يروي الشاعر صادق الصائغ حكاية كتبها القاص الانكليزي سومرست موم عن رجل ذهب الى جزيرة نائية، وبعد تطواف طويل، قضى فيه العمر كله، اكتشف ان لا شفاء له الا بالعودة الى موطنه.
ويبدو ان الشاعر صادق الصائغ، مثل ذلك الرحّال الباحث عن الحقيقة والامن والذات، قرر العودة ليحط اخيراً في موطنه. وها هو اليوم، يستشرف سنواته الثمانين المنفرطة مثل حبات المسبحة، متأملاً، ومستشرفا تلك السنوات الصعبة التي جعلته، فجأة، يواجه الكهولة والارق والخوف من شبح الموت.
تتراوح هذه المجموعة من القصائد المختارة، التي قرأها الشاعر في احدى المناسبات في بغداد هذه الايام (كانون الثاني 2018) بين قصيدة التفعيلة (الشعر الحر) وقصيدة النثر. ثمة قصائد مطولة مثل "الاوغاد، زاء والقمر وما يسطرون، نم عميقا ايها الطيف، هنا بغداد، الى عزرائيل" واخرى قصيرة مثل قصائد الومضة والهايكو منها: "حصار، ارضي قنوع". اما بقية القصائد فهي قصائد متوسطة تبدو مثل سونيتات شعرية.
يمكن القول ان هذه الاضمامة من القصائد تمثل تجربة الشاعر طيلة اكثر من ستة عقود، بدأها بتجارب اولية في اواخر الخمسينات، لكن مجموعته الشعرية الاولى "نشيد الكركدن" تأخرت حتى عام 1973.
جيلياً يقف صادق الصائغ داخل دائرة الشعر الستيني دون ان ينتمي اليها فنيا وشعريا بصورة كاملة، والى منحاها الفني الذي مثله شعراء البيان الشعري الاربعة فاضل العزاوي وفوزي كريم وسامي مهدي وخالد علي مصطفى. وهو في ذلك مثل شعراء آخرين امثال حسب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ وسعدي يوسف ورشدي العامل وغيرهم ممن كان لهم حضورهم الواضح في الستينات، لكنهم لم يكونوا يكتبون ضمن المفاهيم الشعرية التجريبية لشعراء جيل الستينات.
تمور في قصائد الشاعر شهوة الحياة الحسية بكل وهجها وانثويتها، لكن الخوف من الكوابيس والمجهول والقمع والمنفى والموت تطل بقوة، لتشكل فسيفساء الرؤيا الشعرية الحداثية لدى الشاعر.
صوت الشاعر، وأناه، بحضوره وعفويته وهيمنته هو الذي يشكل امامية المشهد الشعري. فالشاعر يواجه العالم والآخر باعترافات شاعر قد دخل الثمانينات، وهو يترك وصاياه الاخيرة شعرياً. وقد سبق وان قال مرة عن قصائده في ديوانه الاول "نشيد الكركدن" انها مسكونة بجدلية "الانصهار بالآخر، بالحياة والموت معاً".
وهو يتحدث عن الرعب الذي يعيشه الانسان في مواجهة قوى التوحش في الحياة: "ان غالبية قصائد الديوان ترمز الى الانسان الذي حاصرته البنادق في غابة الرأسمال، وقد تحول الى كركدن يبحث عن مخرج، يهجم ويهاجم، ينزف ويستنزف، واثناء ذلك يدلي بشهادة وهي في آخر الامر نشيده الانساني المرير".
وكركدن صادق الصائغ غير بعيد عن كركدن الشاعر الراحل توفيق صائغ في "معلقة توفيق صائغ" الذي استعاره من اسطورة مسيحية في القرون الوسطى عن الكركدن والعذراء والذي ينتهي به نهاية مأساوية، وكأنه كما يقول صادق الصائغ "يدلي بشهادة وهي في آخر الامر نشيده الانساني المرير".
ويتجلى احساس الشاعر بكوابيس الموت في الكثير من هذه الاضمامة الشعرية التي قرأها، لكنها تبلغ الذروة في قصيدته "الى عزرائيل".
ففي قصيدة " الرغبة المستحيلة " يظل الموت هو الزائر الذي يأتي ويسبقنا ان لم نذهب اليه:
"ها هنا نستطيل
الى النجمة المستطيلة
الى فمها المستطاب
وحلمتها والجديلة
ونأتي الى الموت آناً
ويأتي الينا
ويسبقنا
وتعثر في ظلمة الرغبة المستحيلة"
فالموت هنا يجئ بشكل عفوي، دونما رهبة، فهو واحدة من شهوات الحياة المستحيلة. كما يتحدث في قصيدته المطولة المؤثرة الموسومة بـ "الاوغاد" عن اصدقائه الشعراء الذين خدعوه ورحلوا دونه، فرداً فرداً يعاقر الوحشة:
"خدعوني
فرداً فرداً رحلوا
رحلوا دوني
تركوني".
كما يكتب الشاعر اكثر من مرثاة لاصدقائه الشعراء الاحياء والاموات معاً كما في قصيدته "نم عميقاً ايها الطيف، نم عميقا ايها السراب" يشارك الشاعر صديقه الراحل قدر الموت:
"سعدي الحبيب
اذا كنت قد مت حقاً
فنم اذن جيداً
نمْ نوماً عميقاً
وسأوافيك غداً".
ويتسلل الموت في قصيدة "بكل اخطائك" يهدوء وخلسة عندما يغادر الشاعرجسده ليتجول داخل الغرف، وهو يدرك ان الاوتار ستنقطع يوما ما ويتحول الى سائل دخاني ابيض في صورة استعارية عريضة ومركبة.
"ويوما ما
بفاعلية الحواس
وشرارة مصادفة
ستسمع صوت تقطع الاوتار
وانزلاق الشبح الاسود على الارض
وبهمس يشبه صوت الدفوف
ستمشي راقصاً امام الجميع
مشتعلاً
كسائل دخاني ابيض"
وفي قصيدة "نوم ابيض" يخاطب وجه الموت الذي يبدو له بعيدا وغير قابل للاسترجاع:
"وبعد ان استيقظت
عرفت
اني تلمست وجهك ايها الموت
الذي يبدو الآن بعيداً
وغير قابل للاسترجاع"
وتتحول قصيدة الشاعر صادق الصائغ "الآشوري.. وحيدا في سفينة نوح" التي يستذكر فيها الشاعر سركون بولص الى مرثاة من نوع خاص، مقيما تناصات تفاعلية، مع قصائد سركون بولص وخاصة في ديوانه "في سفينة نوح":
"الآشوري
وحيداً في سفينة نوح
اعلى يصعد
الى كل ما هو ابعد وابعد يصعد
الى السماء يصعد
ليصعد ارضا اخرى"
لكن مواجهة الشاعر المباشرة مع الموت تتمثل في قصيدته الموجهة الى عزرائيل فهي قصيدة عنيفة ومتحدية، تتخذ شكل خطاب الى آخر افتراضي، ربما يمثل رمزياً دلالة متعالية:
"كل الناس سيموتون يا عزرائيل
وانا ايضاً سأموت
ورغم اني
أني بين الجميع
سأكون الاكثر موتاً
فسأنهض من موتي لاقارعك
سناً بسن
وعيناً بعين".
وربما تمثل هذه القصيدة خلاصة موقف الشاعر من الكون والحياة والموت والقدر الانساني، في لحظة تمرد ورفض لطاحونة الموت وهي فنياً تذكرنا بقصيدة الشاعر السابقة عن العقربة وبروتس:
" بروتس
انا اعرفك
واعرف وجهك
بين كل الوجوه واميزه"
فنياً، تنتمي قصائد الشاعر الى مشروع الحداثة العريض، فهو يكتب قصيدة التفعيلة بحساسية قصيدة النثر. فاللغة الشعرية تتجنب المفاضلة والتعقيد وتميل الى ما يسميه ت.س. اليوت بلغة الحياة اليومية او لغة الانسان العادي، وهي لغة لا تستمد قوتها من المعجم التقليدي او الكلاسيكي ولكن من بنية تعبيرية وصورية واستعارية متفجرة ومّوارة بما يصدم وما يشع ويتألق مثل شهب تخطف في ظلام دامس.
في هذه القصائد ثمة لعب على التكرار او التكرير من خلال توظيف انساق التوازي، وخاصة نسق التوازي الاستهلالي، حيث تتحول المفردة الشعرية بوصفها علامة الى بؤرة دلالية متفجرة بمجموعة من الدلالات والرموز والايحاءات السيميائية المتوهجة. ففي قصيدة "طوباك" تتكرر مفردة (طوبى) اربع مرات بطريقة التوازي الاستهلالي الذي يحرك الجمل الشعرية الثلاث او الاربع التي تؤثث المشهد الشعري، كما هو الحال في استهلال القصيدة:
"طوباك
طوبى لصحن الفاقة
تتذوقه ممتناً
بشفتين شبعانتين"
ويمكن ان نعدّ مفردة (طوبى) هي البؤرة المولدة لاسهم القصيدة الثلاثة او الاربعة، كما في الترسيمة التالية:
طوبى= ك ← لصحن الفاقة ← لقلبك الاخضر ← لقصيدة حبٍ
وبذا تتحول القصيدة الى تتويج لمسيرة انسانية وحياتية وشعرية حافلة، وتقريض هادئ وموضوعي لكل سيرورات الحياة المعاشة، خاصة وانها مهداة الى "صادق الصائغ في عيده الثمانين". وتتكرر عبارة "الشعراء الأحلى" استهلالياً في قصيدة "الاوغاد" اربع مرات لتكون القوة المحركة للبنية الشعرية للقصيدة ومركز الاسناد والبيت الشعري لغويا وبلاغيا:
"الشعراء الأحلى
القديسون
الاوغاد
اين مضوا؟"
وتتكرر مفردة "يداك" في قصيدة "ضوء الاصابع" استهلالياً خمس مرات لتقود بنية الجمل الشعرية الخمسة
"يداك سحابة
على عشبها الاخضر يجلس العاشقون
ويخلع عنه النهار ثيابه"
ويمكن ايضاح ذلك في الترسيمة التالية:
يداك = تأقلمياً ← سحابة ← مروج ← غصون ← نبوءة
ولسانياً تشكل مفردة "يداك" نسقاً لجملة اسمية مرفوعة على الابتداء متبوعة باسماء مفردة بمثابة الخبر في اربع جمل وجملة واحدة فقط، فعليه هي "تأقلمتا" في موضع الخبر اللغوي ايضاً.
ويتكرر توظيف نسق التوازي الاستهلالي في الكثير من قصائد الشاعر ومنها قصيدة "بأسنان المحاريث" التي تتكرر فيها مفردة "الم" الاسمية ثلاثة مفردات متصدرة جمل القصيدة الشعرية الثلاث:
كما تتكرر مفردة "كم" الاستفهامية في نسق استهلالي اربع مرات في مطلع القصيدة:
"كم ثقباً في حلم الأمس؟
كم صدعاً في الرأس؟
كم رتقاً في هذا الجورب؟
كم دمعة
تسقط دون جواب؟"
ويمكن تأويل دلالة توظيف النسق الاستهلالي الى كونه تعبيراً عن هيمنة بؤرة شعرية او دلالية لمجموع المشهد الشعري، وهي تقنية تجعل القصيدة مشدودة لمحور مركزي ورؤيوي موحد ومكثف ومتفجر، عبر غلالة ايقاعية وصوتية متناوبة تخلق ايقاعاً موسيقياً داخلياً قوياً.
من قصائد الشاعر المؤثرة التي توظف نسق التوازي قصيدته المدورة "تعريف أخير" المليئة بالتناصات والاحالات الشعرية الملغزة. وهي قصيدة اعترافية توظف ضمير المخاطب (انا) الذي يتكرر ببنيته الصريحة خمس مرات ونحوها بعدد لا يحصى داخل القصيدة:
"حَسَنَُ، وانا الليل، انا النتردال المجنون بليلى، انا الباحثُ عن سر الوردة والحجر المكنون، انا كتب الجنس المملوءة بالاخطاء، واكتب شعرا شعبياً للاطفال واشياءً شيقة اخرى".
يشعر القارئ باحتدام الصور والمفردات والمرئيات وتدفقها وتلازمها في متوالية كتابية تتطلب قراءة خاصة. وشخصيا شعرت بان القصيدة ظلت مفتوحة النهاية على اضافات محتملة تزخر بها احالات القصيدة المباشرة وغير المباشرة.
لكن القصيدة التي تلامس شغاف قلب القارئ العراقي تظل بالتأكيد هي قصيدة" هنا بغداد" وهي قصيدة مطولة تتشكل من عدد المقاطع الشعرية التي تستحضر بغداد/ الفينيق الذي ينهض دائماً من الرماد:
"هذه المدينة عجيبة
ضُربت بالقنابل
سُحقت تحت الاقدام
لكنها
وكما لو ولدت للتو
سُمعت تحت الانقاض تتك"
وتكشف المقاطع عن حركية ثمانية مشاهد شعرية مرئية وحية تصور الاوجه المختلفة والمتناقضة لمدينة بغداد، واصرارها على الحياة ومواجهة قوى الخراب والدمار والعنف، حيث تظل تتك ويظل قلبها يخفق مطلقاً نداء "هنا بغداد".
القصيدة تؤكد ان الشاعر الصائغ، شاعر المنفى، كان يحمل معه قلب بغداد دائماً، ربما تميمةً سحرية تنام دائماً لصق القلب.