغاني كثيرة لفلم او مسلسل خلال بضع ساعات فقط ! ومن خلال كتاباته قبل الثورة المصرية عام 1952 كان يقاوم بها سلطة مصرية مستبدة في احضان سلطة احتلال انكليزي وكان شجاعا في نقده للملك احمد فؤاد الذي كانت له علاقات متميزة مع الانكليز..وكان بيرم شاعراً شعبيا يكتب شعره ويلمس من خلاله احاسيس الشعب ويعتبر احد اهم المبدعين الكبار الذين نفذوا الى العامية المصرية ..وكتب بيرم روايات واقعية مثل ..السيد ومراتو في مصر ..والسيد ومراتو في باريس ، وهو اعظم من كتب الاغاني وخصوصا تلك التي غنتها السيدة ام كلثوم والتي كانت غالبيتها من الحان اعز اصدقاءه وهو الشيخ زكريا احمد فقد كتب للسيدة كوكب الشرق اكثر من ثلاثين اغنية والتي صارت من أهم الاسباب الرئيسية لشهرته ومعرفة الناس به وخاصة برومانسياته ..كان بيرم شاعراً ثورياً يعبّر في شعره عن جوهر الثورة وكان يتعاطف مع اي ثورة تنشد للتغيير ، فدعم ثورة 1919 والثورة المصرية عام 1952 وغيرهما وكان شعره يصل الى رجل الشارع العادي ويفهمه بشكل جيد والى المثقف الكبير الواعي والى الحاكم والسياسي وحتى للملك..! وهو لا يكتب من أجل الاستهلاك اليومي وانما من أجل تحريض الشعب على نبذ السلبيات والتخلص منها ومن أجل تحرير الوطن..لهذا فقد حصل على لقب فنان الشعب وهذا اللقب لا يعطى لأي أحد دون استحقاق ..حيث انه كان يكتب عن كل حاجة تمس الشعب وعن مشاكل وهموم الناس ، فكتب عن الحب والحرب والاستعمار والنساء والروتين وغيرها وبهذا فأنه صنع وطناً داخل اشعاره وعاش فيه !!.

كان الشاعر بيرم التونسي رجلاً صادقا وشجاعا ، فهم المجتمع بشكل جيد لذلك عبّر عنه بشكل واضح وعميق وكان الزجل سلاحه الذي يحارب فيه، لذلك ضاق الفقر والنفي والحرمان والمعاناة ، وكانت له قدرة كبيرة في التعبير عن معاناة الناس من خلال اشعاره التي قال عنها ..أنه لا يكتب الشعر وإنما هو يتنفسه ! وكان صادقاً فيما قال ..كان بيرم عاشقاً لمصر ...لحاراتها وشوارعها ونيلها وشعبها الذي أحبه كثيرا ، وكان يريد ان يكون الناس في مصر أحسن ناس..حيث أنه جسد ذلك في اشعاره وكتاباته وخاصة في مجلته المسلة والتي كان يكتب فيها اشعار وازجال يهاجم فيها الاستعمار والحكام..وكانت الناس تحفظ كلامه هذا و يتردد في الشوارع ايام الثورة ..ومرة كتب زجلاً ضد الملك احمد فؤاد فغضب عليه الملك ونفاه الى تونس بسبب انه كان يحمل جنسيتها ولا يمكن محاكمته في مصر وزجه بالسجن ..وفي تونس التي لا يعرفها سابقاً ، قام بالبحث عن اقاربه لجده والذين قال عنهم فيما بعد ..أنهم جحدوه وطردوه متصورين انه جاء لانتزاع ميراث ابيه منهم .. فأساؤا معاملته وعاد من هناك سراً الى مصر بسبب لوعة الفراق والحنين اليها ..ثم نفي الى فرنسا ومنها الى الشام وكان يعود سرا الى مصر وخاصة بعد نفيه من الشام مرورا بميناء بورسعيد ..! وفي منفاه الفرنسي عاش في مدينة ليون الصناعية وعمل في مصانع الحديد والصلب حتى أصيب بمرض الربو الذي تسبب في موته أخيراً !

 وفي مارسيليا الفرنسية عمل في عدة اعمال شاقة ومنها عمل عتّالاً في البواخر وكان يحمل الصناديق الثقيلة ويقوم بنقلها ويصفها في الشاحنات،  وكان يقول انه كسب من ذراعه اكثر مما كسبه من قلمه على الرغم من قلته ...! ثم يشير الى القول ..انني نمت على الارض وعلى الثلج في بلاد الغربة ..ولكنه كان لديه ايمان عميق بالعودة الى احضان مصر..وكان في فرنسا ومدنها لا يحصل على الكفاية من الطعام والدواء..وقد جاع فعلاً بحيث انه كان لا يجد له وجبة واحدة في اليوم فكان كثير التفكير بالفرار من المنفى والعودة الى مصر ويعود وينكشف أمره ويتم نفيه مجدداً..لكنه في عام 1940 يعفو عنه الملك فاروق الاول بعد ان طلب منه عدد من محبيه ان يكتب للملك زجل فيه بعض المديح ، فيصدر وزير الداخلية قرارا يتضمن غض النظر عنه اي عدم ملاحقته وبقاءه في مصر ..لكن الشاعر بيرم بقي بعد ذلك يشعر بالذنب الذي لازمه بقية حياته والتي استغلها بعض خصومه في الطعن بشخصه وحياته النضالية في مصر وفرنسا ..وهو ذلك الشاعر الثائر الذي كتب الكثير عن اوجاع الشعب المصري وعبّر ايضا في كتاباته عن هموم واوجاع الشعب التونسي وكأن الهم والوجع واحد والمحتل واحد والمحروم من المساوات والعدالة ومن المال والحرية ومن الصحة والتعليم وغيرها ..هو الشعب المصري هنا والتونسي هناك كما قال .. وبسبب كونه كاتب وشاعر ثوري كان يتم نفيه مرارا..ذلك المنفى البارد القاسي الذي كتب عنه كتاب بإسم مذكرات المنفى ، حيث يستعرض فيه كيفية زجه بمجتمع يعيش ازمة اقتصادية وهو لا يعرف اللغة الفرنسية وليس لديه جواز سفر ولكنه كان يحمل بطاقة زود بها مكتوب داخلها انه ممنوع من العمل وفيها اشارة الى كونه منفي سياسياً لكنه منح حق التحرك داخل فرنسا كيفما يشاء والى اين يذهب ، لذلك كان الناس يخشون من زجه بالعمل .

وعلى الرغم من مكوثه الاجباري في فرنسا الاّ أنه كان يجد اعمالاً شاقة جداً من الناحيتين النفسية والجسدية ومع هذا فقد استغل وجوده فيها بتكثيف مطالعاته لكنه قال عن نفسه ..أنه لم يعرف طعم الضحكة الخارجة من القلب !!وهنا عبّر عن صدق مشاعره وحنينه لمصر وشعبها الذي أحبه بشكل لا يوصف !! كان الشاعر بيرم سيناريست في افلام غنت له فيها السيدة ام كلثوم ومنها سلاّمة ودنانير وفاطمة وفي احدى مراحل حياته حينما عاش في الاسكندرية في شارع فيه مقهى كان يجلس فيها ويعمل ازجال يبيعها خاصة اذا لم يكن لديه نقود !! ومن الاوبريتات التي كتبها بيرم ..بساط الريح التي غناها المطرب والموسيقار الراحل فريد الاطرش وهنا يخص بها الشاعر بلدان الامة العربية ..وكتب اوبريت عزيزة ويونس الغنائي وغيره ولا زالت اشعاره المغناة يتردد صداها على الالسنة ومنها اغنية ..أحبابنا يا عين ما هم معانا .. رحنا وراحوا عنا ولا حد منا اتهنا ..عيني يا عيني ..التي غنتها المطربة الراحلة وردة الجزائرية والتي كانت من الحان الموسيقار فريد الاطرش وأغنية الورد جميل الشهيرة التي لحنها وغناها الموسيقار زكريا احمد وغنتها أم كلثوم وسيد مكاوي الملحن المعروف والتي تقول بعض كلماتها ..الورد جميل ..وله اوراق ..عليها دليل من الاشواق ..إذا أهداه حبيب لحبيب ..يكون معناه وصال قريب ..شوف الزهور واتعلم ..بين الحبايب تتكلم ..، واغنية ..غني لي شوي شوي ..غني لي واخذ عيني ..المغنى حياة الروح ..يسمعها العليل تشفيه ..وتداوي كبد مجروح ..تحتار الاطباء فيه وتخلي ظلام الليل بعيون الحبايب ضي ..غني لي وخذ عيني والتي قام بتلحينها الشيخ زكريا أحمد وغنتها السيدة أم كلثوم بالاضافة الى المطربة سعاد محمد وغيرها..وكتب اغنية محلاها عيشة الفلاح ..مطمن قلبو مرتاح ..يتمرغ على ارض مراح والخيمة الزرقا ساتراه ياه ..ياه المعروفة للأن والتي لحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب وغيرها الكثير .

 وفي نهاية عام 1940 طلبت السيدة ام كلثوم من صديقه الحميم الشيخ زكريا احمد ان تلتقي بالشاعر والمناضل الذي عانى الكثير بعد ان ذاع صيته ..وابتدأ العمل معها بأول اغنية هي ..انا وانت ثم غنت له اغنية ، كل الاحبة اثنين اثنين وانت يا قلبي حبيبك فين ثم اغنية الآهات وتوالت اغاني السيدة من شعر بيرم ..الامل ..حلم ..الورد جميل ..حبيبي يسعد اوقاته ..أهل الهوى ..الحب كدة ...شمس الاصيل التي لحنها الموسيقار رياض محمد السنباطي..وانا بانتظارك خليت التي لحنها الشيخ زكريا أحمد وغنتها أم كلثوم وسيد مكاوي وغيرهما ومن كلماتها ..أنا في انتظارك خليت ..ناري في ضلوعي وحطيت إيدي على خدي وعديت بالثانية غيابك ولا جيت ..يا ريت..يا ريتني عمري ما حبيت ....واغنية الاولة في الغرام التي كتبها الشاعر بيرم لاعز اصدقائه الملحن الشيخ زكريا احمد الذي آثر العزلة بعد وفاة ابنه ..حيث قال في بعض منها ..سافر في يوم ما واعدني ..على الوصال وعاهدني ..وكان وصاله وداع .. من بعد طول امتناع ..حطيت على القلب ايدي وانا بودع وحيدي واقول يا عين اسعفيني وابكي وبالدمع جودي يا عين ومن يوم ما سافر حبيبي وانا بداوي جروحي ،،أثاري من يوم وداعه ..ودعت قلبي وروحي ..طالت علي الليالي وأنت يا روحي إنت..لا قلت فين مكانك ..ولا حترجع لي إمتى !! ..فلما سمعها الشيخ زكريا هذه الكلمات المشبعة بالحزن والألم ..أمسك بالعود وبدأ يشتغل عليه من جديد ويتخلص مما هو فيه من حزن وألم وقام بتلحينها للسيدة أم كلثوم ..ومن الجدير بالذكر ان السيدة ام كلثوم غنت اكثر من ثلاثين اغنية كتبها الشاعر بيرم التونسي ..ومن اغانيه لها ايضا اغنية القلب يعشق كل جميل والتي غنتها ام كلثوم بعد عشر سنوات على وفاته اي في عام 1971 وكانت اغنية دينية تتحدث عن الحب الإلاهي الذي يحسه المؤمن عند زيارته لمكة .. كما غنت له عددا من الاناشيد الوطنية مثل ..صوت السلام التي كانت سببا في حصوله على جائزة من المجلس الاعلى للآداب والفنون.

  وبعد جهد ومعاناة استمرت حوالي 26 سنة من تقديمه لنيل الجنسية المصرية فقد حصل عليها بعد الثورة في عام 1954 ..وفي عام 1960 منحه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وسام الدولة التقديرية لقاء جهوده في الادب والفن وكان هذا اعلى وسام للدولة ....ونشير الى ان الشاعر بيرم ارتبط بالملحن الشيخ زكريا احمد بعلاقة صداقة روحية وتعاون معه بتلحين اشعاره التي تغنيها كوكب الشرق السيدة ام كلثوم ولذلك لما حدثت قطيعة بين زكريا والسيدة عام 1946 لخلافات مادية استمرت لاكثر من عشر سنوات ، أثرت هذه القطيعة على بيرم وانعكست على مستمعيه ..!! لكن حلت فيما بعد وعادوا للعمل سوية وبدون خصام ..وقبل وفاة الشاعر العبقري بيرم التونسي بشهر اي في الاول من كانون الاول عام 1960 كتب قصيدة ..هو صحيح الهوى غلاب وبعدها رحل في الخامس من كانون الثاني عام 1961 ولم يستمع اليها وكانت من الحان صديقه زكريا احمد الذي رحل بعده في يوم الثلاثاء في 14 شباط عام 1961 نتيجة حزنه الشديد على وفاته حيث انه لم يستطع حضور جنازته وفي الاربعين رفض ان يشارك في العزاء لنفس السبب اي الحزن الشديد ومات بنفس اليوم ..!!..ولابد للاشارة هنا الى ان الشاعر بيرم كتب ملحمة الظاهر بيبرس للاذاعة وهي ب 188 حلقة وبجزئين ، الاول كان مئة حلقة والثاني كان ب 88 وشاعرنا استمع الى 79 حلقة قبل ان يفارق الحياة ..وبيبرس هذا كان سلطان اسلامي حكم الشام في القرن السابع الهجري وهو رجل نادر لأنه جمع البراعة العسكرية والدهاء السياسي والحنكة الادارية وكانت الملحمة تعبر عن توثيق تاريخي لمرحلة كاملة ..

  ستون عاماً مرت على رحيل الشاعر العربي المتميز بيرم التونسي ولا زالت الاجيال خلال هذه العقود المنصرمة تتغنى بنتاجاته الشعرية والفنية وستستمر ، فعلى الرغم من معاصرته لعمالقة الشعر امثال شاعر النيل حافظ ابراهيم وأمير الشعراء احمد شوقي والشاعر عبد الوهاب محمد والشاعر ابراهيم ناجي والشاعر الموسوعي الفذ احمد رامي وغيرهم الكثير ، لكنه كان بحق عبقري زمانه وصدقت السيدة ام كلثوم حينما قالت عنه ..ان بيرم احسن واحد يعبر عن الرومانسية وقالت عند سماعها خبر وفاته ..انه كان انسان وطني ومن اكثر الناس الذين احبوا مصر ..وقد سمي بيرم بملك الزجل بالاضافة الى القابه الكثيرة حيث قال عنه الشاعر احمد شوقي ..ان الزجل لدى بيرم نوع من انواع العبقرية ..وقال عنه الشاعر الراحل احمد فؤاد نجم ..بيرم نقلة حضارية وثقافية جامدة في حياة العرب وليس فقط في مصر ..ان بيرم يعتبر بحق اعظم من كتب بالعامية المصرية شعرا يدخل للوجدان بدون استئذان ..وهو بحق يعبر عن ضمير الشعب المصري والعربي قاطبةً.. فلا خشية على الفصحى من بيرم ، كما كان يقال ، فلكل منهما لونه المميز وبيرم يبقى كما كان الشاعر العربي المتميز في عطائه الثر والذي يعيش في قلوب ووجدان ملايين العرب..وبيرم حي بيننا ولن يموت أبداً....المجد للشاعر العبقري محمود بيرم التونسي في ذكرى رحيله الستين..

 

عرض مقالات: