انه مصطفى عبود!
والذي لا يعرف هذا الرجل عن كثب، أو لم يسمع باسمه مرة، أقول: انه كاتب سياسي مرموق، قاص مبدع، وله كشوفات معرفية في الرواية والشعر وجماليات الفلسفة والاقتصاد.
عرفت هذا الرجل في أول خطواتي الثقافية في منتصف السبعينات المنصرمة، عندما عملنا معا في القسم الثقافي في "طريق الشعب" بإشراف الشاعر حميد الخاقاني، حيث كنت مكلفا بالكتابة عن نشاطات المسرح العراقي، شأني في ذلك شأن الاخوة والاصدقاء الكبار أمثال صادق الصائغ وياسين النصير وقاسم عبد الامير عجام وآخرين. وكان الراجل مصطفى عبود يحرر الصفحة الاقتصادية الاسبوعية في ذات القسم، بمعية صديقنا المعروف د. عصام الخفاجي. وكان معنا في ذات القسم ايضا الشاعر نبيل ياسين وعدنان حسين والراحل حسين الحسيني، وهم يعدون صفحة "المنوعات" الاخيرة او صفحة "الطفولة والاطفال" في كل خميس بوجود الرسام المبدع ابراهيم رشيد.
عائلة صغيرة من رجالات الادب والفن والاعلام كان يحفل بها هذا القسم العريق، فاذا ما اضفنا اليها الراحلين الكبيرين شمران الياسري ورشدي العامل اللذين لهما مسؤوليات اخرى داخل اقسام الجريدة او اروقتها فضلا عن ألفريد سمعان وفاضل ثامر ودينار السامرائي وجهاد مجيد وناجح المعموري وعائد خصباك وآخرين، لأصبح القسم قبيلة ثقافية لا تدانيها قبيلة ثقافية اخرى في جميع الصحف والمجلات العراقية العاملة وقتذاك، ولذلك كان قرار هيئة تحرير "طريق الشعب" بضرورة العمل بوجبتين انطلاقا من ضيق المكان وقلة الكراسي والمناضد وما يتعبها من شحة في الخدمات.
كنا جميعا في هذه العائلة او القبيلة او القسم – سمها ما شئت- نعتز بخلق مصطفى عبود الاثير، وبهدوئه الجميل وشفافيته المفرطة، وربما نعده انموذجا للمثقف الموسوعي المتميز في العراق كعلي الشوك وجبرا ابراهيم جبرا ونجيب المانع، كأرقى النماذج الثقافية المعروفة في ذلك الزمن، فضلا عن تنوع اهتمامات مصطفى الجمالية والمعرفية المتشابكة على الرغم من تواضعه الجم ونقاء سريرته ضمن بنية نحيفة في هيكل بشري متوسط القامة ان لم يكن من قصارها. وكان شعر راسه فاحماً، او شبه شائب، كأنه جاك دريدا لوحده من دون اية صورة مشابهة اخرى في العراق او العالم تنطبق علي صديقنا الموسوعي الراحل. وبالطبع فاني لا اقرن صورة الرجلين ضمن حياة متشابهة او مسلك واحد، بل ان حياة ومسلك مصطفى عبود تعد في نفسي ارقى واكثر عفة وجمالا من دريدا الذي روجت له الدوائر الكوموبوسولتية في العالم كآخر عراب لمرحلتي ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة في الغرب الذي يتحفنا بين حقبة واخرى بمثل هذه الاسماء وطلاسمها الخالية من المتعة والمعرفة والفائدة، من دون صيد العصارى او السمك البني المستطاب في مائدتنا الثقافية. اية خسارة ان يقضي مبدع قدير مثل مصطفى عبود اجمل سنوات الابداع والانتاج وسط القهر والسجون والمنافي؟ واية جريمة ان يموت غريبا في براغ بعيدا عن وطن استباحه القتلة والجلادون واحالوه الى خراب؟
من اجل ذلك اضع للقارئ الكريم بيوغرافيا شبه متكاملة لفقيدنا الموسوعي العزيز، صاغها ذات يوم صديقه اقاص العراقي المغترب جمال بابان "جيان" اثر وفاته في الغربة المذكورة ولعل اهم مفرداتها ما يلي:
• ولد مصطفي عبود في محافظة الديوانية عام 1937 وأكمل دراسته الثانوية في اعدادية تجارة البصرة وقد تعرضت اسرته بسبب نشاطها السياسي الى الملاحقات والمضايقات وتوفي والده في المنفى.
• دخل كلية الآداب عامي "54- 1955" ولم يكمل سنته الدراسية الاولى، بسبب نشاطه السياسي، وفي السنة التالية دخل كلية التجارة وعرف بشغفه والمامه باللغة الانكليزية.
• عام 1963 اعتقل وعذب ونقل من سجن الى آخر حتى انتهى به المطاف في سجن نقرة السلمان، أي في حضرة هذا السجن السياسي الشهير. وفي هذا الشأن يقول شاعر شيوعي معروف:
"يا زينة البصرة
نوم الهنا، مصطفى

ما أضيق الحفرة!"

• تعرض خلال سنوات الاعتقال والسجون الى اكثر من اعتداء جسدي على يد الحرس القومي، واصيب بعدة امراض ظلت تلازمه طيلة حياته.
• اطلق سراحه قبل انقلاب 1968 البعثي، واضطر في العام 1978 الى مغادرة العراق رغم اصابته بأزمة قلبية مع تصاعد القمع والعنف ضد قوى المعارضة العراقية، واستقر به المطاف في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية في ذلك الوقت، حيث عمل كمترجم في القسم العربي لمجلة "قضايا السلم والاشتراكية".
• وضع الراحل الصديق مصطفى عبود عددا كبيرا من الدراسات والمقالات المترجمة، والقصص القليلة المبدعة. ومن بين اعماله البارزة ترجمة كتاب "تحت اعواد المشانق" او "يوميات مناضل في سجن الغستابو" وكتاب "حول الدور القيادي في السياسة الثقافية" تأليف جيورجي ايزل و"قصائد الكوارث والامل" للشاعر يوجين غيلفليك و"قصائد مختارة" للشاعر اندريه فوزنيسكي و"رباعيات اليوت" و"طبيعة الاشارة الجمالية". هذا اضافة الى عشرات المقالات النقدية، والبحوث الادبية، والترجمات الشعرية المكتنزة في العديد من الصحف العراقية.
ثمة قصة أخرى حول مصطفى عبود تستحق ان تروى، تتعلق بانتسابه المعروف الى عضوية الاتحاد العام في العراق وهي التسمية الاخرى لهذا الاتحاد حينما افتتح ثانية في عام 1970 بعد اغلاقه المجحف اثر الانقلاب البعثي في عام 1963، إذ كان يسمى وقتذاك بـ "اتحاد الادباء العراقيين" وحينما انجزت المسودة الثانية للنظام الداخلي للاتحاد اواسط ثمانينات القرن الماضي سمي وللمرة الثالثة والاخيرة "الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق". وما زال هذا الاسم والنظام الداخلي المذكور يثقلان تواترهما علنياً، من دون تعديل او ثورة ملزمة عليهما، بعد خمسة عشر عاماً، من التغيير الدراماتيكي السياسي وسقوط الدكتاتور، دونما بارقة امل حقة في مستقبل العراق القادم.
في محصلة هذه الشجون والذكريات، اتذكر ما حصل تماما في عام 1977 حينما تنادى البعض من الادباء الشباب المعروفين في المشهد الثقافي العام للانضمام الى عضوية الاتحاد المذكور، بعد الدورة الانتخابية الثانية في منتصف العقد السبعيني من القرن الماضي والتي كان من نتائجها تسمية الاديبين الراحلين هاشم الطعان وعلي الحلي كعضوين اساسيين حصيفين في لجنة قبول الاعضاء الجدد، بعد الفشل الذريع للعضوين السابقين سعدي يوسف وسامي مهدي في مهام هذه اللجنة، لحساسيتهما المفرطة كشاعرين سياسيين معروفين في ذلك الزمن، وما زالا حتى اليوم يغردان على هواهما الايديولوجي ضمن ضفتين متضادين متشاكسين، لا يمكن ان يلتقيا البتة حتى في لحظة النشور او يوم الدين.
كان الشاعران المذكوران يعملان وللأسف في لجنة قبول الاعضاء الجدد كديكين متصارعين في حلبة تحاول الهيمنة على الاتحاد، من خلال ترويج عضوية اشخاص ليسوا بأدباء او هم لم يبلغوا بعد المبلغ الذي يؤهلهم لهذه العضوية. وهذا ما اعترف به سامي مهدي في كتابه المهم "شاعر في حياة" الصادر عام 2017 بقوله: " .. كنت اشهد هذا في اجتماعات القبول، وانجر اليه بطريقة او اخرى حتى بدأت اشعر بالملل".
كان المتقدمون لطلب العضوية في زمن الطعان والحلي حسب ما تسعفني الذاكرة: مصطفى عبود وسامي محمد وحسين الحسيني وهاشم شفيق وعبد الله صخي وشاكر لعيبي وخليل الاسدي ونجم والي وكاتب هذه السطور، وآخرين. وكان من مقررات هذه اللجنة قبول الذوات الثلاث الذين تصدروا هذه اللائحة، وفي مقدمتهم الراحل مصطفى عبود، على امل ان تستكمل اعمال هذه اللجنة في اجتماعها السنوي القادم.
وبالطبع، لم يحصل الاجتماع السنوي الموعود في 1978 بعد ان تلبدت السحب بين الطرفين الفاعلين والمؤثرين في ادارة الاتحاد نتيجة لتلبد الوضع السياسي العام في ذلك الوقت.
وختاما للمسيرة الثقافية المبهرة والزاهدة لمصطفى عبود، فحبذا ان تبادر جهات ثلاث معنية بهذا الفقيد القدير في اعادة طبع كتبه المذكورة، واعني بها: اتحاد الادباء والكتاب في الديوانية، حيث مسقط رأسه، واتحاد الادباء والكتاب في البصرة، حيث فتوته وشبابه الفكري والنضالي المبكر، او الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، ضمن مركزه الاثير في بغداد، طالما وانه الآن ينهض بمشروع سلسلة ثرة وثرية للعديد من الادباء والكتاب في العراق، مع التذكير بأن للراحل مقالات ودراسات في مجلات وصحف عراقية وعربية ودولية، امثال "الثقافة الجديدة" و"طريق الشعب" و"الفكر الجديد" في العراق، ومجلتي "الطريق" و"النهج" في لبنان وسوريا و"مجلة السلم والتضامن" الصادرة من القاهرة او براغ على وفق الزمن الذي عاشه مصطفى عبود وقتذاك. ولعل جمع هذه المقالات سيوفر لنا كتابا حريفا طازجا لمسيرته وفكره، اللذين ضاعا مع الضائعات.