في ذكرى رحيله الخامسة والثلاثين مصطفى عبود .. معنا / حسب الله يحيى

حضور الراحل الأثير مصطفى عبود، يعنينا، نحن أبناء الحاضر.. لا لأن الحاضر بهي بحيث نرى عن طريقه مستقبلنا؛ وإنما لأن هذا الحاضر لا يختلف في مأساويته وضغوطه الملحة يومياً عن الماضي العراقي الذي عاشه مصطفى عبود وعشناه معه كذلك.

وكنا إجتمعنا على أمرين:

ثقل الماضي، وإرادة أن نتعلم على تجاوز محنه بالمزيد من النضال على مستوى الفكر والثقافة والابداع والبحث عن أفق سلمي يمكننا عن طريقه الانتقال الى صفحات جادة وجديدة في الحياة.

مصطفى عبود، إختط لنفسه هذا الطريق على الرغم من كل الصعوبات والمنغصات ووطأة المرض عليه.

كان يقاتل بالفكر النيّر – تأليفاً وترجمة – وموقفاً صلباً بعيداً عن كل الاحباطات التي كانت تواجهه.

من هنا نقدم صوراً  من الاشراقات التي عاشها وأنجزها في محطات حياته، علّها تكون نبراساً امام جيل يمتحن الحاضر ويتعلم من تلك الصفحات المشرقة في راهن لا تقل قسوته ومحنه عن ذاك الماضي الذي عاشه فقيدنا الخالد مصطفى عبود.

*************

الراحل مصطفى عبود وجه من مدينتي   يتخطى الزمن / جميل الشبيبي

يقترن اسم الراحل مصطفى عبود في ذاكرتي  بكوكبة مشرقة من الأسماء التي لمعت اسماؤها في سماء مدينة البصرة في زمن اشكالي تعددت فيه المتاهات الفكرية والأدبية وانتشرت فيه الأفكار الوجودية والعبثية، واصبح المثقف العراقي تحت سطوة الكتب والمجلات التي تبشر بهذه الأفكار والتيارات، وقد دشنت الهجمة الشرسة لانقلاب الثامن من شباط عام 1963 جوا من الهزيمة والضياع وفقدان الامل في مستقبل، اسنمر الى عام 1965، وهو العام الذي تعرفت فيه على الراحل (عبد المحسن براك) في موقف مديرية الامن في البصرة (يطلق عليه الكراج) مع مجموعة من السياسيين المنتمين الى أحزاب متفرقة، في ذلك الصيف القائض من ذلك العام.

كان عبد المحسن براك ابرزهم في حضوره الثقافي المتميز وصوت المثقف الطاغي على الأصوات الأخرى في الحوارات اليومية المتنوعة في السياسة والادب والفن.

ومن خلال شخصية هذا المثقف تعرفت على الأسماء اللامعة:

مصطفى عبود، صالح الشاييجي، محمد سعيد الجنابي، يوسف المبيض، الدكتور عبد العزيز البسام، وخليل المياح وغيرهم ممن لا تحضرني الان أسماؤهم... وكلهم يستحقون استذكارا مناسبا يليق بكل واحد منهم.

كانوا اكبر سنا من أصدقائي واكثر تجربة وثقافة، وكانوا يشغلون مواقع وظيفية حساسة في الدولة او في القطاع الخاص، اذ كان اغلبهم يعملون في الحسابات، اما انا واصدقائي فقد كنا في بداية الطريق، كنت قد تخرجت في معهد اعداد المعلمين منتظرا التعيين، لكني كنت أشارك جلساتهم المثمرة ، وحواراتهم الغنية عن الادب والسياسة والفن،وخلال الفترة نفسها تعرفوا على أصدقائي: جاسم العايف الذي لازم جلساتهم فترة طويلة من الزمن والشاعر عبد الكريم كاصد، والشاعر مصطفى عبد الله والروائي إسماعيل فهد إسماعيل قبل رحيله الى الكويت...

كان الراحل مصطفى عبود قطبا في ذلك التجمع المثقف والمتميز ،وكان حضوره النادر بين أصدقائه ملفتا للنظر، اذ يسود الجلسة نقاش منضبط يكون موقع الراحل فيه طاغيا، تنصت اسماع أصدقائه المثقفين ليكون هو المتحدث الوحيد وينحسر دور الأصدقاء بالأسئلة والاستفسارات فقد كانت ثقافته موسوعية تؤهله للحوار في شتى مجالات الثقافة: في الادب والمسرح والفن ومدارسه اما  السينما فكانت من اهم اهتماماته  اذ كان مطلعا على تقنياتها واتجاهاتها الفكرية والجمالية، وكان الحوار معه عن السينما يشكل متعة كبيرة لنا لمعرفته الموسوعية بعالمها وتطور صناعتها في العالم والجديد من انتاجها ، وكان يتحدث عن جديدها بسبب  اجادته للغة الإنكليزية واطلاعه على المصادر الاصلية لها، كما اهلته اجادته للغة الإنكليزية بالاطلاع على الادب العالمي في مجال الرواية والقصة القصيرة والفن التشكيلي فضلاً عن السياسة والاقتصاد والفلسفة.

كان الراحل مصطفى عبود اسما معروفا في المجلات الصادرة في العراق والوطن العربي وفي الصحافة المحلية والعربية اذ ترجم عن الإنكليزية: لاليوت وفوكنر، وجويس وهمنغواي، وجاك لندن ووليم سارويان، وجنكيز اتماتوف وماركيز.. وآخرين، كما وترجم في ميادين شتى منها: السياسة والاقتصاد والفلسفة، ونظريات الأدب والفن والاجتماع.

ومن اهم الكتب التي ترجمها كتاب (تحت اعواد المشانق) للصحفي الجيكي يوليوس فوتشك الذي اعدمه النازيون مع اعداد كبيرة من التشيكيين.

ولم يقتصر نشاطه على الترجمة بل كتب العديد من القصص القصيرة والمقالات في الصحف المحلية الى جانب عمله في الصحف العراقية : طريق الشعب والفكر الجديد ومجلة الاديب المعاصر والثقافة اجديدة وغيرها

عانى الراحل مرارة السجن والتعذيب الجسدي بسبب انتمائه للفقراء والمعدمين، وقد اتصف نضاله بالصلابة والجلد على الرغم من اعتلال جسده الضعيف وابتلائه بالأمراض المزمنة.

كان شخصية مرنة في حواراته بما يمتلك من الأدلة والبراهين عن وجهة نظره من دون تعصب او تعنت وكان يقابل التحجر وضيق الأفق بالمعرفة الإنسانية وذخائرها التي تشبع بها وامن بها ويقابل الميوعة الفكرية والأفكار العبثية بالأفكار والمبادىء التي ترسم مستقبلا متفائلا وزاهرا للإنسان.

***************

مصطفى عبود : مبدع ومفكر ومناضل رحل مبكراً / فاضل ثامر

كان ذلك عام 1964، وتحديداً في سجن نقرة السلمان الصحراوي، سيئ الصيت كانت المنافسة شديدة بين اثنين من اللاعبين البارعين في لعبة الشطرنج، وكنا نتابع بحماسة كل حركة. وفجأة صاح أحد المتنافسين بلهجة واثقة: “كش ملك” تلقى الخصم هذه الكلمات بهدوء، تطلع يمنة ومسيرةً وأعلن استسلامه، وأعلن حكم المباراة فوز زميل إسمه مصطفى عبود بمسابقة الشطرنج بين لاعبي سجن نقرة السلمان.

تأملت جيداً في هذا اللاعب الهادئ، بوجهه الممتلئ، وشعره الاشيب، وأبتسامته الخفيفة. وعندما سأله أحد السجناء عن سر تفوقه الدائم قال بهدوء : الشطرنج لعبة تعتمد على المهارة، والانتباه والتخطيط المسبق، وربما اختصر ذلك بالقول أن لعبة الافتتاح هي التي تقرر مسار اللعبة، وفجأة امتدت يده الى كتاب باللغة الانكليزية عن فن الشطرنج: في هذا الكتاب الكثير من اسرار لعبة الشطرنج، ومنها أشكال “الفتحات” الناجمة التي كان يعتمدها لاعب الشطرنج الروسي الكسندر أليخين. وراح يتحدث، بلغة الموسوعي، عن هذا اللاعب الروسي اللامع أمام نظرات اعجاب زملائه من السجناء عشاق لعبة الشطرنج الذي بدأوا المغادرة، واحداً واحداً. وعندما أوشكت على النهوض قال بهدوء شفاف “مالك في عجالة” ودعاني الى البقاء: يشرفني التعرف اليك استاذ فاضل : فانا معجب بنشاطك الثقافي في تنظيم المحاضرات والندوات والفعاليات الثقافية التي كانت تنظمها اللجنة الثقافية التي كنت سكرتيراً لها.

وهكذا بدأت مرحلة جديدة من تعارف مثمر بيني وبين هذا الانسان الرقيق والموسوعي، المتعدد المواهب. فهو مترجم ممتاز وكاتب قصة قصيرة، وناقد، ومفكر يمتلك عقلاً سياسياً متنوراً. وعلى الرغم من طبيعته الانطوائية، وعدم ميله للظهور في دائرة الأضواء، ولانشغاله الدائم بالقراءة والكتابة والترجمة، فقد أصبح صديقاُ دائماً للمجموعة الثقافية من أدباء السجن التي كانت تضم أسماء كبيرة مثل الفريد سمعان ومظفر النواب وسعدي الحديثي، وجمعة اللامي وعزيز سباهي وعصام غيدان، وصالح الحافظ ويوسف الصائغ وزهدي الداودي وسلمان حسن العقيدي، وعبد المنعم المخزومي، وفيصل السعد، وناظم السماوي، وزهير الدجيلي ونعيم بدوي ومكرم الطالباني وسامي أحمد وشهاب التميمي وغيرهم.

ولاحظت اهتمام المرحوم مصطفى عبود (أبو النور) بالترجمة، فاعلن عن عزمه على ترجمة رباعيات ت. س. اليوت، وعبر عن اعجابه بترجمتي، أنا وزميلي سلمان حسن العقيدي لقصائد (لوركا) والمقدمة التي كتبها (جيلى) للمجموعة الشعرية التي نشرتها دار نشر (بنغوين) المعروفة وأخبرني حينها انه كان مكلفاً من اللجنة الحزبية في السجن بالمساهمة في تحرير الجريدة الاخبارية اليومية التي يعدها السجناء، وكانت مهمته الاساسية تتحدد في الاستماع الى عدد من الاذاعات الاجنبية باللغة الانكليزية، وتدوين ما هو مهم من أخبار تتعلق بالعراق والعالم، وهي عملية معقدة، وكانت عملية الانصات تتم بسرية تامة، وقد كتب الزميل السجين آنذاك في نقرة السلمان الأستاذ جاسم المطير فصلاً كاملاً عن مراحل اعداد الجريدة اليومية في كتابه الموسوعي عن نقرة السلمان، ودور المرحوم مصطفى عبود في تحرير القسم الأجنبي فيها. وقد توطدت عرى صداقتنا، من خلال اهتماماتنا المشتركة وبشكل خاص في تبادل الكتب الانكليزية، القليلة جداً آنذاك.

وعندما عادت جريدة “طريق الشعب” الى الصدور في مطلع السبعينات التقينا ثانية محررين في صفحاتها الثقافية والسياسية والدولية.

كنت آنذاك أعمل محرراً في اعداد الصفحة الثقافية التي كان يقوم بمهمة سكرتاريتها الزميل الشاعر حميد الخاقاني (حالياً الدكتور) ويضم القسم مجموعة من الأدباء، منهم القاص المرحوم غانم الدباغ، والشاعر نبيل ياسين كما كان يدعم الصفحة الأدباء الذين يعملون في صفحات أخرى أمثال الشاعر يوسف الصائغ والشاعر سعدي يوسف، وسامي محمد، وياسين النصير وزهير الجزائري، وفاطمة المحسن، ومخلص خليل ورضا الظاهر وغيرهم. أما مكانة الزميل مصطفى عبود فكانت تتعزز وتتوسع خاصة بعد أن تفرغ كلياً للعمل في الجريدة بعد أن استقال من عمله محاسباً في احدى الشركات الأيطالية، حيث استدعته احدى الجهات الاستخبارتيه واشترطت عليه التعاون معها من خلال كتابة تقارير عن الشركة، أو الاستقالة، وقد اختار الاستقالة، رافضاً أي شكل من أشكال التعاون وكيلاً أمنياً ولأية أسباب، وقد أستقبل في الجريدة بحفاوة وكان مقرباً من الاستاذ عبد الرزاق الصافي رئيس التحرير والاستاذ فخري كريم مدير التحرير، وكانت تناط به العديد من المهمات منها الترجمة وكتابة التقارير السياسية العالمية، والاشراف على بعض الأقسام الصحفية في الجريدة، وترجم خلال هذه الفترة رواية “تحت أعواد المشنقة” للمناضل الجيكي يوليوس فوجيك ترجمةً دقيقة وشعرية ومؤثرة، وكانت مشفوعة بمقدمة كتبها خصيصاً الأستاذ فخري كريم، أكد فيها على رمزية استشهاد فوجيك الذي عده رمزاً لكل مناضل سياسي يدافع عن قضية شعبه العادلة.

ومن الأعمال الأدبية المتميزة التي ترجمها الاستاذ مصطفى عبود آنذاك رواية “ عاصفة الأوراق “ لماركيز، كما كتب بعض الدراسات النقدية، منها دراسة عن ديوان للشاعر شفيق الكمالي، أثارت أعجابه، لكنه قال أن الناقد كان قاسياً معه.

وعندما بدأ النظام الدكتاتوري بتشديد قبضته على الحياة الثقافية والصحفية والسياسية في نهاية السبعينات أضطر عدد كبير من الصحفيين والأدباء الى الهجرة خارج العراق، تجنباً للاعتقال والتعذيب والقتل، وكان مصطفى عبود من بين الأدباء الذين اختاروا المنفى، حيث حط به المقام في جيكوسلوفاكيا، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته وعطائه. وكان خلال وجوده يعمل مترجماً في مجلة “قضايا السلم والاشتراكية” وساهم في عمل (رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطين في المنفى) ونشر الكثير من الدراسات الفكرية والسياسية والنقدية، فضلاً عن ترجمته للكثير من الأعمال الأدبية العالمية.

لقد كان الراحل مصطفى عبود يعاني من مرض عضال، بعد اصابته بنوبة قلبية شديدة، ومما فاقم من مرضه وهو في منفاه تدهور الاوضاع السياسية والاقتصادية في ظل دكتاتورية صدام حسين، لكنه ظل يحلم بالأمل لشعبه، وبزوال السلطة الاستبدادية وهو يقاوم بالكلمة حتى فارق الحياة في الثلاثين من شهر تشرين الثاني عام 1985 في منفاه الأخير في مدينة براغ، وهو لم يكمل عقده الخامس بعد.

ونحن اذ نستذكر هذه القامة الثقافية المعطاء التي رحلت مبكراَ، حريَ بنا، أن نعمل من أجل جمع كتاباته وآثاره الثقافية، وتعريف الأجيال الثقافية الجديدة بها. كانت حياته ونضاله وحضوره مصدراً دائماً للاًمل والتطلع الى المستقبل من أجل غدِ أفضل للانسان.

***********

الأديب الراحل مصطفى عبود

من سيرة حياته

  • ولد عام 1937.
  • اكمل دراسته الثانوية في ثانوية البصرة- القسم التجاري.
  • دخل كلية الآداب عام 1954- 1955 ولم يكمل سنته الدراسية بسبب نشاطه السياسي.
  • في السنة التالية دخل كلية التجارة.
  • اعتقل اثر انقلاب شباط الفاشي عام 1963، وعذب بوحشية. وظل يتنقل من سجن الى آخر، حتى استقر به الحال في سجن نقرة السلمان.
  • قبل انقلاب 1968 بقليل اطلق سراحه.
  • تعرض لملاحقات جديدة ومضايقات في العمل منذ عام 1969.
  • اضطر لمغادرة العراق عام 1978، مع تصاعد موجات القمع الفاشي، رغم اصابته بأزمة قلبية.
  • نشر مئات المقالات والقصص والدراسات النقدية.
  • متزوج وله طفلان: نور وزيد.
  • توفي في المنفى في 30/ 11/ 1985.
  • ••••

ترجم الكتب الآتية

  • فوتشيك/ تحت اعواد المشنقة/ دار ابن خلدون- بيروت 1980 ط2، والطبعة الأولى صدرت في بغداد 1978.
  • شعر عالمي- مرثاة عامل القصب- غيين/ ابن خلدون 1980.
  • عاصفة الورق- رواية لماركيز- ابن خلدون 1981/ كما صدرت بطعة ثانية عن دار المدى عام 2008، ضمن سلسلة (الكتاب للجميع) التي توزع مجاناً. وكان ماركيز قد كتبها في العام 1955 وتعد اول رواية له بتأثير مسرحية “انتيكونا” لـ سوفوكليس.
  • شعر عالمي- قصائد الكوارث والامل/ غيلفك.
  • شعر عالمي- فوزنيسنكي.
  • جورج آرتزل/ حول الدور القيادي للماركسية في السياسة الثقافية.
  • رسائل الى رفيق- دار ابن خلدون.
  • مرثية عامل قصب/ للشاعر الكوبي نيكولاس غيين.
  • ••••

كما اسهم في ترجمة

  • تجربة المجر.
  • لينين والصحافة.

فضلاّ عن عشرات القصص والبحوث والدراسات النقدية في الرواية والشعر والفن والنقد وفن الترجمة وقصص الأطفال.

  • ••••

من كتاباته

  • لا.. للغة الخوذ على مسرح الثقافة العراقية اليوم توجد “عقول” تفكر بلغة الخوذ، انها طابور خامس حقيقي تابع الى أجهزة القمع. نوع من الفرقة الأجنبية هدفها اهراق دم وكرامة المثقف، لكننا أيها السادة وصلنا الى مرحلة من العناد الفريد..

لقد حان الوقت لانتزاع شأفة العرق الفاشي من تراب العراق المترع بركة وخصباً ونضجاً..

في محنتنا لا نحتاج الى الحداد والتعزيات انما نحن بأمس الحاجة الى العزيمة والوضوح.

  • ان العقلية الإرهابية تعلم علم اليقين بأن الدائرة المفرغة التي يدور فيها دولاب نموذجها الثقافي لن ينتج أية ثقافة حرة او نظيفة او مبدعة.