يعد الشعر أنجع أنواع الأدب في تركيز اللحظة واختزالها، تعبيراً عن وجدان اُستفز فكان في ذروة الانفعال، وإحساس مضام اكتوى في لجة الاحتدام. وهذا القانون الفني والجمالي ينفرد به الشعر لوحده، فليس مثل الشعر فن يختصر اللحظة ويختزل التاريخ إزاء أيام عصيبة كأيام الانتفاضة التشرينية التي هي بحق ثورة مطلع القرن الحادي والعشرين، الثورة الوليدة التي أنجبتها ثورة العراقيين الكبرى ( ثورة العشرين).

وإذا كانت الأم التي هي ثورة العشرين قد ثارت على محتل أجنبي واحد؛ فإن البنت التي هي ثورة تشرين تميزت عليها بأن ثارت على طغاة ذوي عتو كُثر الألسن متعددي الصور والهويات متنوعي الأشكال والانتماءات، يخفون وراءهم أنياب ذئاب وحشية. وصحيح أن ليس للبنت أن تفخر على أمها، لكن الأم نفسها تفخر بابنتها وتهلهل وتهلل لها أن التاريخ دوما معها، وهو يسطر لها اليوم كما سطر بالأمس أسماء ووقائع وشخصيات وقصائد وحكايات.

هذه البنت المنتفضة اليوم على خطا أمها الثائرة وقد أثبتت أنها ليست مجرد تمرين في الوطنية ولا استعراض عضلات نفخها البطر والخيلاء؛ وإنما هي درس بليغ من دروس الكفاح الوطني يعلِّمه الشعب العراقي في كل آن لحكامه الذين ما رعوا فيه حقا ولا احترموا له عهدا ولم يقروا له بالشكر والامتنان. وحين نبحث عن شعر نريد به أن نعبر عن كل تلك المشاعر المنتفضة فينا، فلن نجد مثل شعر الجواهري نغما صادحا وساطعا ومعاني حية يتردد صداها في سوح العز والوغى، في التحرير وغيرها، نافرا بشررٍ يتطاير في وعينا فيعمق أملنا بالمستقبل تماما مثل تلك الشرارة التي انطلقت من الحيدر خانة أبان الاحتلال الانكليزي لتكون شرارا يرهص بالثورة الأم( ثورة العشرين) ونبوءة تستحضر( ثورة تشرين) وما سيسقط فيها من شهداء، بهم ينتفض شعبنا بكل عناوينه ومسمياته وأطيافه انتفاضة رجل واحد ولسان حاله يقول : كفى فإن للحليم غضبة لا تسترحم إذا تأججت ونجاعة الشرر الجواهري أنه عرّاف لا تخيب نبوءته ولا يكذب استشرافه؛ بل هو يصيب المرمى في الصميم فلا يستطيع القدر إلا أن يستجيب، وما ذلك إلا لثقته ( أن رقاب الطغاة أثقلها الغنم والمأثم)

وليس في الانتفاضة التشرينية التي فيها فار الدم العراقي ويفور عن بكرة أبيه هدأة بها يستجير من أزيز الرصاص وسيل الدخان ووقع القنابل الصوتية إلا بعد أن يقلب الموازين رأسا على عقب لتكون لصالحه، خائضا غمار الوغى كما خاض أجداده الأوائل، فإما حياة تسر الصديق وأما ممات يغيظ العدى.

وانتفاضة العراقيين اليوم ليست مطلبية كما يصفها بعض المراقبين بل هي تغييرية انتشالية تريد أن تقتلع جذور الاضطهاد والفساد من أساساتها كثورة وطنية شعبية عارمة معبرة عن وعي حقيقي بواقع مرير ( ضقنا به ضيق السجين بقيده) كما يقول الجواهري:

لا تيأسوا أن يلح من ليلة          

  فجر ولم تؤذن بضوء نهارِ

فلئن صليتم من هنأة جمرها      

ومشيتم منهن فوق شفارِ

فلابد أن يثب الزمان وتنثني    

حكم الطغاة مقلم الأظفارِ

وتجدد الأيام عهد وصالها      

من بعد إعراض لها ونفارِ

فهناك سوف يكون من زهراتكم     

أصفى معارفها وأطيب حارِ

وهناك سوف يرى الغيمة معشر    

أن يمسكوا من خلفكم بغبارِ

فحذار من عقبى القنوط حذار          

وبدار للعهد الجديد بدارِ  

ولا عجب أن يكون الجواهري شاعرا كونيا تعامل مع كثير من الأحداث العالمية تعاملاً انسانياً واحداً، وهو ما جعل شعره شعراً شمولياً يحضر في كل مناسبة بذات القوة كفعل خلاق ومستمر. ولا غرابة إذن أنْ تتصدر قصائدُ شاعر العرب الاكبر الجواهري لافتات شباب ساحات الانتفاضة ، لاسيما تلك الأبيات المتنبئة بالانتفاضة:

سينهض من صميم اليأس جيل

شديد البأس جبار عنيد

يقايض ما يكون بما يرجى

ويعطف ما يراد لما يريد

والاستشراف المستقبلي هو ما يمنح هذه القامة الشعرية خلودها لتكون لازمة وثيقة من لوازم أي  فعل منتفض وثائر. وواحدة من استشرافات الجواهري الخالدة ما كان يضمخ به العشرات من قصائده بخطابات ترنُّ في الآذان قوية وهي تستنهض همم الشباب العراقي، واضعة فيهم الأمل ومحملة إياهم الرسالة في بزوغ غد جديد لن يتحقق إلا بهم. وها هي الأيام تروح وتجيء وقصائده تصدح مخاطبة الجيل الجديد قائلة له :

تقحَّم فمن ذا يلوم البطين         

  إذا كان مثلك لا يقحمُ

يقولون من هم أولاء لرعاع          

 فافـــهمهم بدم من همُ

وافهمهم بدم أنهم               

 عبيدك أن تدعهم يخدموا

وأنت أشرف من خيرهم              

 وكعبك من خده أكرمُ

ستحضنها من صدور الشباب     

 قساة على الحق لا ترحمُ

نبوءات الجواهري وخوالده الشعرية التي نستذكرها اليوم هي من وحي ما تهزه فينا الانتفاضة من مشاعر وطنية مثل قوله:

أرى أفقاً بنجيع الدماء        تنور واختفت الأنجمُ

وجيلا يروج وجيلا يجيء     ونارا إزاءهما تضرمُ

أنبيك أن الحمى ملهب      وواديه من ألم مفعمُ

وتعيد النبوءات الشعرية فينا ما يثيره حساد الجواهري من أشباه الشعراء وأنصاف الناظمين بين حين وآخر من ادعاءات بأن شعر الجواهري لم يتبق منه شيء، وأن قصائده ذبلت وانتهى أجلها، وأنه تراجع أمام انجازات الشعر الجديد. فنتساءل كيف ذاك ونحن كلما نقرأ ( أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ بأنّ جراحَ الضحايا فمُ ) نقف إجلالا لشاعرية الجواهري التي نجد حساسية فورتها وحماسة كلماتها متجسدة في انتفاضتنا التشرينية الراهنة عاكسة بعين ثاقبة الماضي وهو يستحضر المستقبل تاريخا يقايضه الشعر بالتجدد شاهدا يواكب الوثبات والانتفاضات والثورات، وصوتاً لا يعرف الصمت كهذه الأبيات التي تبعث في نفوسنا الأمل وهي تصف المنتفضين شبابا رافدينيا لا يعرف المستحيل، بهم سيولد عراق جديد غير منتكس ولا متخاذل، يؤذن بضوء نهار:

واستفرش الشعب الثرى ودروبهم     

 مملوءة بنثارة الأزهارِ

أيه شباب الرافدين ومن بهم          

يرجو العراق تبلج الأسحارِ

الحاملين من الفوادح ثقـــلها          

  ليسوا بانكاس ولا أغمارِ

والذائدين عن الحياض إذا انتحت 

كرب ولاذ مكابر بفرارِ

والباذلين عن الكرامة أرخصت      

 أغلى المهور وأفدح الأسعارِ

ومؤججين نفوسهم وقلوبهم شعلا     

 يسير على هدها الساري

والحابسين زئيرهم بصدورهم        

 فإذا انفجرن به فأي ضواري

والقانعين من الحياة رخية          

  بلماظة ومن الكرى بغرارِ

بهذه الشاعرية التي تؤكد جذوة الانتفاضة التشرينية تخرس الحناجر المتهدلة التي عز عليها الشعر فوقفت تنتقص من صاحب الشعر الجواهري الذي وصفه الناقد عبد الجبار عباس بأنه (صفحة بهية في كتاب الشعر العربي.. سيد التجربة فيما يرزح مئات العموديين عبيدا.. أبو الجماهير ورائدها فيما وقف الصغار أبواقا لها ووعاظا) ص18.

وبالثورية الشعرية تكون نبوءات الجواهري واستشرافاته أبية، وهي تقهر الزمان حافرة في الذاكرة مجدا لا يطاله غفران ولا نسيان، جامعة بين مسألتين قلما نجدهما مجتمعتين في شاعر وهما تمازج السياسي بالشعري تمازجا لا يحاكي لكنه يجسّد. وبما يجعل اللحظة التاريخية راهنية، والراهن الشعري تاريخيا، بكل ما يعنيه ذلك من موهبة وجرأة وتمرد بين جموع ثائرة كالجموع المليونية العراقية التي نقمت على القهر ورفضت العجز بالنجابة والعراقة والإباء، ناقمة متحدية وثابة، لتكون الانتفاضة انعطافة مضافة إلى تلك الانعطافات التي شهدها تاريخنا القديم والحديث، مغيّرة عقارب الساعة وجاعلة إياها تسير بحسب إرادتها، ومن خوالد الجواهري في ذلك قوله وكأنه يصف انتفاضة العراقيين اليوم:

والداهنات دماؤهم لمم الثرى            

والمؤنسات شواطئ الأنهار

والناحرين من الضحايا خير ما

حملت بطون حرائر أطهار

وليس التعبير عن حساسية مرحلة مصيرية جديدة باليسير، لأن الكلمات تفر منك وأنت تريد واحدة بها تعبر عن دواخلك وما فيها من مشاعر جياشة لا حدود لسعتها، ولا مساحة يمكن لها أن تلمها. وليس مثل الشعر قول به تجد ما كنت متحيرا في التعبير عنه بكلمة تختزل ما هو كثير وتعمق ما هو أصيل مصيبة في المقتل ما تريد أن تقوله ومعززة ما تحمله في داخلك من قيم. هكذا هو الشعر نسغ حي يصدح بالثورة، ثورة الشعب الذي سلب الفاسدون الدجالون ثرواته بعد أن أراقوا دماءه قطرة قطرة. فلا بد إذن من زلزال يقلب المقادير على رؤوس المنتفعين والمتواطئين. وها هو الشباب الثائر يعيش انتفاضته التشرينية مستحضرا ثورته العشرينية ومعهما كل الرموز الرافدينية التي اختصرها الشعر بجمال وعذوبة، راسما المستقبل وقد انقلع الشر وبان الخير واستطاع الشعب أن يبني قاعدة حياته الجديدة قوية صامدة بسواعد شبابه وشيبه.

فالانتفاضة التشرينية وثبة ميمونة وثورة عارمة وتظاهرة فذة على كل أشكال الخنوع والتذلل. إنها جذوة ثائرة ليس لها خمود وستظل مستمرة مستعرة هادرة ترنو إلى أمام، مقدمة لنا كل يوم صوراً عظيمة للتضحية ودروساً قيمة في الجمال؛ فحسبنا وحسب العرب بذلك فخراً.

ـــــــــــــــــــــــــ

* باحثة وناقدة اكاديمية

عرض مقالات: