اقام تجمع (نركال) للفن التشكيلي بالتعاون مع قسم النشاطات الفنية بجامعة الموصل معرضاً للفنون في قاعة المتحف، شارك فيه عدد كبير من الفنانين التشكيليين من أجيال مختلفة، واتجاهات اسلوبية وفنية متعددة، منحت المتلقين تنوعا بصريا ما بين الأساليب الأكاديمية الأقرب للفوتوغراف لاسيما في رسم العناصر الطبيعية، وبين الاساليب الحداثية من انطباعية وتجريدية ورمزية وتعبيرية وما بعدها من نزعات تجريبية تعتمد تقانات الكولاج والمواد الخشنة الملمس.. وقد حظي المكان الموصلي المحلي مثل الاسواق والبيوت القديمة التراثية، والمكونات المعمارية الاثرية باهتمام كبير في لوحات المعرض التي حاولت بعث الروح الجمالية في المكان الموصلي لاسيما الذي تعرض للدمار بسبب الحرب، وكأن الذات الفنية الموصلية باتت تنظر الى تلك المحاولة بمسؤولية تصل حد الالتزام بهذا الموضوع كونه وسيلة من وسائل المحافظة على الهوية الخاصة بالمدينة خشية محوها من الذاكرة الفنية بعد أن تعرضت للمحو والخراب واقعيا..أو كأن الذات الفنية وذاكرتها ماتزال عطشى إلى تلك الجماليات ولم تتشبع بها بعد..وبالحد الذي يجعلها موضوعا قابلا للتجاوز والنسيان، فبيوت الموصل القديمة واسواقها وآثارها ماتزال منبعا خالدا للجمال في موضوعات اللوحة الموصلية.

ومن جهة اخرى حاول فنانون آخرون استعادة جماليات الطبيعة في الموصل التي عرفت بها وبمساحاتها الخضر، في حين كان رسم الخيول موضوعا أخر في أكثر من لوحة، رصدت تشكيليا جماليات هذا الكائن المعروف بتكويناته البصرية البارزة وألوانها وحركاتها، ومن اللوحات ما رسمت الخيل بأسلوب أقرب للفوتوغراف ومنها ما رسمتها بأسلوب رمزي منحها بعدا تعبيريا ودلاليا أوسع من كونها مجرد كائنات تنتمي للطبيعة فحسب،في حين مزجت لوحات أخرى بالتجريد بين الخطوط والكلمات والألوان والفضاءات اللونية بأسلوب (حروفي ) حديث.إلى جانب لوحات أخرى ذات صلة بموضوع الحرب والتهجير والنزوح.

المعرض.. تظاهرة لونية وجمالية أعادت النشاط الفني إلى الساحة الموصلية بعد سبات طويل بسبب كورونا، ولذا جاء عنوان المعرض( نينوى تتنفس بألوانها ) منسجما مع الظروف الحالية ومعبرا عن البديل الجمالي للهواء النقي ( الفن ) الذي يبقى عصيا على الفايروسات جميعا.

المعرض (ثقافيا )، يهيمن عليه الطابع المحلي عدا بعض الأعمال الاستثنائية، مما يشير إلى العزلة التي يعيشها الفنان الموصلي وعدم وجود تواصل ثقافي وجمالي بينه وبين العالم، وهذا الأمر يبدو لي خيارا مفروضا عليه، لأنه ليس وليد هذا المعرض وانما لأن العزلة باتت نسقا ثقافيا مهيمنا على الذات الفنية منذ سنوات عديدة بفعل الحصارات والحروب والاحتلالات، ولذلك انتج هذا الخيار المفروض تكرارا في الموضوعات في هذا المعرض أو في معارض سبقته، أو ما يمكن أن نسميه بالتناص بين اللوحات التي اقتربت من استعارة الموضوع نفسه مع تغيير نوعا ما في الاسلوب،إن المحلية ليست عيبا أبدا، لكنها بالتكرار وكثرة الاستدعاء يمكن أن تقترب من هذا الوصف، وذلك ما نريد أن ينتبه إليه الفنانون، لتجاوزه نحو آفاق جديدة موضوعاتيا..

إن موضوع ( الخيول ) الذي برع فيه الرائد فائق حسن يمثل مرجعا تشكيليا لعدد من اللوحات التي تناصت وتداخلت ربما بلا وعي منها مع أعمال فائق حسن الذي غذت لوحاته الذاكرة التشكيلية العراقية بروائع تشبعت بها تلك الذاكرة ومن الصعب أن تتجاوزها وهي ترسم الموضوع من جديد، فضلا عن القيمة الرمزية للخيول في الثقافة العربية، ولعل من المفارقة أن هذه الثقافة على الرغم من مدنيتها إلا أنها ماتزال تعيش حنينا لمراجعها البدوية ورموزها ومن أهمها الخيول، لكنه حنين مقبول إذا كان بتوظيف رمزي وفكري وليس توظيفا عاطفيا استجابة للحاجات العاطفية للذاكرة. مثلما وُظِّف موضوع الصقر رمزيا بذكاء لانتقاد الخنوع السياسي العربي.

أما من حيث الأساليب، فقد طرح المعرض حوارا خفيا بين مدرستين : الكلاسيكية الأكاديمية التي معيارها الرسم الفوتغرافي الدقيق بخطوطه ونسبه ومنظوره وذلك تجلى في أعمال بعض الفنانين، والحداثية التي خرقت الفوتوغراف وتجاوزته بالأسلوب الانطباعي والرمزي وإلى حد التجريد الكامل في بعض الأعمال. وهذا منح المعرض تنويعا اسلوبيا، وقبولا معتدلا عند المتلقين الذين باستثناء النخبة منهم فان الافضلية عند عامتهم ستكون للأسلوب الاول القريب الى التوقعات البصرية المألوفة ومعيار الكاميرا الذي ما يزال مهيمنا على ثقافتنا التشكيلية، وكنت قريبا من أحد الزوار عندما ابهرته لوحة الأسد الفوتوغرافية فمدحها كثيرا، في حين أنه لم يعلق بشيء على لوحة حداثية تجريدية ومضى سريعا لأنه حسب قوله لزميله: لم يفهم منها شيئا.إن متلقينا مازال يبحث عن الموضوع المألوف والفهم المباشر قبل أن يبحث عن الشكل وجمالياته..ويبذل جهدا في التأويل ليفهم.وذلك لأن الفن يمثل لدينا ترفا جماليا وتزيينيا في الحياة أكثر من كونه مشروعا انسانيا ووجوديا وفكريا.

المعرض كان خطوة مهمة جدا، وأجمل مافيه هذا التجاور بين الأجيال من رواد وشباب من أكاديميين وهواة، وهذا التنوع الاسلوبي، وشيوع روح البساطة في التوافق والتعاون على انجازه في ظروف صعبة، لكن تغلب عليها دوافع الاخلاص والمحبة من أجل أن تعود نينوى جميلة بلوحاتها في الواقع وعلى جدران الصالات في المعارض، وكان للفنانة التشكيلية ايناس البيرقدار بوصفها رئيسة تجمع نركال الدور الأكبر في التحضير والاستعداد، وتنظيم المعرض بأفضل صورة.