رواية “هزائم وانتصارات” للكاتب “محمود سعيد”، والتي صدرت ضمن سلسلة “سرد” التي تصدرها دار الشؤون الثقافية العامة. هي رواية مميزة، تحكي عن حرب الثمانينات، التي دارت بين العراق وإيران، لكنها تحكي من خلال زاوية مميزة، لا تنشغل برصد مشاهد القتل الوحشية أو بتفاصيل معاناة الجنود داخل معسكرات الجيش، أو في ساحات الحرب، وإنما تناولت موضوع الحرب بحرفية عالية، حيث صورت الحكاية في سياقها الإنساني، الذي يشد القارئ ويجعله يكمل الرواية دون أن ينفطر قلبه، أو تنكسر روحه، وإنما يتعاطف ببطء وهدوء مع ضحايا الحروب عامة، وضحايا حرب العراق وإيران.

الشخصيات..

سامر: هو البطل الرئيسي في الرواية، تبدأ به وتنتهي به، شاب من الموصل يذهب إلى العسكرية بعد قيامه من مرض طويل، يخاف ما ينتظره، وتصدق توقعاته، حيث يموت شابين في أول يوم وصول له، لكنه بدلا من أن يكتوي بنار الحرب كأي جندي عراقي سيئ الحظ، يختلف مسار حياته كلية. ياسين: قابله سامر أول وصوله إلى المعسكر الذي سيبقى فيه، وشاء القدر أن تجمعهما أحداث كثيرة، ويصبحان صديقان لسنوات طوال.

وهناك شخصيات كثيرة داخل الرواية، يقابلها سامر على مر رحلته الطويلة في الرواية، وتتسم معظم الشخصيات بالإنسانية والود، والشخصيات النسائية في الرواية على الرغم من جمالها الذي يبدو أن الكاتب ما كان ليستغني عنه كصفة أصيلة في  الشخصيات النسائية، إلا أنه يرسمهن بإرادة قوية، وتفاعل وندية مع الرجل.

الراوي..

الراوي عليم، يحكي عن مشاعر البطل الرئيسي وما يدور داخله، لكنه يحكي عن الشخصيات الكثيرة الأخرى من خلال تفاعلها مع سامر وعلاقتها به.

السرد..

الرواية محكمة البناء، وعلى قدر طولها، فهي طويلة تبلغ 511 صفحة من القطع المتوسط، إلا أنها تحافظ على التشويق داخل الرواية، نتيجة الأحداث المتسارعة والكثيرة، ونتيجة الشخصيات الكثيرة والثرية على المستوى الإنساني، ونتيجة لتعدد الأماكن وكثرة حركة البطل بينها، وتتميز الرواية بوصف دقيق للأماكن المختلفة التي زارها سامر (كردستان- إيران- باكستان- الهند- نيبال- تايلند) وصف شبه تفصيلي لأماكن طبيعية ساحرة، يشعر القارئ وكأنه يراها أمام عينيه.

وأيضا قصص الحب المتوالية لسامر ربما في رأيي هي ما أبقت على جاذبية الرواية، وتميزها، حيث تميزت تفاصيل علاقات العشق بين سامر وشخصيات نسائية متعددة بالعذوبة والرقة، وقد وصفت تفاصيل دقيقة في العلاقة الجسدية بين سامر وهؤلاء النساء، ولا أحب أن اسميه وصفا أيروتيكا كما يسميه البعض، وإنما هو تفصيل دقيق لا يخلو من جاذبية لبعض القراء.

وفي العموم تتميز الرواية بسرد ثري، سلس وسهل لا يشعرك أن الكاتب يبذل مجهودا في الحكي، وإنما هو يحكي بسلاسة وتتوالي حبات الحكاية بين يديه دون مجهود.

الحكي عن الحرب بعذوبة..

عند قراءة الصفحات الأولى توقعت رواية عن الحرب ستصيبني بالاكتئاب أياما عدة، وأجلتها بالفعل قليلا، لكن وحين الغوص في ثناياها اكتشفت رواية عذبة ورائعة، أهم ما يميزها أنها لم تتناول الحرب بطريقة تؤذي القارئ وتفقده صوابه، وتشعره بعدم الأمان، وإنما بينت وحشية الحرب وقسوتها من خلال رحلة سامر وياسين، بدأ من الهروب من جيش العراق وحتى الذهاب إلى كردستان شمال العراق، ومساعدة بعض المناضلين هناك ثم الانتقال إلى إيران، والبقاء في معكسر هناك للجنود الهاربين، تفاصيل إنسانية بسيطة تظهر مدى معاناة العراقيين والإيرانيين من حرب استمرت لسنوات، وتعذب منها الكثير من العائلات والشباب من الجانبين.

رصدت تفاصيل هامة مثل حسابات المصالح بين بعض الكرد والسلطة الإيرانية، ثم قرر الهاربان الفرار من إيران لأنها ليست أحسن حالا من جحيم العراق الذي هربوا منه، ليذهبوا لباكستان ويجدوا بعض الأمان مع مساعدة كثير من الناس الذين يقدمون العون دون مقابل، لترسخ الرواية فكرة التعاون الإنساني بين البشر والذي لا يهتم بحسابات أو مصالح.

لكن سامر لا يحب باكستان ويقرر المواصلة، ليقابل عدداً من الهاربين وكثير من الناس الذين يتنقلون بغرض السياحة أو بغرض العمل، يتقن مهارة تزوير جوازات السفر ويساعد من خلالها كثير من الهاربين وينقذ حياة البعض بحب، كما يعمل في بيع الأشياء والتحف والمجوهرات وأشياء أخرى، لكنه يحتفظ بأخلاقه، ولا ينحدر ليبيع المخدرات، ولا يؤذي أحدا مهما حصل، ويتعرف على خبرات كثيرة ويستمر في تقديم العون للآخرين مثلما تلقى هو المساعدة من قبل.

العشق..

ثم يكتشف ولأول مرة عالم النساء بعد أن كانت كل معرفته بهن قبلات صغيرة وشغف، يقع في حب أكثر من واحدة، لكن حياته غير الآمنة تتحكم في عدم استمرار تلك العلاقات، لكنه يحب كل امرأة اقتربت منه، يحبها بصدق، لكن لا يستطيع التخلي عن صديقه ياسين الذي يتعرض للسجن، ثم يجد نفسه مرهونا بظروف أخرى ترتبط بأن يساعد الآخرين ويفضل المساعدة على اختيار حياة آمنة ومستقرة. ثم في تايلند يقرر مساعدة السجناء الذين يحتجزون بسبب فساد الشرطة وفساد النظام الذي يجعل الابرياء يدخلون السجن، ويتعرضون لأحكام تمتد لسنوات طويلة.

يساعد هو وصديق له هؤلاء السجناء، ثم يضم أصدقاء جدد، ويقع في حب هيلين، ويتورط في عمل علاقة مع امرأتين في وقت واحد، يصرح لنفسه أنه يعشق الجمال، يأسره جمال الأنثى، لكنه مع ذلك لا يؤذي أية واحدة قابلها، هي من تختار الابتعاد بعد أن تمل حياته غير المستقرة.

وتنتهي الرواية نهاية مفجعة بالنسبة لي حيث تنتحر هيلين من دون أن تتقابل مع سامر، وتحقق حلمها الذي انتظرته طويلا.

السلام الإنساني..

الرواية تسحب القارئ لعوالم المدن والأماكن التي زارها سامر، ولعالم الصداقة البريئة التي لا تعتمد على حسابات أو مصالح، كما تؤكد على فكرة السلام الإنساني،  وأن البشر لا يحبون الحروب، باستثناء من يكتسبون منها ومن يستخدمونها لتحقيق مصالحهم. وأن هناك بشر كثيرون يسعون لأن يحققوا السلام الإنساني، ويساهمون بدورهم في تحقيقه عن طريق مساعدة من يحتاجون للمساعدة.

الرواية كشفت عن المؤامرات التي كان يقوم بها النظام العراقي تجاه الهاربين من العراق، وكيف كانت مخابرات العراق تتعاون مع مخابرات دول أخرى لكي تقتل هؤلاء الهاربين، أو تؤذيهم بشكل أو بآخر، وكأن النظام الذي كان يحكم في ذلك الوقت في فترة الثمانينات، كان من الوحشية والقسوة التي تجعله لا يكتفي بتخريب حياة الناس، وفقدانهم لأمانهم ولحضن عائلاتهم ووطنهم، وإنما يريد أن يبيدهم من على وجه الأرض.

عرض مقالات: