نعيمة مجيد
ان الدكتور صبيح في كتابه النقدي (تحولات النثر الفني وتطور بنياته السردية) ,كان دؤوبا في تواصله مع المزاوجة ما بين رؤياه للفن النثري القديم والحديث منذ بزوغه في العالم العربي بدءاً من الجزيرة العربية حيث التحولات الفكرية والدينية وتغيير البنية الاجتماعية بعد ظهور الاسلام , معرجاً على عملية البناء اللغوي في مادتي النثر الفني أو النثر العادي وما يتطلبه البناء الفني من تقنيات فنية أو ايديولوجية أو سياسية أو فكرية ,مشحونة بمشاعر وأحاسيس وعواطف تخاطب وجدان المتلقي
يحيلنا الكاتب لمعرفة التحولات البنيوية في النثر الفني. في (ص10)ـ }ان التحولات البنيوية في النثر الفني مرتبطة بتحولات طبيعة الحياة ومستلزماتها، وما ينتج عنها من ثمرات مادية، وأخرى إبداعية فنية أو فكرية أو فلسفية أو سياسية. ان اللغة العربية تكونت من مجموعة من اللهجات العربية الشائعة آنذاك في الجزيرة العربية والتي رافقت عهد انتشار الدعوة الاسلامية وتحولها الى لغة دين سماوي، هذه اللغة اصبحت ذات حضارة عريقة وثقافة متنوعة لتسود العالم على مدى ثمانية قرون واصبح الكتاب العربي المخطوط المنسوخ كتابا عالميا لثمانية قرون ايضا{.
من الملاحظ هنا ان الكاتب لم يشر الى العصر الجاهلي في مقدمة الكتاب، في حين كان الادب الجاهلي حاضرا وانقسم الى قسمين هما: الشعر والنثر ألا ان الشعر كان أكثر انتشارا من النثر ويعود الى ان الشعر يقوم على أعمال الخيال، اما النثر فيقوم على اعمال الفكر والمنطق والخيال، والخيال اسبق واجود من المنطق، واهم الاغراض التي كتبوا بها الشعر هي: الفخر, الحماسة، المدح، الغزل، الرثاء، الهجاء، الوصف، الحكمة، والاعتذار.
أما النثر الجاهلي العربي له انواع منها: الخطابة، والقصص، والامثال، الحكم، النثر المسجوع أو ما يسمى سجع الكهان.
وقد قسم الكتاب الى مباحث هي كالاتي:
1- النثر الفني، السمات والتحولات. 2-سمات الكتاب الادبي القديم وخصائصه الفنية
3-الحكمة وحرية الفكر في نثر الجاحظ الفني. 4-الصورة الواقعية في التراث السردي
5-المقامة – ذلك الجنس السردي –الامكنة في مقامات الهمذاني (بغداد أنموذجا)
6- المتخيل السردي في رسالة الغفران –لأبي العلاء المعري
7- النزعات الفنية في بدايات السرد اليمني.
8 - محمود أحمد السيد والبداية الفنية للسرد العراقي
9- الدلالات الايدولوجية والسياسية في السرد العراقي (غائب طعمة فرمان وجهاد مجيد – انموذجين)
10- جدلية الوعي السائد والمتحول في ثلاثية نجيب محفوظ
وقد تطرق اليه الباحث في مبحثه الاول معرفاً: على ان النثر الفني نوعين الاول نثر عادي وهوما موجود في لغة التخاطب وليست له قيمة ادبية، والآخر فيه فن ومهارة وبلاغة ويفرّع الى جدولين كبيرين وهما الخطابة، والكتابة الفنية وهي تشمل القصص المكتوب، والرسائل الادبية الموجزة وتتسع ايضا الى الكتابة التاريخية المنمقة (ص19).
وهنا نلاحظ الباحث قد عاد الى العصر الجاهلي دون تجاوزه في مبحثه هذا لما فيه من صلة وثيقة في الثقافة العربية الاسلامية على عكس ما ذكره في المقدمة ففي الصفحة (19) يقول }ان الرجوع العصر الجاهلي وأخباره سيمكننا من معرفة النثر الفني قد لعب مهما في حياة العرب حينذاك{.
الكتاب كان موجزا في تناول الموضوع في العصر الجاهلي، لكنه في الاسلام كان فيه اطالة والغرض منه ليس لتحسين جمالية الكتاب ولكن لتكريس مفهوم الدين الاسلامي ونشر دعواه وغرسها في القيم المجتمعية الجديدة بطريقة التحية ومخاطبة الاخر. وكان السجع طيلة مسيرة الادب النثري فناً يخضع لتحولات الابداع الادبي في صعوده وهبوطه عبر عصور الابداع المختلفة. (31ص)
كما اشار الباحث بظهور كلمات والفاظ جديدة في العصر الاسلامي كالصلاة والزكاة والمؤمن والكافر والمسلم وغيرها.
و في حديثه عن ما بعد الفتوحات وانتشار الاسلام في بقاع واسعة من العالم، ودخل فيه الكثير من اللغات الاعجمية وتداخل الالفاظ الاعجمية مع الالفاظ العربية. حتى يمكن ان يقال:ان الفتح والمُلك اعطاهم من قوة الملاحظة ودقة التفكير ما لم يعطهم القرآن وحده لو ظلوا محصورين في ارجاء الجزيرة العربية (ص32)
من الملاحظ ان الباحث يتتبع خطوات التطور في النثر الفني عبر ازمانه المتلاحقة ليطلعنا على ما ورد فيها من تغيير ونمو الجسد النثري فنيا لما فيه من تهذيب واضافة خلال مسيرته ضمن بيئات متباينة عن بيئته الصحراوية ذات الطابع المنغلق، مقارنة مع العصور المتقدمة. مؤكدا ان التحولات والانواع الادبية قد تطورت كثيرا. ليسترجع في ذهن القارئ احاديث ابن دريد, ومقامات الحريري، وبديع الزمان الهمذاني. الذين جعلوا منها شريعة ادبية في النثر الفني,
وكذلك الجاحظ في قصصه التي صور بها من خلال كتابه "البخلاء" وكذلك رسائله في مجال وصف المتطفلين، فالجاحظ لم يترك موضوعا عاما إلا وكتب فيه رسالة او كتاب فقد ألف في النبات والشجر، وفي الجد والهزل وفي الترك والسودان، وفي المعلمين والقيان (ص35).
اما القرون المظلمة التي سبقت عصر النهضة الحديثة، مثلت قمة الانهيار الذي شهدته الحضارة العربية وتراجعها المرعب ايام حكم السلاطين العثمانيين وقد امتدت لثلاثة قرون.
كما تطرق الى اهم سمات التحول الكبير الذي طرأ في عصر النهضة على (النثر الفني والكتابة النثرية منها: سلامة العبارة وسهولتها, وتجنب الالفاظ المهجورة والعبارات المسجوع، ايجاز العبارة وتجريدها من التنميق والحشو، تقسيم الموضوعات الى ابواب وفصول، تسمية الكتب بأسماء تدل على موضوعاتها، تزين المؤلفات بالرسوم وضبط الالفاظ بالحركات عند الاقتضاء، الهوامش في ذيل الصفحة، استخدام الترقيم.
لهذه الاسباب وغيرها حدثت تحولات كبيرة في سيرورة اللغة النثرية عبر العصور المتعاقبة).(45)
هنا لم يكتف الباحث في بحثه حول تحولات النثر الفني وتطور بنياته السردي خلال هذه العصور لكنه تحدث بإسهاب، وعقد مقارنات ما بين النثر السردي الحديث في اليمن، والعراق، ولروايات نجيب محفوظ، والنخلة والجيران لغائب طعمة فرمان وجهاد مجيد، ,,في مباحث الكتاب الأخرى. ليطلعنا على كيفية نمو النثر الفني بين تهذيب وشطب واضافات جديدة له تماشيا مع عصرنا الحالي وتطور بنيته الاجتماعية واختلاف الأيديولوجي والسياسي خلال القرن التاسع عشر والعشرين، لما فيها من تجاذبات وصراعات طرأت حديثا في البيئة العربية
نجد الباحث يربط التحولات الادبية النثرية بالتحولات السياسية والانقلاب على القديم وبداية عهد جديد ويرجع ثانية الى الظروف القاسية التي عاشها العراق المعاصر وما مر من كوارث وحروب مدمرة في العصر الحديث والتغيرات الكبيرة التي حصلت في العالم والنتيجة التي خرج بها بعد الحرب الاخيرة في عام 2003م وسقوط النظام الفاشي ايضا قد تكون قادرة على افراز واقع جديد، وناتج ابداعي جديد مغايرا لما هو سائد ومألوف وقد يكون المخاض عسيرا.
(ص208).
وبالفعل كان الباحث صائبا في تشخيصه لهذه المرحلة بعد (2003) والتي سبقتها لما برز من نتاج ادبي في مجال الرواية، متعقبا اسلوب السرد، الميتا سرد، والمزاوجة بين الخيال والواقع والحدث الواقعي الخبري وغياب البطل الفردي للعمل الروائي معوضا عنه بالبطل الجمعي، حيث توثيق الحدث الجمعي بأشكاله المختلفة بصورة سردية ميتافزيقية، وغيرها لا مجال لذكرها الان.
في هذا المبحث اختزل السرد المصري بما انتجه محفوظ دون الولوج الى اعمال روائية اخرى في حين ان مصر زاخرة ووفيرة بكتّابها امثال يوسف ادريس، يوسف السباعي، توفيق الحكيم، محمود تيمور وغيرهم. مع ذلك ان الباحث د. صبيح الجابر اكتفى بالروائي الكبير نجيب محفوظ كونه يمثل ابرز كتّاب المرحلة واشهرهم عالميا بعد حصوله لجائزة نوبل للآداب.
عموما يعد هذا الكتاب البحثي للدكتور صبيح الجابر وبمجمل ما تطرق اليه في التحولات في البنيات السردية وتطورها عبر العصور في العالم العربي مرورا بكل عصر وتناقضاته, المجتمعية والسياسية والدينية، فهو يبقى مرجعاً ادبياً مهماً في النقد الادبي العربي يعود اليه طلاب العلم والمعرفة في كل زمان ومكان لما من مادة قيمة، فنية ثرة تغني الباحث عن التقصي عن الجديد والجيد في بحثه إلا وهو مكتنزا في هذا الكتاب وذخرا للمكتبة العراقية اولاً والعربية ثانية.