فتنة الرجولة موضوعة لا تغادر أي فعل أنثوي للشعر الوجداني, لكنها ـ أحياناً ـ فتنة مشوبة بالشكوى المعادلة لشكوى الاضطهاد, وعندما يكون الشعر قصيدة نثر  فأن النثر يغرف من السرد, والسرد يعبر الى الثقافة عبر مسارب عديدة.

موضوعة الثقافة اليوم تحاول الالتفات الى فروع وجذور قيم وتقاليد الشعوب لتفتت ما يمكن أن يصحح من السالب اللا انساني للسلوك الانساني. 

الشاعرة أفياء الأسدي تستميل الضمير الإنساني عبر قناة قصيدة النثر بركيزة الهم الأنثوي العام كونه جندر ممارسة للعنف "والجندر يعمل على جعل الأنثى تابعة منعزلة, لا فرصة لها في صنع الثقافة" تأخذ الشاعرة أفياء الأسدي نموذجها الشعري كلقطات حياتية تكاد لا تُرى, تجمع دقائقها ثم تضع لها هيكلاً متماسك المعاقد. لنتابع بعض نصوصها الشعرية ونتحقق من جدوى أهدافها الثقافية, الفكرية الفنية.

أولا: ثقافة الاعتذار 

  "ثم ماذا؟!

ستعتذر ؟

وكأنك دستَ على قدمي لا على قلبي!

ستجيء محمّلا بالأسف والذاكرة

بقميصك المقلوب

بكامل أناقتك وفوضاك

ستتدلى خصلة من شَعرك توحي بتدهور حالك

ثم ماذا"؟!

مفتتح القصيدة سؤال مستفز يخص اعتذاراً دون سبب, دون تبرير, دون حدث أصلاً. أنه اعتذار بسؤال , وسؤال بلا رضى, من ثم يشهد على السؤال تحولاً قصصياً كبيراً, لكونه عن سحق قلب, وفقدان ثقة, وتمزيق روح انسانية جياشة بالإخلاص والود. الاعتذار هنا يقارب صحوة ضمير بعد فوات الأوان, وقد لا يكون الضمير صاحياً, أنما متألماً لكارثة أخرى.. وقد يكون قول الشاعرة تصوراً لحالة خائن الضمير, على فرض أنه "سيصحو".

 لعل من أغراض النص أن يشرع باباً لثقافة الاعتذار حتى لو كان اعتذاراً عن تمزيق قلب, وحتى لو كان اعتذاراً بعد فوات الأوان. من مظاهر ذلك

1 ـ ثمة رقة في صورة النص الأخيرة تعمق حس المرأة بالجمال, تبوح به الانثى الجريحة بالقول: "ستتدلى خصلة من شَعرك توحي بتدهور حالك". ارى الصورة تلك مشبعة بشغف جمالي, بحالتين هما: ـ الاول, تدلي خصلة الشعر التي تعني الشباب والرقة والمنظر الآسر بالدلال الرجولي والانثوي.

ـ الثاني: التعاطف غير المنظور مع حالة التدهور لدى الحبيب الند.

* الحالتان قيمتا جمال بالدرجة الأساس, وقيمتا حس أنثوي بالدرجة الثانية, سواء أقامها رجل, أم أقامتها امرأة.

 2ـ من مظاهر ثقافة الاعتذار, الأسف والتذكير بالذكريات الجميلة, لبس القميص بالمقلوب, وهو من اختراع الشاعرة, والاجتماع المتكامل للفوضى والناقة, وهذا من اختراع الشاعرة أيضاً. تلك المؤشرات تضع لنا ـ بصورة غير مباشرة, أمام دعوات متحضرة مقترحة لثقافة الاعتذار.

ثانياً: حكمة وتحكم عند كل خطأ رجل يتطلب الأمر تسامح امرأة, ترى أهو حكمة أم تحكم؟  أقصد امن الحكمة أن تصبر المرأة على فساد ندها الحبيب كونها أكثر حكمة منه؟ أم انها القادرة على التحكم بعواطفها, لتحافظ على كيانها الإنساني بإرادة أُم؟ أيمكن للشاعرة أفياء الأسدي أن تجيب على هذا؟ لنتابع "تطلب وقتا يعصمك عن غضبي؟

تبرّر ما دعاك الى غرس أصابعك في قلبي؟

وكأنك لم تدرِ!

ستبدو وكأنك أحمق ما،

يتحدث عن كازانتزاكي مثلاً !

تكفيني المطارقُ في رأسي".

في النص لا مناص من الاذعان لقضيتين, الوقت, والقسوة, بمعنى أن الغضب يحتاج وقتاً ليحقق هدفه في الزجر أو العتاب, والمعتذر يريد وقتاً للتأهب..هكذا إذاً يصير الوقت حاسماً, كثيمة من ثيم القصيدة. أما القسوة فهي متوزعة على طرفي الغضب, المعتذر ستمارس عليه القسوة لعدم قبول اعتذاره, والمرأة الغاضبة مورست عليها قسوة سابقة, وفي الحالتين صارت القسوة فاصلة شعرية نفسية تزيد ارباك شخوص القص في نثرية القصيدة. في جزئية أخرى ينصرف القول نحو حكمة وتحكم مزدوج, كلاهما يمتحان من صبر الأنثى مقامهما, هما الأصابع الدامية والقلب المدمى, إذ كيف يصير الاصبع أداة قلع حاله حال السكين, وكيف يكون للقلب قدرة على تحمل هذا الأذى كلها, والسؤال المقلق "هنا" لماذا الاصابع ذكورية والقلب أنثوي؟ بل هنالك ما يقلق أكثر, أنه الثقافة المحاذية الساندة, تلك هي التسلي بـ "كانتزاكي" واشكالاته العالمية, والتخلي عن أبسط حقوق التعامل اليومي بين المتحابين, الحديث المشترك للحبيبين. كأن الشاعرة تريد أن تزجي تحذيراتها عبر فضاء الجندرية المعاصرة التي خصت الرجل بالفهم والثقافة الجادة, وأبعدت المرأة عن مهمتها الثقافية! برأيي أن أقسى هجوم انساني يمتهن المرأة هو تحييدها ثقافياً, لأنه ما من شواهد قط تعطي مبرراً لذلك ولو بنسبة واحد من مليون. هذا الهم وغيره تحمله المرأة ـ كل لحظة ـ مطرقة على الرأس! لكنها تظل الحكيمة المتحكمة بالارادات جميعها سواء تم الاعتراف بذلك أم لا.

ثالثا ً- حافة الهاوية للهاوية حافة ورأس وعمق ومحيط, إذاً هي اسطوانة هندسية, وقد يكون ممكناً تقدير حجمها ومساحاتها بمسافات أبعادها.. ترى كيف تتآلف مكونات هذه الاسطوانة عبر قلق القصيدة؟ "ومجرّاتُ الاحتمالات في فضاء غرفتي

كلّ أغراضي انتبهتْ

حتى الحقيبة المكسورة هيأتْ عجلاتِها

إلّاي.. أقف على حافة العالم

مسافة خطوة من الهاوية

أنتظر هبوب تبريراتِك الساذجة

وأفكّر في سنين ذوّبتُها في صبغ حذائك"! حقا أنها أسطوانة , لكنها غريبة , فمحيطها احتمالات, وعالم, وأبعادها أركان غرفة, وحجمها أغراض وحقائب وعجلات, وسطوحها كلها شيء غير ملموس, تسميه الشاعرة تبريرات ساذجة وسنين ذائبة فوق وجه حذاء! يا لها من أسطوانة! أنها اسطوانة تنسي الشاعرة ـ كممثلة لجميع النساء ـ علومها كلها, معارفها كلها, عمرها كله. * ان ليس بهذه العجالة ستفضي لنا بمحتوياتها , فهي قد أضمرت الكثير, مما يوجب علينا العودة ثانية الى علاقتها بقصائد أخرى كقصيدة "مرايا مكسرة من محاجر", اذا الهاوية يتم ردمها,أليس هي أنثى الحكمة؟  بل أليس هي أنثى المستحيل!

رابعا: ثقافة دلائل المستحيل في قصيدة مرايا مكسّرةٌ من محاجر تأكيد للوجد اللا انثوي, الذي يجر الى مستحيل الجمال الانثوي المطلق, وذاته يعود  بنا الى الانثى المستحيلة, فهي مستحيلة الاحتواء, مستحيلة الارضاء, مستحيل ان نجدها على الارض فهي قيمة ثقافية أكثر منها وجدوداً مادياً. أعدُّ هذا وعياً متقدماً يخص قصائد الشاعرة أفياء الأسدي. لنتابع: أجترّ فكرةْ

وأجترّ حسرة

تقبّلني ثم يختل وزني

كأنّي تقبّلني موجةٌ ما، 

ـ تقبّلك موجةٌ ؟

ـ هل سذاجةْ ؟!

بل قبّلتني شفاه بحورُ". 

 ان اجترار الفكرة يقارب التكتم على حسرة من "ألم وأسف وفقدان", بينما القُبْلَة تعيد للجسد نشوته واتقاد وجده, تعجل في دنوّه من "ماء الارتواء" للروح والجسد والعقل, وقُبْلَة الحبيب تضع البحر, جمالاً وجلالاً, بين كفي الحبيبة.

القصيدة ترى "الفرد" حبيباً ينظر كأنه يبصر مشكاة الرب , كونه نجماً وغياباً ولعباً , وغيمتين , ودواخل تصنع كل هذا الثراء الرباني الموزع على وظائف الأنثى.

ان الاستحالة والعلو والشهادة والغيم والغياب واللعب كلها تمسي مطلقاً قدرياً توجهه انثى الخلود مثلما في :

"يمرّ رجال يحبّون كوني شهيدة حبٍّ

فأمطرُ من محجريّ المرايا!