رومـــا: موسى الخميسي

 تميل لوحات الفنان كريم السعدون عموماً إلى استنهاض المعنى، وتحريض الناظر على التأويل. منذ اللحظة الأولى لرؤية أعماله الفنية، ينتاب المتلقي شعور يتعلق بالمستوى الشعري الذي ميزّ هذه التجربة، التي بدت مختلفة عن سواها، فهي تزجّ الناظر في تعاقدات شتى من التأمل والتبصّر والتأويل والتفكيك؛ حيث يبني الفنان مساحات اعماله الفنية وفق هندسة متغايرة عالية التأثير من حيث جاذبيتها البصرية، فإنّ اللون شبه الموحّد هنا، في تدرجّات البنيّ والرمادي والترابي، والخطوط السوداء في رسم الشخوص، ينقلب إلى معادل بصري صانع لمعنى مضاف في السياق الإجمالي للعمل؛ سواء احتوى على عنصر دالّ واقعي جزئيا، أو اقتفى السيرورة ذاتها من مزج التعبير بالتجريد ، باعتبار ان التشكيل لغة، ذات معجم ومفردات ودالّ ومدلول ، فهويعمدّ الى تكثيف الحسّ بالتجريد، والاشتغال على تكوينات متداخلة مشبعة بإيقاعات الخط والكتلة.

 فضاءات مصغّرة ، تشبّع المساحة، وخاصة لجهة معمار البناء، وما تتخذه من هندسة في تناظراتها طولا وعرضا، إنما يقوم على طراز من "التعريش" الذي ينفكّ عن التجريد بهذا المقدار أو ذاك. وإذا صحّ انطباع كهذا لدى الناظر، فالأمر خير لجهة التحريض على تفاعل أكثر حيوية مع تلك الفضاءات المصغّرة، أو لجهة دفع الناظر إلى الاقتراب ببصره أكثر، والحملقة في جمال ائتلاف الإنشاء التجريد التعبيري ـ ليكون الخيار الطاغي على أعماله الفنية التي انخرط في انجازها خلال السنوات الاخيرة بوتائر متعاقبة ومتقاربة، بأسره، وأسرار تماسكه وانسجامه

 إذا وضع المرء جانبا إمكانية استدراج تلك الرياضة الحميدة التي تطمح إليها كلّ لوحة: أن يعبّر الناظر إذْ يجرّد، أو يجرّد حين تغويه نزعة التعبير، وكيف يمكن لهذه الثنائية التبادلية أن تتماهى في وعيه مع نظائر لها أو نقائض، لا من حيث الأدوات الفنية والجمالية فحسب، بل من أن الطبيعة الجدلية ، التي تكتشف انحياز تجربته إلى اجتراح اسلوبه التشكيلي الخاص، عبر تجربة الكائن في علاقته المتوترة بالمكان والذاكرة وشعرنة الضائع والمفقود، مزاوِجا بين الفعاليتين ، الرسم والكتابة النقدية على نحو ما يخلق لديه فهما خاصا للصنعة الفنية في مجمل عناصرها الجمالية. ان ظاهرة "الشغف" لحالة الحزن والاكتئاب ، التي تعكس نفسها كمعطى بصري وتشكيلي مشترك يوحّد خطوط الاستذكار ويسيّر عناصر الذاكرة في أقنية تتشابك وتتقاطع لتنتهي عند شعور المتلقي لظواهر، النكبة والفقد والخسران والانكسار والرحيل والمجهول والحيرة والتيه. فمضامين العمل الفني،عبر لوحات تستند إلى ابراز عزلة الانسان، وأسلوب يقترب من السيريالية  والرمزية في شكلها التعبيري، كما هو معتاد في أعماله، هي محاولة  استعراض الحزن والالم عند الانسان ، إلا أن هذه المظاهر التي تبدو للوهلة الأولى وهي تخفي حزنا عميقا، حتى إن تحايلت عليه.  هناك حالة من الترصد يشعر بها المتلقي، حتى في لحظة موسومة بـ(الحركة)، ليصبح البحث عن إجابة في مَن هو سارق هذا الفرح؟ وهو ما حاول الفنان أن يوحي به تارة للمتلقي أو يصدمه به تارة أخرى، إن لم يستطع معه صبرا، كانت تعصمه من اليأس وتدفعه باستمرار إلى المراهنة على عناصر القوة المختزنة في دواخل البشر الرافضين حيث النظر إلى هذا النوع من الرسم بوصفه مساءلة للوجود ومشروعاً للتغييرمن اجل استيلاد الذات من رحم المكابدات الداخلية والصراع مع النفس،  إلا أن الطبيعة الجدلية للعمل الفني كانت تعصمه من اليأس وتدفعه باستمرار إلى المراهنة على عناصر القوة المختزنة في دواخل البشر الرافضين. على أن قراءة معمقة لهذه التجربة الفنية في مراحلها المختلفة تتيح لنا أن نلاحظ رهانه القوي على الفرد المنعزل في واقع  يصعب عليه. صحيح أن رهان الفنان على الواقع المنعزل قد تمثل عبر حركات  الاجساد الجالسة او المتمددة او الواقفة، تكاد تكون متكررة، إلا أنه في الآن ذاته لم يكف من عمل فني الى آخر عن الاحتفاء بالذات المغامرة التي تصر عليها هذه الذات على الهروب نحو مآلات أفضل، حتى لو أدى الأمر ببعضهم إلى النفي والاضطهاد . حوّل الفنان هذه الشخوص، إلى طاقة فاعلة ورمز للصيرورة والتحول، وقد وجد في الكثير من رموز ( المثلثات والمربعات والدوائر) المتباعدة  حينا والمتلاصقة حينا اخر، كأقنعة لها ومحورا في البناء.

ينقلنا كريم السعدون من طور إلى طور، ومن ذائقة إلى ذائقة، ومن زمن إلى زمن، في هذه الرسوم ما يعكس ذات الفنان العميقة والممتدة خارج نفسه والمنقلبة على التراتبية المألوفة للعلاقة في مواقفه الرافضة للتدجين، لانه تمثّل الكثير من عناصر حياته العراقية وموطن اغترابة في دولة السويد ،ضمن انتماء بشري وشعوري جمعي، مكانيّ وزمانيّ في آن. انه يرى في شخصية هذا الجسد الهشّ الضئيل، النموذج الأسمى الذي رسخ في داخله فكرة الحرية والحرص على رفض التبعية ، فإن تجربته ومفهومه الشعري للعمل التشكيلي يجدان تربتهما الملائمة في معتقدات بيئته العراقية الخارجة عن النص الرسمي والتي تجد ظهيرها الأمثل في التصوف والتأويل والتنقيب عن المعنى، بما يدفع موضوع اللوحة إلى حدوده القصوى، ويجعل من جدل الباطن والظاهر الوجه الآخر للجدل المماثل بين المرئي واللامرئي، كما بين الحقيقة والمجاز.

يغوص السعدون في أعماق التجربات النظرية  للفنانين بول كلي وكاندنسكي  بكل جوانبهما ومفارقاتهما وتناقضاتهما الضدية؛ مما وفر له الشروط الملائمة لمحاصرة عمله الفني في دائرة الانفعال العاطفي والغنائية الرخوة والمهارة الوصفية، وتحويله إلى مشروع رؤيوي يسهم في تقويض المفاهيم والبنى السائدة وإعادة صياغتها من جديد، ليعكس توقه المّلح إلى البحث عن أفق مغاير لشعرية بول كلي التقليدية التي لاتزال تعيش بحيوية مع الزمن.

الفنان كريم السعدون كمبدع ، وجد في التجريد التعبيري ، مزيدا من الاجنحة ، لتجعله كمبدع ، سريع الاندماج مع كل ما يغري ضد الانماط والنماذج التقليدية خرج عن جاهزيات رؤية الواقع في سطوح اعماله الفنية، بعد ان وقف مشدوها يتلمس الادوات القديمة والحديثة، متعثرا في تلابيب مكتشفاته، ليجد نفسه في فضاء فنون التعبير الأخرى في تجربة الاغتراب التي يعيشها الان، ما يغني بحثه وتجاربه في  فنون التعبير البصرية ، وفيما هو يصوغ مبتكراته ومخلوقاته الجديدة، نراه يشعل الشعرية، بالخروج كحالم في ورشته ، حيث احتدام الكائنات مشحونة بالصور، وحيث المخيلة اليقظة النشيطة التحديق، فهو يدرك بانه يمكن للمبدع أن يظل قابعا في تجاربه السابقة، بدون حراك، في الوقت الذي يحس أن صورة العالم من حواليه تتشكل من جديد. من قراءآتي لاعمال الفنان كريم السعدون ، تَشكل عندي مفهوم موسع للإيقاع في فن الرسم، وأصبحت  مقتنعا بربط الإيقاع في اللوحة المرسومة، واقصد به ، تشكيل العناصرالموجوة في داخل بناء اللوحة ،التي هي جوهر الصنيع الفني ،معنى أن التوازن  يشكل اساس البناء الكلي لموضوع العمل الفني، هناك العديد من الفنانين من يتمرد. أي أن الفنان من طبعه التمرد على النمطية، ولا يمكن وضعه داخل قوالب جاهزة، كما يعني ذلك أن الفنان في بحث دائم عن أشكال جديدة داخل هذا الإيقاع الأكبر اللامتناهي.

اللوحة المسندية لدى السعدون، هي تجريب متوال لأشكال إيقاعية ما تزال كل مرة ترسم ملامح متخفية لإيقاع الذات في حوارها مع إيقاع الوجود. فهو يستخرج من خزان ما يلتقطه بصره من عوالمه، ليقترح على من يشاهد اعماله، منهجه الرؤيوي ، بتحويل اللامرئي إلى مرئي . فالمبدع هو المثل الأسمى للتشكلات التحديثية المتوالية. ذلك أن أصالة هذه الفنان، جعلته متعدد الإبداع، لا يمكن استنفاد خصوبة تجاربه واكتشافاته الدؤوبة ،دون ملل أو كلل ، من خلال تعدديته الأدائية أو التقنية، تتراوح بين اللوحات الزيتية على قماش واللوحات المائية على الورق
أن التجربات الغربية الحداثية  في فن الرسم ،ساهمت بشكل فعال في بناء شخصية عدد من ابناء الجيل الثمانيني والتسعيني العراقي، كما هو الحال مع تجربة كريم السعدون .فقد افرزت التجارب العالمية الحديثة، حساسية جديدة . وأصبح عدد من الاسماء في عالم الفن التشكيلي العراقي، يشكلون ملامح مفهوم جديد لتجارب الرسم . في توزيع وفق قواعد الهارموني والتكامل والاشتقاق اللوني ومقاماته الانطباعية، ومراعاة المدرجات الموسيقية للعبور من نوطاتها في تكوين الأشكال للعبور إلى روحانية اللوحة على إحكام التكوينات التجريدية والعلاقة بين الفراغ بالامتلاء، وديمومة وسرمدية الزمان وسيولته.وهذا ما اعتبره عين الحداثة.

 

عرض مقالات: