ايها العُشّاق،
ها هُوَ سَقّاءَ الْيِشِن،
يقوم من بين مقبرة الاطفال في أُم الهند،
الشمسُ في يُمناه، والقمرُ في قبضة كفّه اليسرى،
عائداً الى حانتهِ الأُولى !
(غريب المتروك )
رَقيم الكرخاء
قيامتي طفولتي، الكحلاءُ والاهوار .
انا سمراء ميسان، هوسات الماجدية، جنين القصب،
ومنبع انين الصّحين،
ولدت وبين اصابعي، ازهرت صولجانات الكرخاء ونينوى،
ومظاهرات الطلاب .
أنا سمراء ميسان،
لي بيت في الميزرة، وعَمٌّ في معسكر الرشيد.
حِسَن،
يا حِسَن !
من سلمك إلى فالانج الحرس القومي ؟
هذه قيامتي،
العاصمةُ، الشاكريَّةُ، واطمارُ الفقراء .
انا سمراءُ الماجديَّة،
وحدي خضت حروبكم،
وليس معي الاّ زُوّادَتي،
ونايِيَ القصبيّ .
الشيخ وسيدوري
كان الشيخ المّمروض، يطَّوَّف في سكيك عرصة أُمّ الهند ومغانيها، باحثاً عن خانه العتيق. ولمّا إنقطع به الدرب ولم يصل الى غايته، قعد عند ناصية طريق لعلّه يلتقط أنفاسه، وفي تلك الآونة مرت به غادة حسناء .
" هل لك حاجةٌ أقضيها يا شيخ ؟ " .
ــ " يا ربّة الحُسن والدلال، أُريد الوصول الى حانة أهلي ".
ــ "ستصل". قالت مؤكّدة، ثم سالته :
ــ " وغيره يا عمَّ ؟ ".
ــ " الطريق موحشٌ، الزاد قليلٌ، والمسافةُ بعيدة ".
جلست الكاعب الحسناء بين يدي الشيخ، وأخذت تسري عنه بنظرة تارةً، وبإبتسامة تارة أُخرى، تروي بين يديه حكايات من الدهور القديمة، والشيخ ينصت اليها بعقله وقلبه، حتى شعر أنه استوى حياةً أخرى، فعادَ يسألها :
ــ "من أنت، ايتها الغادة العَيطاء ؟ ".
ــ " أنا سيدوري، ساقيةُ حانة الغرباء "، ثم أطلقت صوتها منشدةً :
" يا شيخَ المشّائين،
أيها الباحث عن روحك في وَجْهِ هُوْ،
ها قد وصلتَ الى مرامك .
افرح ليلكَ ونهاركَ،
اجعل من كل يوم عيداً،
وارقص لاهيا في الليل وفي النهار،
أيها الفتى الميساني ..
لا تقابل السلطان، لا تقبل هداياه،
ولا تحضر مجلسه،
فإن في ذلك خراب نفسك، وفي خراب نفسك،
خرابُ العالم "
السيدة شيفا
قالت فاطمة بنت مطر، حدثنا مُحمّد المَهديّ، قال : كتب رفيقنا جمعة اللامي، في احدى صحائف كشكوله، قبل ان ينتقل الى الغرفة الأخرى، هذا النص :
" عند الرابعة فجرا اليوم، وكما حدث قبل عقود، التقينا انا وصديقتي المُتشردة العجوز .
"اهلا بسيّدتي شيفا ".
لم تردّ علي تحيتي كما تعودت في الأيام الماضيات، وكان الوقت عصراً.
ــ " شيفا، ماذا حدث؟".
كانت تبدو غبراء، شعثاء، ضامرة، تَجرّ خلفها اربعة جراء عمياء .
ــ " شيفا، أُقسم عليك بالعَصْرِ والإنسان، مَن خذلك؟".
فضّلت شيفا ان تبقى صامتة، فقلت في سرّي: " يها الرجل العجوز، ترفّق بحال رفيقة متشردة قديمة"، لكنها لم تدعني اتابع فحص شيخوختي في حضرة خرابها، فآنطرحتْ على ذراعها اليمنى، وَدَعتْ جراءها الأربعة الى ضروعها .
ــ "شيفا، يا ربّة الجمال، إلى اين تقودنا هذه الطُرق؟".
وكنت استيقظت على كابوس : رايت الأفعى التي قتلت حكمة الشامي، ما تزال تطاردني في احلامي، وسمعتها تفحّ : اين تختفي مني، انا اقتفي خطاكَ، شارعاً بعد شارع، ومدينة بعد اخرى، ومن مسجد الى كنيسةٍ، نحو كنيسٍ، الى مواقد النار البيضاء، الى آخر المذابح.
الآن وحدي في هذا الفجر الصامت، الاّ من رفيقتي المتشردة وجرائها الأربعة، رايت تلك الأفعى التي تلاحقني في نومي وصحوي وصلواتي، تتسلل من تحت باب دارتي وتتوجه الى سرير احد ابنائي.
الآن وحدي في حديقة زينب، الا من رفيقتي شيفا، التي تطعم جراءها آخر نقطة حليب في ضروعها، اطلقتُ صرختي ما قبل الأخيرة:
ــ " ايتها الأفعى، المتلونة مع كل وقت، يا قاتلة أحبابي، انا مُستعدٌّ للمُصاولة".
وضعت عصابتي الحمراء حول جبيني، واندفعت نحو بيتي وانا اعيط وحيدا تحت سماء فجر صافن: " ايتها الأفاعي،ابتعدن عن خان الماجدية".
قالت مريم بنت مطر، قال محمد المهدي: "بعد أن قرأت نصّ رفيقنا جمعة اللامي، ابرقت الى سمراء ميسان، زينب: "مجنونك الأخير، قام من بين الأموات".
مرآة البركة
منذ ساعة، بل منذ ثقوبٍ سُودٍ، تفرّستُ في بركة حديقتي، فرأيت شبحاً يتقدم نحوي من الجهات كلها، بينما كانت نفسي تُصوّر لنفسي ان الشبح ينثر آساً وصنوبرا وأرزا على هامتي، ثمّ سمعت صدي ابتسامته يتردد :
شامي
شامي
شامـــي
شامـــــــي
يا شامــــــــــــــــــي !
أمسكتُ بالوقت مثل منديل ورقي وأدنيته الى قلبي، فإذا صوتُ هَزار يُخاطبني .
(( لا سُكْري يَضيقُ بِيْ،
ولا ضَجري يختارُ هجراني .
لا نُوري، لا دَلالي يفارقني،
وأكواني لا تَسْطِيع نِسياني .
وحَدْي،
حيثُ لا أحدَ سواي، في أكواني وأزماني،
أُصاحبُ عُزلتي لأنساها وتنساني .
فتعالَ اليّ، يا خَمْرتي ومائي،
نذوبُ في الكأْسِ !
كأْسِي الأرضُ، وخَمْريَ الماءُ،
وها أنا، حيثُ لا أَحَدَ قبلي، ولا أحدَ بعدي،
يا عَرْشي ومائي،
أحْلُمُ بِكِ،
وأمزجُ الخمرَ بالماءِ .
كُلُّها،
بَلابلُ المنازل، نيرانُ أصفهان، حَمامُ المساجد، وعَصافيرُ العرب .
فاختات الحلّة، جيادُ سليمان، لاميّاتُ القدس، وعذراواتُ بابل .
ثيران سومر، وغاقات جسر الاحرار .
النومُ، البحارُ، الجبالُ، الريحُ، المياهُ، السمواتُ المجرّآتُ، الملائكةُ، الانعامُ، والأنانوكي،
سَكْرى مثلي،
بعد حُقّيْ خَمرٍ في سُرّتك،
وركعتَيْ صلاةٍ،
بَيْنَ ثَدييك !
أيها السّاقي !
عينا حَبيبتي كأسان من خَمرتي .
وصِراطُ عشّاقي إلى غرفتين في جنَّتي.
عينا حبيبتي،
كلماتي وأسمائي، أورادي وأحزابي .
بين يقظتي ولا نومي،
أنا الذي لا تأخذني سِنَةٌ،
ولا نَوْمْ .
أيها الساقي !
لا تَدَعْ كأسي فارغةْ.
ومن رحمتي، أنا الذي لا قَبْلي قَبْلٌ ولا بَعْدي بَعْد،
سأشربُ من سُرّةِ حبيبتي كأساً دهاقاً،
وأعود إلى عُزلتي .
أيها السّاقي !
عينا حَبيبتي كأسان من خَمرتي
عينا حبيبتي،
كلماتي وأسمائي، أورادي وأحزابي
بين يقظتي ولا نومي،
أنا الذي لا تأخذني سِنَةٌ،
ولا نَوْمْ )) .
حين تفرستُ في مرآة بِركتي، رايتُ هُوْ،
بنظرُ الى وجهه في وجهي،
ولم يكن سوانا،
على سطح بركتنا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنويه : يرد في هذه النصوص، تناص مع كتابات وأسماء سومرية وعرفانية اسلامية وشرقية، فضلاً عن ذكر أماكن وشخصيات معروفة في أعمال الكاتب، من طراز أُم الهند وغريب المتروك وحكمة الشامي ومحمد المهدي .. وغيرهم . ولذلك اقتضى التنويه، رفعاً لأيّ توهّم أو التباس.