أعتبر قصيدة (اعتراف آخر ) بيان شعري خاص بالشاعر عدنان محسن، وتليق أن تكون هذه القصيدة هي ،، المناصة،، لأستقبال للقارىء، أقطف من حديقتها هذه الزهرات :

(أنا مشعوذ

أكاد أجيد القراءة والكتابة

أنني لا أبالي بالفصاحة

وكلّ ما أعرفه من البلاغة

أنا قادر على أن أقول الشيء نفسه

في أي وقت أكثر من مرّة واحدة

وفي كل ّ مرّة بطعم جديد )

(*)

سوريالية الشاعر عدنان محسن ،لا تتبع موضة ولا هي نزوة عابرة، فهو يشعرنها في نصوصه، ويسرد عنها :(أصدر كتاب المغامرة السريالية، ترجمة لمقالات عن السريالية ولبعض نصوصها / 5).. شاعرٌ يتحسس الحياة، ويعلن بسطر ِ شعر ٍ مبين (العيش ممل ٌ بين صفوف المهزومين / 97)..لذا  يحاول نفياً للنفي .. ليتغلب على الغالب  :

(عندي هم واحد

 أن أدهش الدهشة

وأعيش مع المدهشين ../ 106)

عدنان محسن (يريد للأشياء أن تكون متكشفة له، مباحة له، بطريقة جديدة ومدهشة، إنه ينتقل في الأشياء، يصفها في ذاتها،كعالم خاص موجود بذاته../211- السوريالية في عيون المرايا )..هنا يؤكد الشاعر نقلتين:

الأولى : القرف من المألوف..

الثانية : تجاوزه بنفي النفي..

 فهو ينفي المألوف بالدهشة، ثم ينفي الدهشة بأدهاشها ..!! يالها مِن مهنة ٍ شاقة أختارها  شاعرٌ لا يكتف ِ بالنزول إلى النهر، بل يصرّ على تغيير مجراه شعريا وكل وسائل إنتاجه ومواده الخام هي : ثروة من رأسمال المجاز اللغوي / اللامرئي المحسوس

(كل ما يُرى وكلّ ما لايُرى

  كلّ ما يُقال وما لايقال

هذه ثروتي

يقسمها الورثة

للأنثى مثل حظ الذكريين / 96)

 مهنة شاقة يضرمها شاعرٌ في نفسه وهو  منشغل بحياكة التاريخ والموت، والحب : حياكة شعرية وذاكرته مشغولة بالنسيان : ربما هذا هو الفهرس الشعري للمتاهة والظلام والتمرد عليهما شعريا، لدى طفل الشعر الملعون وهو يخدعنا ليبعد عنه شبهة ً ناصعة ً بشهادة مجروحة شعريا :

(عشت ُ حياة ً بسيطة

وما يؤسف له حقاً

لم يكن بوسعي

أن أتحاشى هذا المجد / 106)..

عدنان محسن ، شعريا هو مثنوي : قصائده بسيطة وعميقة  ومرئية لأنها تتحرك في نهر ٍصاف ينبجس من عقل بري لم تصله مخالب الحضارة .. شاعرٌ واضح ومخطور مثل عامل بناء واقف على أسكلة ويصبغ واجهة عمارة شاهقة في شارع يختنق بالمركبات :

(وكلّما سمعتهم يقولون

لنضرب عصفورين

بحجارة واحدة

وضعت يدي على قلبي

فلا أرى بينهم عصفورا ً سواي

تحيطني أحجارهم من كلّ مكان / 84)...

وهو ينتسب لأصحاب الأختيار التالي  

(ونحن بينهم

 اخترنا من الأسماك قلوباً

لا تجيد النبض إلاّ في صدورنا ../75)

كما أنه لا يريدُ من الأشجار سوى الفيء بتوقيت الهاجرة ..

(ليس لدينا أيّ رغبة

في أن نرث الأرض

قبل أن نعيش عليها حقّا ياأيها الرب / 95)

ينوّع الشاعر  جهوياً، مرة يخاطب لينين ..وأخرى يخاطب غودو .. نوح ..دارون ..آدم ..المتنبي..كمال سبتي ..    وخطاباته المتنوعة تصل لنا فقط فنحن المرسل إليه وما أولئك  إلاّ عنوانات تضليلية .. لكنه في قصيدة (أوامر /51) يكلمنا مباشرة ، ولم يكلّم النار !!

(*)

(شاعر) : عنوان القصيدة الأولى، نلاحظ أنّ العنونة منكرّة والشاعر مبأر الحركة،(في الطريق إلى المقبرة ) وفعل التذكّر سيكون مبأراً أيضا ..لا بالنسيان بل بالتناسي، لأسباب مسكوت عنها في النص (تذكّر كل مالم يقله ) وحين نكشط مفردة مقبرة سنجد : نهاية الطريق. نلاحظ أن الشاعر لم يصرخ/ يعبّر عن المحظور فيه، بل أستعمل بلاغة الكفين، ونابت الكفان عن العينين بعصير الألم :

(وراح َ يضرب كفاً بكف ٍ

  حتى سالت

من بين أصابعه الدموع ) ..

من هذه القصيدة القصيرة أمتشق ُ السؤال التالي : قبل أن يسلك الشاعر الذي في القصيدة : طريق المقبرة، هل كان من المنتسبين إلى : خائنة الأعين ؟!

(*)

آخر قصائد المجموعة : (اعتراف أخير):  

(لا أخاف من الموت بتاتاً

    كلّ ما أخشاه

  أنهم بعد موتي

قد يخفضّون أسعار السجائر والنبيذ

ويفوتني القطار مثل كلّ مرة )

: قصيدة مدهونة حد اللمعّان بالدعابة  وهذه (الدعابة لا تتضمن، شأن الذكاء والهزل، شيئا من التحرر وحسب بل تضيف شيئا من التسامي والارتفاع .فالتسامي ناجم بالطبع عن انتصار النرجسية في مناعة الأنا التي تأكد بشكل ظافر.فالانا ترفض أن يلحق بها الأذى وأن يفرض عليها الألم عن طريق الحقائق الخارجية ../ ميشيل كاروج -119).. نلاحظ أنّ الموت الفيزيقي هو مبتدأ الأ شعار وخاتمتها ومابين القوسين صخب الحياة والحب واعتباطية سيرورة التاريخ ..

(*)

دخلتُ غرائبية نصوصه وثرثرته ومتاهته/ متاهتنا ، من قوله ( لم أحب نفسي كما كان عليّ أن أفعل / 47) و(أنا لا أجيد عقاب غيري )..من هذا الرهف سيكون إصغائي لأجراس ومصابيح ونوافذ وسماوات الشاعر عدنان محسن، الذي لم تتعبه المهن فهو لايجيدها (البحث عن مهنة / 36) و يجيد الغناء ..(الأناشيد /37) ..شاعر يحرث تربة اللغة، يلتقط  من اللقى : المعنى المغاير .. يصقله ويتمرى فيه ويرفعه لنا فنرى ماحلمنا به، وأنكسرنا لأجله طيلة هذا العمر العراقي الذي لا يجيد سوى العناء والتوسع الأفقي لكراج الآخرة :  المقبرة ...

(أسئلتي بحاجة

 إلى عدد لا يُحصى

من علامات الاستفهام

ولا تليق بدهشتي

سوى علامة تعجب واحدة

أطول منّي بقليل / 125)

هنا البوح لا الشكوى والسخرية لا الألم ، فالشكوى: نضوب . السخرية هي الأنتصار عبر اللاإكتراث الذي يهزم آليات فن التعذيب عند الآخر .. وبهذه السخرية اللذيذة يبأر زيف الكتابة :

(الشاعرة غير الموهوبة

 مثلها مثل من تضاجع رجلا ً

ولا تشعر بالمتعة

والشاعر غير الموهوب

مثله مثل من يضاجع امرأة

ولا أحد يشعر بالمتعة غيره/ ص124 )

هذا النموذج المثنوي للأسف صار متوفرا بشكل خرافي مع عنكبوت النت وبتعاضد طبالين في حقلي النقد والإعلام ..وهؤلاء بدفعهم الرباعي : السبب الرئيس في تلويث البيئة الثقافية العراقية  .. في القصيدة :الرابط الأتصالي بين الأثنين هو:  الصفة + المضاجعة + المتعة +  الشعور+ اللاموهبة

هو شاعر لذاته (لا أحد يشعر بالمتعة غيره )

الفرق بينهما : هي لا تشعر / هو يشعر

في (اكتب ماشئت / 83 ) يمنح عدنان محسن كل الحرية للكتابة الشعرية، معددا تنويعات الشعر والمدارس، لكنه يشترط ما يريدهُ الشعر الحقيقي نفسه من الشاعر :

*كن مايحلو لك َ أن تكون

*لكن أكتب شيئا يجعلنا نتذكرك

*عندما يخطر في بالنا الشعر

إذن هي حرية مشروطة شعرياً فقط ، ومحسن لا يخذل الشعراء بل ينصفهم في قصيدة(وصايا)

(لاتقتلوا جميع الشعراء رجاءً

 اتركوا عينة ً بسيطة منهم

لمختبرات العصور القادمة

   كي يعرف الناس

أن طائفة من البشر

كانت تعيش قبلهم

وتعمل ليل نهار

بأرواح يتطاير منها الدخان

بلا أجر

وبدون سبب / 86)

هنا الإنصاف والأنحياز للغاوين ولمن أضرم فيهم الغواية  لألتهام الوجود شعريا

وإذا كان هذا هو انصاف الجملة فهناك إنصاف المفرد أيضا

(أعمل ليل نهار

أحّب في أوقات الفراغ

وأكتب قصائدي في الساعات الإضافية / 97)

(*)

ذات مقموعة بمثلث متساوي الأضلاع : الوحدة ---------- الثرثرة ------------- المتاهة .والذات الشاعرة تمشي أو تركض تنتقل جهويا وتنتج حيرتها : أسئلة مدافة بالسخرية .. ..سنرى أن نصوص الشاعر عدنان محسن: لا تسفر عن ملامح وسمات وأبعاد واضحة بل تترك القارىء في مواجهة رسومات على مرايا حمّام لاتتوقف حنفيته الساخنة من ضخ الماء الساخن والبخار .. من هذا البخار الذي يلطخ الرسومات بحجاب أبيض ..من ذبذبات هذا البخار على المرايا ينفتح حوار الرائي المحاصر في حيز مغلق مرآوي ..ينفتح الحوار بين الرائي وذاته ليتأمل في أفعاله وفي أقوال سواه..بعيدا عن أي تشنج عضلي في الروح أو في النظام الفسلجي ..في قصائدٍ هي لوحات للفراغ وأخرى لولادة ما يشبه الأمل المخلوق / المختلق / المختلف بمشيئة كافكا .. وهناك الموجود / اللامرئي / المضنون به على غير أهله

قصائده تحفر ولاتتوقف عن الحفر. تفضل التيه على الوصول في حفرياتها كأن الوصول فضيحة أو خيانة ..أو وهم للتقاعد المؤدي إلى الموت في الحياة .. بالنسبة لي كقارىء فأنني أعلن ملء التلقي أنّ قصائد عدنان محسن في ( وحدي أثرثر في المتاهة  ) أثرتني بملامسة المحسوس واللامرئي .. التي هي بحق  مايمكن أن أطلق عليها(العناصر  المكملة للوجود كالذرات والحركة والصوت )...

(*)

ألتقط ُ قصيدة بأنحياز آيدلوجي وأثبتها كاملة وأحاورها :

(لينين !

أنقذني ياصديقي القديم

لم أعد أعرف ماالعمل ؟

هل أنحب مع الناحبين على الوطن ؟

أم أركض وراء تلك السيدة

التي أشارت لي بيدها

ولا أعرف بالضبط

مايدور برأسها ؟) ..

لماذا وجّه الشاعر خطابه إلى لينين ؟ ولماذا ضمّن القصيدة عنوانا يعد من أهم عنوانات مؤلفات (لينين) أعني كتاب (ماالعمل؟) لقد ألّف لينين عشرات الكتب لكن يجمع مفكرو الماركسية أن : ماالعمل – خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الخلف – مرض اليسارية الطفولي – الأمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية – أن ّهذه المؤلفات الأربعة فيها كل أطروحات لينين الجديدة ..؟! والشاعر عدنان محسن ، يخاطب المفكّر العظيم ، بكل دفء المودة التاريخية ، طالبا العون منه :(أنقذني ياصديقي القديم ) .. ثم ينتقل من القدامة العامة إلى خصوصية الفكر اللينيني  والنسق الثالث يعيدني إلى محذوف نصي ،فالذات الشاعرة حين تبوح إلى لينين عن التضاد الجهوي بسنارتيّ سؤال واحد : هل أنحب مع الناحبين على الوطن ؟ / أم أركض وراء تلك السيدة ..؟!  ترى قراءتي أن الذات الشاعرة ، حددت أين ستذهب ..وماطرحته هذه الذات من باب سؤال العارف لكن الركض وراء السيدة، يعيدني إلى النصوصي العتيق الذي كنتهُ أنا ، الذي لم ينس منذ 1972 تلك الجملة / الفتوى اللينينية في كراسة لينين(مهمات منظمات الشباب) ..( لاينفعنا الشاب الذي يركض وراء كل تنورة ٍ يشاهدها في الطريق ) ..وكان يقصد بها أحد قادة الكومسمول / اتحاد الشبيبة فقد كان هذا القائد دون جوان وكان انشغاله بهذا الجانب على حساب التنظيم ...

(*)

يذكرّني بمشعلي الحرائق : حفدة برومثيوس، وهو يعلن :

(ولدت ُ مع النار

عشنا سوية ً

وكبرنا معاً

في الطاعة والعصيان )

ثم يأمرها أن تنفي ذاتها !!  هكذا يجازي البشري توأمه الطبيعي ؟! لتحقيق مزاجيته في الوحدة المظلمة !! هل بالطريقة هذه تكون المعادلة بين رؤية العالم كواقع معيش والعالم الذي يجترح الشاعر عدنان محسن :

(واليوم ألقي عليها آخر آوامري

انطفئي

انطفئي

أريد أن أتقن المشي وحدي في الظلام/ 51 )..

في هذه القصيدة يفترض أن يكون الكلام موجها إلى النار ذاتها لكنه جعلت جهوية الكلام نحو المتلقي وفي قوله (واليوم ألقي عليها آخر آوامري ..) !! ألايمكن شطب (آخر أوامري) وتثبيت (آخر لحظات العمر) ولا أعني الحتف بل تقرير المصير الشخصي بالقوة الذاتية ..وحين يستضيء بالظلمة ويصل المتاهة، في قصيدة أخرى من قصائد المجموعة الشعرية سيضحك من المباغتة:

(إذ كان بانتظاري فيها فاعل خير

   بيده خارطة

كي أستدل ّبها على طرقي

ما أكثر الجاهلين بيننا

نحن أبناء المفازة

نمشي في الظلام

ونعرف كل ّالدروب

بلا حاجة إلى دليل

أو

بوصلة ../ 108)

لايقف الشاعر عند هذا الحد، تشهد على ذلك قصيدة (حياة حسب الطلب) المتمردة على التوقيتات العامة

(سأرمي في المزبلة كل مابحوزتي من ساعات

    وأحسب الوقت منذ الآن

    حسب أعراف أصابعي

     وتقاليد لساني /57)

(*)

التضاد هو السنة الشعرية لدى الشاعر، هو لا يستهين بالآخر يتأمله بجمالية صافية، في هذه القصيدة المشطورة (الاعتبار) 

(كان موكبها

 وهي تصعد الجبل

يستحق النظر فعلا ً)

هنا المنظور من الاسفل إلى ، ثم تنتقل القصيدة في شطرها الثاني إلى المكان الأدنى

(وأنا بدوري في السفح

 كنت ُ جديرا بالاعتبار أيضا

كنت ُ أحضّرّ النبيذ

لمن لايريد الصعود

لأيّ سبب / 64)

المحذوف في النص : هو لم يصعد معها !! ولم يشعر بالدونية بسبب عدم الصعود أو مصاحبتها في صعودها ،وهو المعادل الموضوعي أيضا، لم يكن محرضا ولا تهمّهُ الأسباب، استمر على تحضير النبيذ بشرط واحد : لمن لا يريد الصعود ..!! هل ثمة تواطىء لدى نسق الواحد / المتعدد ؟!

: هو ------ النبيذ --------- لمن لايريد الصعود !!..

الذات تدور/ تداور في وحدتها وتملأ وحدتها بالثرثرة لمشاغلة المتاهة حتى تنال المفازة ولا أقصد الصحراء. بل الخلاص المؤكد .. من الثرثرة التي هي متاهة لغوية نظيفة ومن الوحدة التي لا اتحاد فيها/ معها، ستأتي الكلمات ماشية على رأسها ..فالعالم وليس الكلمات هو المقلوب ..ربما تكون المتاهة هي الطريق إلى المقبرة ..أو الوصول إلى الآخرة عبر المركبة الفضائية للغرفة الفائقة العناية /12 / أو المتاهة هي الخراب /121 وهي ضد مشاعية الأوكسجين /119 والمتاهة توصلنا الى الابتكار

(أبتكرت لأكثر من حواء تفاحة واحدة

 وطقم أسنان صالحا ً للأستعمال / 61)

والثرثرة لاتحتاج لسانا :

(لاأريد أن أكون َ

حتّى نصف إله

ولاربع نبيّ

كل ّ ما أريده

أن أجلس َ في آخر الصف

وأنت ِ في أوله ِ

نتبادل النظرات طوال الوقت

عندما لا نملك ما نقول / 13)

 كل اللغة صالحة للأستعمال الضد الذي يساعد الذات على الضحك في حياة ٍ يتجنبها الموت

هل هذه المجموعة الشعرية الجميلة، هي هواية الشاعر الجديدة في تدوين (العثرات حسب مصادرها../ 43- هواية جديدة )

*عدنان محسن / وحدي أ ثرر في المتاهة / نصوص/ دار سطور/ بغداد / 2017

*السوريالية في عيون المرايا/ ترجمة وإعداد: أمين صالح / دار الفارابي / بيروت / 2010

*ميشيل كاروج / اندريه برتون والمعطيات الأساسية للحركة السّريالية / ترجمة الياس بديوي / منشورات وزارة الثقافة / دمشق / 1973

عرض مقالات: