لأن كثيرين – خصوصا من ذوي المصالح التي تتضاد مع مثل هذه الثورات – جردوا ثورة العشرين من المضمون والفكر السياسي , فقد عمد مؤلف هذا الكتاب الى ابراز الفكر السياسي لثورة العشرين , وتثبيت اركانه . وكذا الحال بالنسبة للمؤلفات التي كانت خالية من الهدف الايديولوجي المعادي لتلك الثورة , غير انها اهملت كذلك الجانب المهم من عمق الثورة , فعمد المؤلف الى كشف اسس المنظمة للفكر السياسي لثورة العشرين , متمثلا بالتصور العقلي للظاهرة السياسية متضمنا التأملات الذهنية التي قام بصياغتها المفكرون بصدد ظاهرة السلطة السياسية .
لقد دخل المؤلف في عمق الفكر السياسي للثورة , اذ لم يقف عند اندلاعها , بل خاض في المراحل الممهدة للثورة المسلحة , كونها ظاهرة اجتماعية معقدة , فقد نشأت عوامل الفكر السياسي قبل الثورة , و كانت بذورها مبذورة قبل الحرب العالمية العظمى .
كشف المؤلف عن مسألة مهمة عن فترة ممهدة للثورة ضمن الفعل الثوري , اذ ان الحركات الثورية بطبيعتها لا تحدد بالقتال المسلح حسب , بل الثورة ابعد واعمق من ذلك الفعل الحركي ضمن الشعارات التي تدفع الى الانخراط باتقان الاستمرار .
وعبر المؤلف حاجز الثورة الفعلية الى ما بعد اسكات البنادق , بمتابعة النتائج الفكرية والسياسية التي تمخضت عن ذلك بازمنة طويلة, وهو الهدف الفكري السياسي لقيام مثل هذه الثورات , مؤكداً التواصل الفكري بين المرحلة الممهدة للثورة المسلحة والمرحلة اللاحقة لها , بعد التمسك بالافكار السياسية نفسها من الثوار .
ان الانسان بقدر ما يصنع الاحداث , لا يكون بعيداً عن ذهن الفكر السياسي , وراء الاحداث الثورية , وطبيعة الافكار بدلالة تلك الاحداث , فعندما تكون سياسيةً - وهذه هي ثورة العشرين – فان الافكار التي تقوم بدلالتها تكون كذلك سياسية , على هذا فان احداث ثورة العشرين تصلح بذاتها ان تكون مصدراً من مصادر الفكر السياسي للثورة نفسها .
إن ثورة العشرين كانت تتمتع بالفعل الجمعي الخاص بها , اذ ساعد في ذلك عدم وجود قوة سياسية فاعلة فعلاً مباشراً في قيادتها , وهذا يسر لها امكانية التمتع بفكرٍ سياسي يجسد ذلك العقل الجمعي .
وتحدث المؤلف عن انتفاضة النجف 1918 , ثم انفجار ثورة العشرين واسبابها الداخلية التي كانت اقتصادية , ادارية , اجتماعية , ثقافية . ثم تطرق الى المسببات الخارجية , والمتعلقة بالوعود البريطانية للعراقيين , منها بيان (الجنرال مود) الصادر في 11 اذار 1917 , الذي أكد ان الجيوش البريطانية لا تدخل العراق بمنزلة المحتل , بل بمنزلة المحرر .
وأشار الى مساهمة فئات اجتماعية متعددة في المدن اسهمت في تحريك الثورة , كالتجار والعمال والملاكين. وفئة المثقفين ورجال الدين والضباط والموظفون والصحفيون.
لم تكن القوى السياسية متمثلة باحزاب سياسية بالمعنى الحديث , بل مثلتها بعض الجمعيات السرية , من ابرزها جمعية (حرس الاستقلال) التي تأسست في بغداد شباط 1919.
ولم يكن الفكر السياسي لثورة العشرين بعيدا عن طرح فكرة أصل السلطة السياسية على بساط البحث بشكل مباشر او غير مباشر , اذ مثلت هذه الفكرة جزءاً اصيلاً من فكر الثورة الذي انقسم بصددها الى تيارين الاول تزعمه رجال الدين واتباعهم , والتيار الثاني تبنى فكرة للسلطة السياسية , وهم اغلب الثوار الذين لهم تطلعات قومية وكان من الصعب وضع حدود فاصلة بين الاتجاهين , لان الثوار الذين تمسكوا بالاصل الديني كانوا يؤمنون بالاصل الشعبي للسلطة .
وترجع مسألة السلطة في أصولها التاريخية الى الاتجاه الثيوقراطي والاتجاه التوفيقي. واستمد دعاة هذا الاتجاه فكرتهم من مصادر متعددة اهمها :
1-
الثورة الفرنسية . 2- مفكرو عصر النهضة الحديثة . 3- تصريحات الحلفاء وبياناتهم . 4- مبادئ الرئيس ولسن .
وتحت تأثير هذه العوامل تبنى بعض مثقفي ثورة العشرين فكرة (الاصل الشعبي للسلطة السياسية) , وعبروا عن ايمانهم بطرق مختلفة :
1-
عبر ايمانهم بفكرة (الجمهورية) . 2- تأكيدهم على ضرورة تأسيس حكومة وطنية منبثقة من الشعب , تستمد سلطتها منه .
لا يوجد تناقض بين الاتجاهين اثناء ثورة العشرين , بسبب محاولات التوفيق التي جرت بينهما , وبسبب وجود اسس دينية ووطنية وقومية عديدة , كانت بمثابة المحور لعملية التوافق بينهما .
وعن (فكرة الملكية قبل اندلاع الثورة) أشار الى منطلقات عدة :
1-
لانها تعتقد ان الملكية تتلاءم مع اذواق الشعب العراقي وتاريخه
2-
لانها تعتقد ان العراق جزء من الوطن العربي , وان معظم اقطاره ملكية .
3-
تعتقد ان العراق مهيأ لتأسيس الملكية .
4-
كانت تعتقد ان الملكية لا يمكن ان تكون استبدادية.
كذلك لم تكن فكرة الجمهورية بعيدة عن مستوى التفكير السياسي لمثقفي ثورة العشرين , لكن السلطة المحتلة كانت تقاوم هذه الفكرة , ولم تفسح لها المجال للتعبير عن نفسها . وبدأ الجهر بالنظام الجمهوري على ألسنة المثقفين , وان لم يكن بعضهم من الثوار من امثال ناجي شوكت وحسين الرحال وتوفيق الخالدي ومحمد عبد الحسين من خلال تمجيدهم للثورة الفرنسية , وعبد المجيد الشاوي . وقيل ان (فيليبي) لم يكن يعارض فكرة الجمهورية غير ان بريطانيا اختارت الملكية .