عباس الكاظم فنان عراقي كبير هاجر إلى الدنمارك لأسباب حزينة ذكرياتها، موحشة موجعة لكل من عاش بغداد التليدة.

اعرف انشغال عباس الكاظم بفنه لا (بالجائزة الكبرى / بينالي القاهرة 1998) التي نالها عن استحقاق قدرعنايتى بالفكرة ذاتها والخطاب الواصل إلى الناس، وما استطاعه العمل الفنى من تحقيق الهدف المراد بعيداً عن التأويل المفرط.

سرير فردى معدنى أقرب ما يكون إلى أسرة مستشفى ميداني تركه الجند واختفوا إلى مكان غير معلوم، السرير فوق كومة تراب نقى كلحد طاهر لم تطأه قدم، ومرآة فاصلة ممتدة فوق الكومة بعرض السرير وطوله كله، وبمسافة بينية محسوبة تفرقهما عن السرير .. السرير خال تماماً من أى أثر للراحة فوقه ولو بلا فراش، لا شىء ...

أهو عمل مركب ؟!

أم كما يقولون تجهيز فى الفراغ، أو تشكيل فى الفراغ ؟!

أياً ما يكون الاصطلاح، فالمسألة برمتها ما تزال شائكة منغلقة حدّ الحيرة بين الكثيرين من نقاد الفن أنفسهم، ربما لحداثة التوجه وطرق المعالجة التشكيلية، والتماس مع الطرق الموجودة فعلاً كالنحت مثلاً، فهو بالكاد أسلوب ما بعد حداثى أسس عام 1980 لكننى أزعم أن الأقرب توصيفاً لعمل الفنان عباس الكاظم هو “تعبير مجسم”

فالفكرة عنده أرادها كائناً حياً لا خداع فيه، ولا هى موقوفة على سطح أحادى مهما يكن متقناً، وهو الفنان المصور البارع رسماً وتلويناً ومعالجة بصرية كعادتنا به ...

هل عاينت سريرك ؟!

وطنك وملاذك ومأمنك ؟!

الفن إدراك ومعرفة بالعالم المحيط، يقوم بنيانه على علاقة شديدة الالتصاق واللحمة بين الفنان وواقعه، مع فهم كامل للمحدثات والمستجدات والتحولات الناشئة عن المتغير الثقافى الاجتماعي، وما تحمله من عمق حضارى تاريخى لا ينفصل. علاقة شراكة ومعايشة وتحاور وبناء جسور التواصل، والبحث المستمر عن صيغ توافقية بين “ المغامرة التشكيلية “ الممتدة كخيط رفيع سري بين قلق الفنان وتوتره أمام مسطحه الأبيض أو كتلة الحجرة، ودافعه للإبداع، وما ينتجه من عمل فني، والمراد منه، وبين الطرف المراد مخاطبته به. فالفن لغة خطاب بالأساس يفترض فهمها من جميع الأطراف المشاركة فيه، ولا يكون طلسما منغلقًا، ولا حاملا لمضامين وأفكار ومفاهيم مجهولة لا وجود لها. فالعلاقة بين كل أطراف العملية الإبداعية ـ فنان وعمل فنى ومتلق ـ علاقة إدراكية بالضرورة.

وجوهر العمل الفنى ينبع من ذاتية الفنان وإدراكه وتراكمه المعرفي، فالفن فعل ذات يراد به إحداث أثر، أيًا كان هذا الأثر. لكننا فى واقع الأمر لا بد من الوقوف على هذا الجوهر وما يعنيه، فبالتأكيد أنه ليس موقوفًا فقط على تصور الفنان وحده، إذ تشاركه الجوهر العديد من العوامل والمؤثرات، العام والخاص مثلا، الواقع والمتخيل، المؤكد والظن. الواضح والملتبس. على أننا وقبل كل هذا، يجب معرفة كيف يكون الفنان فنانًا ؟!

يقول قائل: أن معرفة الفنان إنما تتم بسهولة ويسر عن طريق عمله الفنى، والرد على هذا القول أسهل وأيسر منه: نعم، أنت على حق وإجابتك صحيحة، لكن بالقليل من التأمل ترى أن الفنان ذاته هو علة وجود العمل الفني وسببه. ترى كيف يكون العمل الفنى وقبلها كيف يكون القياس ..  وما هو النموذج أو ما هي المعايير؟

.. هه ؟!

يقول: من الضرورى البحث عن نقطة التقاء تشكل مركزًا لهذه الدائرة حول الفنان والعمل الفني، طرف ثالث يكون منطلقًا نحو الفهم الأعمق لتلك العملية برمتها، نقطة على بعد خطوات قليلة تشكل حجر الزاوية وفى متناول اليد، فما هو الفن أصلا.. أين وكيف يوجد؟

إن الفن تعبير مطلق، أو هو تصـور جامع، لا يعبر إلا عمن ينتسـب إليه الفنان وعمله الفني.

إن العمل الفنى لا يأتى من أفكار عليا وفلسفات ومنظومة قيم اجتماعية تنادى بمكارم الأخلاق، ولا يكفي كذلك أن يكون جميلا، بل يمتد ليشمل القبيح والدميم والفج والمؤلم والمتجاوز. وكلها نسبيات مصدرها والحكم الفصل فيها، نحن!

فانظر.. ترى، وجهك أنت فى المرآة، أنت وحدك من وإلى، البدء والمنتهى، وطنك هذا، ربما، مضجعك ومكان راحتك وأمنك، ربما، ملاذك حين ينكرك العالم وتسحق جسدك بربريته.. ربما .. المحصلة، هى كل ما تجسد أمامك ورأيته رؤيا العين، وشممت رائحته لحظة لامسته بحواسك الكاملة ورأيت وجهك .. وطنك ومأمنك أسفل تلك الكومة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فنان وناقد تشكيلي مصري

عرض مقالات: