يعيش الروائي والمحرر العراقي محمد حياوي في المنفى الهولندي بعد أن غادر العراق منذ مطلع التسعينات.
محمد حياوي، من مواليد مدينة الناصرية عام 1965، تخرج في معهد الإدارة في عام 1984، وعمل في مجال الصحافة محررا في القسم الثقافي لجريدة الجمهورية، ثم سكرتيرا للتحرير. صدرت روايته الأولى "ثغور الماء" (1983) عن دار الشؤون الثقافية ببغداد، ثم فازت روايته "فاطمة الخضراء" بجائزة أفضل رواية عراقية في العام 1985، ومنعت من النشر لإدانتها الحرب.
نشرت مجموعته القصصية الأولى "غرفة مضاءة لفاطمة" في العام 1986 . وفازت روايته "طواف متَصل" بجائزة الرواية العراقية، ونشرتها دار الشؤون الثقافية عام 1988 ببغداد. ثم صدرت له سلسلة ألف ليلة وليلة للأطفال في العام 1990 عن دار أور.
غادر العراق في العام 1992، وأقام في الأردن (1992-1995)، وعمل في المجال الصحافي.
ترجمت مجموعته القصصية "غرفة مضاءة لفاطمة" إلى الإنجليزية (a Lightened Room for Fatimah) في العام 1996، ونشرت في إسبانيا.
غادر الأردن إلى هولندا لاجئا سياسيا في العام 1996، ودرس اللغة الهولندية، ثم التصميم الطباعي والغرافيك، ونال الدبلوم العالي والماجستير في البنية المعمارية للحرف اللاتيني.
صدرت روايتاه الثالثة "خان الشابندر" (2015)، والرابعة "بيت السودان" (2017) عن دار الآداب.
صدرت مجموعته القصصية "طائر يشبه السمكة"، وروايته الخامسة "سيرة الفراشة" في العام 2018 عن دار شهريار في البصرة.
عمل مصمما ومحررا للسينما في جريدة "Noordholland Dagblad" الهولندية من العام 2000 حتى 2010. كما رأس تحرير مجلة "سينما عالمية" الصادرة باللغتين الهولندية والعربية حتَى العام 2010. وهو عضو اتحاد الكتاب الهولنديين، ويعمل أستاذا لمادة الغرافيك والصحافة الجديدة في معهد غرافيك ليزيوم أمستردام منذ العام 2010، ومدربا للتصميم والصحافة الجديدة "الكروس ميديا" في الأكاديمية الألمانية للتطوير الإعلامي.
وهنا شهادته عن الأسئلة التي طرحتها عليه الجزيرة نت.
رعاة البقر والهنود الحمر
عندما كنت في العاشرة كنت مهووسا بصناعة التماثيل الصغيرة وقراءة مجلة (بساط الريح). أكثر ما كان يلهب خيالي فيها هو ذلك الصراع المستمر بين رعاة البقر والهنود الحمر في قصص الغرب الأميركي الشيقة. فأحمل في الظهيرات كتلة كبيرة من الطين الحرّي مغطاة بقطعة جوت رطبة، وأصعد بها إلى السطح لأجسد أبطالي في عالمي الخاص الذي أقمته هناك. عشرات الخيول وقطعان الأبقار ورجال العصابات الأشقياء وزعماء الهنود الحمر الذين يوشون رؤوسهم بأكاليل ريش الصقور ويدهنون وجوههم باللون الحمر.
كنت أستعين بشظايا القصب وبقايا التبن ومكعبات الطين الصغيرة المجفّفة. وكان عالمي ينمو يومًا بعد يوم، شهرا بعد شهر، حتى تحوّل إلى مستعمرة كبيرة امتدت على جانب لا بأس به من سطح الدار المنزوي، الذي تظلّله نخلة وارفة تنبت في فناء البيت المجاور لبيتنا. حتى ذلك اليوم المشؤوم الذي جلبت فيه شهادتي المدرسية راسبا في الصف الخامس الابتدائي في مادتي الإنجليزية والرياضيات، وعلى الرغم من أنني كنت أملك فرصة أخرى لاجتياز امتحان الدور الثاني، فإن أبي صعد إلى السطح وسحق عالمي كله، مبددا جهود أشهر طويلة من العمل المضني الذي لم يكن يخلو من موهبة واضحة آنذاك.
لم يطلع على عالمي ذاك قبل تدميره سوى (فاطمة ابنة الجيران) التي كانت تطل برأسها مندهشة وهي تتأمل كائناتي الصغيرة ودقتها، فراحت تبكي بحرقة على مدى ثلاثة أيّام متواصلة، بينما اكتفيت أنا بكتم حقدي الدفين واحتواء حزني، إذ شعرت لحظتها كما لو أن صدري الصغير قد هصرته شاحنة كبيرة، وقررت منذ تلك اللحظة الانكفاء إلى داخلي، وصرت أبحث عن بديل لا يصل إليه أحد لأقيم فيه عوالمي الخيالية ومحاكاة ما أقرأه من مجلات وكتب، فكانت القصص التي رحت أتخيلها وأبني عوالمها في رأسي بعيدًا عن غضب أبي، المشكلة الوحيدة التي واجهتني هي كيف ستتمكن فاطمة ابنة الجيران من الاطلاع على تلك العوالم، وبعد مناقشة مطولة عبر سياج السطح، اقترحت علي تدوينها كتابة. فبدأت من تلك اللحظة تحديدا حكايتي مع القصص.
كانت أمي قد لاحظت انكفائي وعزلتي مع كتبي ومجلاتي، وسألتني أكثر من مرة عن سبب تركي لهوايتي السابقة في صنع عوالمي الطينية، وعرضت علي حمايتها من غضب أبي إن كان الأمر يريحني، فأخبرتها وقتها أنني وجدت طريقة أخرى لبناء تلك العوالم في مكان بعيد لا يمكن أن يصله أبي في حال غضبه، واندهشتْ للفكرة، لكنها تحمست لها كثيرا، لا سيما وأنها كانت قارئة جيدة للمجلات ومتابعة للأفلام الأجنبية التي كانت تعرض في التلفاز. وهكذا راحت قصصي تتوالى وتتطور باستمرار.
لكن حتى تلك المرحلة كانت فاطمة قارئتي الوحيدة المأسورة بما أكتب، وكانت أمي تخوض النقاش تلو النقاش مع أبي من أجل أن يتركني أقرأ وأكتب، وراحت توفر لي الحماية وكل ما يلزم لأواصل موهبتي التي آمنتْ بها مبكرا جدا، وعندما أصبحت في المرحلة المتوسطة، أعجب مدرسي بإحدى قصصي وقرر إرسالها إلى صديق له يعمل في إحدى الصحف، وبعد أيام فاجأني وهو يحمل الجريدة التي نشرت فيها قصتي الأولى "بصيص من الأمل"، فتغيرت نظرتي للعالم كليا منذ تلك اللحظة.
في المساء فردت أمي الجريدة أمام أبي الذي كان مسترخيا ويشرب الشاي.. "أنظر.. اسم ابنك منشور في الجريدة.. ألم أقل لك إن هذا الولد مختلف؟.. الآن ستدرك أن الحق كان معي حين حميته وافتخرت به". نظر أبي إلى الجريدة بغير اهتمام، قرأ عنوان القصة واسمه المقرون باسمي الأول، ثم سرعان ما ألقاها جانبا بتبرم وقال "وماذا يعني؟ هل سنأكل الخبز بهذه القصة المنشورة؟"، فشعرت بالحزن يذيب روحي ويحطم نفسي.
لكن أمي أخبرتني لاحقا أنه يحبني وإنما أخذته العزة بالإثم، وهو سعيد بداخله الآن لكنه من النوع الذي لا يجيد التعبير عن حبه وسعادته، فصدقتها، وهكذا استمرت أمي بالتحرش به كلما نُشر لي نص جديد، وفي كل مرة يلقي أبي الجريدة أو المجلة جانبا. أحيانا يكتفي بالتبرم وأحيانا يعلق تعليقات ساخرة من الأدب والثقافة عموما. حتى جاء اليوم الذي فازت فيه إحدى قصصي بجائزة قيمة ومنحوني مبلغا لا بأس به من المال، فسلمته فرحا إلى أمي التي احتضنتني وقبلتني، وكانت المرة الأولى في حياتي التي أمنح فيها المال لعائلتي، بعد أن كنت على مدى سنوات طويلة آخذ مصروفي اليومي منهم وأرهق أبي بطلباتي.
وفي المساء، عندما عاد أبي من العمل، وضعت أمّي المال الذي أعطيته لها بيده، فنظر أبي إليه ملّيًا وسأل عن مصدره، فقالت له بفخر بأنّه مكافأة للقصص التي أكتبها، فاندهش أبي أوّل الأمر كما لو كان غير مصدّق، ثم قال لي "هل يعطونك المال مقابل تلك القصص التي تنشرها حقًّا؟". فأجبته بنعم، قال: "لكنّه مبلغ كبير؟". قلت: "نعم. هو مكافأة عن قصة جيّدة فازت بجائزة مهمة".
كانت أمي تنظر إليه وتبتسم بحب بينما اكتفى هو بقسم المبلغ إلى قسمين، أحتفظ بنصفه وأعطى النصف الثاني لأمي كي توفره لي إذا احتجت إلى أية مصاريف. وفي الليل عندما تصنعت النوم، أقترب مني وقبلني على جبيني وداعب غرتي، وأحكم الغطاء حولي.
في السنوات اللاحقة، وبعد أن صدرت لي الكتب وتحولت إلى شخص آخر مختلف كليا عن أخوتي وأخواتي، ظلت أمي تفخر بما أنجزته وتتباهى أمام أخواتها وأقاربها، وعندما أزورهم، تحرص على صنع أفضل الطعام لي وتحث أخواتي وزوجات أخوتي على المبالغة في الاحتفاء بي وهي تقول "ويلكن.. هذا ابني الأديب والكاتب المعروف يزورني. هذا ثمرة تعب السنين الذي رأيت فيه ما عجزت عن تحقيقه بسبب انشغالي بتربيتكم، هذا المختلف عنكم جميعا الذي يصر على رفع صحنه بيده بعد الأكل ليغسله بنفسه، هذا صديق أخواته والحاني عليهن والمدافع عن حرية اختيارهن، كلكم تدينون له بسعادتكم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
"الجزيرة نت"