بغداد رمز حضارة عريقة ظلت على مر العصور ايقونة الرفاه والثراء والنعمة  حتى أصبح التبغدد مصطلحا له  دلالة على الرقي  والاناقة والانس والجمال والغنج .

انتقلت بغداد من حال الى حال في أول صراع بين أخوين على الخلافة هما الامين والمأمون ، وحلت الضربة القاضية ببغداد اثر الهجوم المغولي بقيادة هولاكو الذي أشاع الدمار والخراب فيها ما جعلها تنطوي على جراحها وتغفو في غياهب النسيان ، ولم يزدها الاحتلال العثماني فيما بعد سوى المزيد من النكبات على يد السلاجقة والصفويين وغيرهم من غزاة وطغاة .

بعد الاحتلال البريطاني التقطت بغداد أنفاسها بسبب حاجة الانجليز الى خدمات وطرق وبنوك لتسهيل مهام استعمارهم للعراق ، فكانت حصيلة ذلك نهوض بعض القطاعات الخدمية والصناعية والثقافية كنتائج ايجابية لذلك الاحتلال رغم استخدامه وسائل القمع ومنح السلطات الجائرة  للاقطاع ورجال الدين المنفذين لاهدافه .

حـلّ ببغداد بعد ثورة تموز المجيدة عصر الاعمار الحقيقي فازدانت بالمشاريع العمرانية والسكنية والنصب الجميلة فاصبح نصب ساحة التحرير الذي أبدعه جواد سليم رمزا لبغداد الحديثة .

ولكن الرياح لم تـجـرِ بما تشتهي السفن ، فكان انقلاب شباط الاسود عام 1963 الذي نشر الخراب من جديد لا في العمران فحسب وانما في النفوس وشاع  العنف والارهاب المنظم الذي تقوده سلطة حزب البعث وهو ما تكرر في انقلاب ثاني عام 1968 .

اقترفت عصابة صدام خلال عقدين من حكمه الغاشم  مختلف أعمال العنف والجريمة المنظمة في طول العراق وعرضه حتى بات الخراب شاملا وضحايا حروب صدام بالملايين .

ولم يترك البلاد الا بعد أن هبط الى حفرة حقيرة ، فجاء من بعده من لم يرحم بها حجرا ولا بشرا .

وكانت قمة الدمار الذي أحاق بالبلاد مااقترفته  عصابات الارهاب المتسربلة بعباءة التخلف والدين المفصل على قدر فتاوي فقهاء الظلام وجهاد النكاح .

من بين الاحداث المريرة التي عصفت بالبلاد وبغداد بالذات جرائم القتل على الهوية التي راح ضحيتها الالاف من الابرياء، فامتلأت المستشفيات بالجثث المجهولة الهوية وكانت مشرحة بغداد التي تغص بالضحايا محورا لرواية برهان شاوي ( مشرحة بغداد ) صدرت مؤخرا عن دار ميزر للنشر في السويد ،  في طبعة اوربية .

تعد رواية مشرحة بغداد سجلا شاملا  للجرائم السياسية والاجتماعية التي عصفت ببغداد ، فالقتل غسلا للعار يطال فتاة في ريعان الشباب ، يقتلها أخوها لتظهر براءتها بعد تشريح الجثة . وتروي الجثة  حكايتها لمن حولها من جثث - احياء -

وجثث أخرى تروي ما عانته من ظلم يوم كانت تختطف من الشارع ويزج بها في السجن ، يتم تغيير هويتها وتعدم بدلا من ارهابيين استطاعوا دفع رشوة  كبيرة ليخرجوا من السجن طلقاء احرار بينما  يعدم باسمهم الابرياء .

جرائم كثيرة مرعبة ترويها ويسمعها آدم حارس المشرحة وهو لايصدق ما يسمع ويرى من أحداث جعلته في هوس مجنون يسبح في خيالات تاهت عليه هل هي حقيقة أم من نسج الخيال والرعب الذي تعيشه الاحياء / الاموات في المشرحة والمدينة .آدم حارس المشرحة كان أشبه بالحلزون ، يُطل برأسه لثوان ... تتوجه له الانظار بريبة.. هكذا تصفه الرواية .

امتازت الرواية باستخدام الاسقاط على الحقبة السياسية السابقة فتصرح حواء  هانوفر / احدى شخصيات المشرحة قائلة : ما يجري الان يكاد يشابه ما كان يجري سابقا في النظام البائد ص 131 .

 كانت الرؤية الفلسفية للكاتب تسابق احداث الرواية فتلقي عليها ظلال البعد اللامرئي للموت والحياة وما بعد الموت ، فعلى سبيل المثال يتساءل آدم الحارس عن مصير الحساب للموتى الهنود الذين يحرقون حسب التقاليد الهندوسية ، وكيف سيحاسبهم الملاكان منكر ونكير في القبر كما هو معروف في الديانة الاسلامية .

كما استفاد برهان شاوي من اختزال الشخصيات حسب رؤية فلسفية ناجحة فجعل جميع الشخصيات من الرجال باسم آدم مع اضافة صفة اخرى تميزهم مثل :

آدم الحارس بطل الرواية ، آدم السعيد ، الحاج آدم العراقي ، آدم التاجر ، آدم الملا ، واختصر جميع الشخصيات النسائية باسم حواء  مثل حواء البغدادي ، حواء  آدم كاشف الليل ، حواء هانوفر ، حواء الدلالة .

ونستطيع معرفة عمق الهوة التي  تعصف ببغداد من خلال ما عبر عنه آدم الحارس بقوله ص 156 : أحس أنه في متاهة أشباح غريبة ، مغلقة على أسرارها ، وان هذه ليست بمشرحة بغداد فحسب ، وإنما هي متاهة بغداد أيضا .

رابط فيديو حول الرواية

https://www.youtube.com/watch?v=zd-oDQCVNZA

 

عرض مقالات: