متثاقلاً يأتي المساء يجر خطى وئيدة، والظلام يفرش أردانه على الطرقات.
تتلألأ القناديل. ليست كلها، كما في كل مرة، بل بعضها، الذي لم يصله هيجان العاصفة بعد.
لكن ما فائدة المصابيح إذا كانت الطرقات خالية من البشر. وحدها الحيوانات البرية تمرح في الشوارع التي لم تعد تسمع فيها وقع الأقدام الآدمية ودوي المكائن المتحركة، وكركرة الأطفال في المدارس ورياض الأطفال والحدائق العامة.
وحدها البيوت التي تضج بالحركة الصامتة.. فيها المصابيح تبتلع ظلمة النوافذ المغلقة.. والزمن يفقد إحساسه بالمكان والزمان معاً. فكلاهما يتحول الى كيان هلامي يتشظى بالتساوي. نعم المساواة، العدالة التي جاءت لتؤكد معجزة أفلتت من مدارها. ولكنها جاءت في الزمن الخطأ والمكان الخطأ. مساواة مختصة بالموت العددي السريع. موت الجائحة التاجية.
- غريبة هذه التسمية.. اسمها كورونا
- نعم وكورونا تعني التاج بالعربية. وهي بهذا المعنى في اغلب لغات العالم. فهذا المارد النانوي الحجم والتاجي الشكل.
تتدخل مع الظلمة فيما تتساءل وهي تتفحصني لتعرف كيف قضيت النهارات:
- من يسأل من؟ ومن يجيب؟
- أنا أسأل نفسي وأنا أجيبها
- كيف؟
- كيف، كيف؟ ألست أنا وحدي في الحجر الصحي الوقائي؟ لا التقي احداً خوفاً من العدوى. حجرت نفسي وعزلتها، فلا التقي باصدقاء او اقارب أو سمّار. منذ عدة شهور وانا على هذا الحال. اذاً فأنا أتحدث مع نفسي، اشاغلها كي لا افقد مشاعري.
- انت لست الوحيد في هذه العزلة، مثلك كثيرون وفي مختلف بقاع العالم . وأنت تتواصل مع الآخرين كل يوم، عبر تقنيات وسائل التواصل الرقمية.. الا يكفيك هذا؟
- لا، ليس بكافٍ. فالحضور جسداً في المكان والزمان يولد أحاسيس ومشاعر لا تمنحها كل تقنيات العالم.ثم أنا اتحدث عن نفسي.
- إقرأ إذن
- قرأت وقرأت كثيراً وكتبت حتى بدأ الملل يتسلل الى مفاصلي. وأصابعي باتت تتفاعل ببطء، تتأخر في النقر على لوحة ازرار الكومبيوتر لتسجل ماتمليه عليها افكاري.
حدث هذا الأمر بسرعة خيالية لا يضاهيها شئ سوى عبثية الموت. وعبثية الحياة أيضاً، لمن يبقى حياً بعد العاصفة. فعلى ضفتها حدثت المفارقات.. لا احد يجزم كيف ولد هذا التركيب الغامض والمتناهي الصغر..وكيف توجه؟ ومن وجهه؟ ومن أعطاه السيف ليطعن اجساد البشر ويبعث بهم الى الضفاف الأخرى دون ضجة او مراسيم دفن ومجالس عزاء حتى.
قالوا انه يستهدف أولاً فئة عمرية محددة أسموها فئة منطقة الأزمة.. الفئة التي أن وجودها قد بدأ وجودها، بالعد التنازلي،أصلاً. وفئة تعاني من أمراض عصر التقنية الرقمية. لكن ثمة استثناءات. الجائحة لا تستثني فقد اصابت بعضاً من هم خارج الفئتين، لكنها لا تميز بين ضحاياها، عرقياً او جغرافياً او دينياً او اثنياً، ثقافياً او اجتماعياً. فالكل سواسية امامها. كل الاسماء والصفات تتحول الى ارقام ومنحنيات بيانية في احصائيات الكارثة التاجية.
وخلف كل رقم ثمة تاريخ ميلاد وسيرة ذاتية، و طموحات وآمال ومشاريع ذهبت أدراج الرياح.
- أنت متشائم، قالت القناديل المتلألئة في الشوارع المقفرة.
- لا بل متشائل، اجابت النوافذ المغلقة بألسنة القابعين خلفها. فالمحجورون استسلموا للنوم ولكن مصابيحهم تظل مضاءة ليبعدوا الجائحة. فهي تخاف الضوء وتعشق الظلمة.
التاجية فرضت قواعد جديدة للعبة غير المتكافئة أصلاً. وكشفت عن هشاشة الانسان. رغم جبروته وقسوته وغطرسته. الإنسان استغل الطبيعة ببشاعة ودون رفق. صفعها مرات ومرات دون رحمة، وراح يكدس المال ويحميه بالتسلح والسلطة..
- يحميه مِن مَن؟
- من الأغلبية الجائعة.
- محض هراء، لا أحد يثور وبطنه خاوية.
الطبيعة ترد الآن الصاع صاعين. و تقلب المعادلة، وتخلط الأوراق كي تعيد ترتيبها. أو لتخلطها من جديد.