نصيف الناصري، ظاهرة تتمرد على الواقع الحياتي والشعري، وفي غربته الشاقة كتب الينا صفحات من يومياته، ننشرها للتعرف على معاناة وحنين العراقيين الى وطنهم (م0ث).
صَيف السَنة 1980 قَبل نشوب الحَرب العراقية الايرانية. ذهبْتُ لأَوَّل مَرَّة في حياتي مَع الصديقين ناصر مؤنس ورحيم يوسف الى، أَولاً مكتبة أَبو يعقوب في الطابق الثاني ببناية قريبة مِن "الأورزْدي باك" بشارع الرشيد، ثًمَّ الى شارع المتنبّي، ثمَّ الى مقهى "البرلمان". كانت أعْمارنا صغيرة أنا 20 سَنَة ورحيم 19 وناصر 18، ونحلمُ في الكتابة والسَفَر وأشياء أخرى عظيمة. في مقهى البرلمان. عرَّفني ناصر ورحيم الى شَباب وشابَّات، البعض منهم شعراء وكثَّاب والبعض منهم طلبة يدرسون الفنون. فتيات جميلات يشربنَ الشاي ويلعبْنَ الشطرنج وكلّ واحدة معها آلة موسيقية، أو حقيبة مليئة بالكتب والرسوم. فتيات جميلات وجادَّات. بناطيل الجارلس والقمصان التي تُعْقد حول البطن والخ. ناصر ورحيم قالا لي":اسمع نصيف، نحنُ نأتي الى هذا المكان دائماً. يتوجَّبُ عليك أن تحاولُ المجيء معنا الى هذه المقهى في كُلّ يوم جمعة، مِن أجل اللقاء بالشعراء والكُتَّاب وو.". في اليوم التالي ذهبتُ الى "البرلمان" وداومتُ على الحضور في كلّ يوم، لحين اغلاقها وتحوِّلنا الى مقهى "حسن عجمي" القريبة منها. كانت التقاليد انَّنا نحنُ الشعراء الشَباب، لازم نحاولُ القراءة على الدوام، ولا نحاولُ اقتحام طاولات الأدباء الذين سبقونا في الكتابة. في البداية كُنَّا قَد تعرَّفنا الى الشعراء والكُتَّاب. كمال سبتي. خزعل الماجدي. زاهر الجيزاني. سلام كاظم. رعد عبد القادر. هادي ياسين علي. أمين جياد. صاحب خليل ابراهيم. زعيم الطائي. جنان جاسم حلاَّوي. في سنَوات قادمة سنتعرَّفُ الى شُعراء وكُتَّاب الستينيات طبعاً هُم معنا على الدوام، لكننا لم نكن أن نجرؤ على اقتحامهم. كان يَومنا يكون على الشكل التالي": بعد المرور على المكتبات، نلتقي في معهد الفنون الجميلة، ثم ننتقل الى أكاديمية الفنون، ثم مقهى حسن عجمي، ثم نادي السينما، ثمّ منتدى المسرح. المكتبة الوطنية. قاعات ومتاحف الفنون التشكيلية. في المساء نذهبُ الى بناية اتحاد الأدباء والكُتَّاب". مجموعة هناك، مجموعة هُنا والخ. أكثر مِن 10 سَنوات. أكثرُ مِن 14 سَنة. لا أحد منِّا استطاع أن يصدر مجموعة. الوضع صعب جداً.
عندما كُنت أَعيش في الأَردن السنوات 1994- 1998 تعرَّضتُ الى مضايقات كثيرة. شأَني شأَن سواي مِن العراقيين. استوقفتني سيَّارة شرطة وطلبوا منّي أَن أظهر لهم بطاقة الهوية، فأَظهرت لهم جواز السَفَر. عندي إقامة سَنوية وأَعمل وأستلم الراتب.
-":أنت عراقي يا عرص. ليشْ شَعَر راسك طويل، يا عرص.
-": من فضلك، لا تشتمني، أَنا أَعمل ضد نظام صدام
حسين بحماية الملك. قلت للضابط.
-": تشتم الرئيس صدام يا عرص، يا أَخو الكذا. أَحلق شاربك بالبسطار.
أَخذوني الى السجن. حلقوا شَعَر راسي، وبقيت مُدَّة اسبوع في الحبس. كُنتُ ذاهباً الى العَمل، أَمشي وأُدخِّنُ في شارع "تلاع العلي". استوقفتني مفرزة مِن الشرطة بلباس مدني. أَظهرت حسب طلبهم جواز السفر.
-":ليشْ تُدخّنُ يا عرص، يا حمار؟
لَم أَكن أَعلم أَن هذا اليوم، هو أَوَّل أَيَّام شهر رمضان. أَخذوني الى الحبس، وبقيت مُدَة اسبوع بعد أَن حلقوا شَعَر راسي.
مُنذ 20 سَنَة لَم أَر الشرطي في الشارع. يحضر الشرطي حين يطلبه الناس.
لَم ألتقِ الشَفيعَة مُنْذ 3 أَيَّام، ولَم أتَّصلُ بها، أَو هي تتَّصل بي. أَذهَبُ الى العَمل في الساعة السابعة والنصف صَباحاً، وأَعودُ الى البَيْت بَعد الساعة السابعة مساء، مُنْهكاً. بعد الاستحمام والعشاء وقراءة الأَخبار والفيس بوك وطبخ الطعام لليَوْم التالي، أَروحُ "أَنْطَمرْ" بعد الساعة العاشرة. ظُهْر هذا اليوم اتَّصَلتْ بي آنَّا"
-: مرحباً ناسيف كيف حالك، مشتاقة لك، اسْمَعْ ناسيف. أَنا اليَوْم خافرة في العَمل. أَنا الآن في بيْتك. سأَطْبخُ الطعام واشْتَريْتُ لك قارورة عرق أوزو. اسْمَعْ ناسيف. ليكن الغَداء يَوم غَد "البامية والرز ولحم البَقَر". عُدتُ الى البَيْت فوجدتُ الطعام المطبوخ والمائدة منْصوبة في غرفة الضيوف. في شَبابي تَورَّطْتُ بحُبِّ فَتاة شاعرة "حَلَمنْتيْشيّة" ومتسلِّقَة وهَربْتُ مِن الخدمة العسكرية الإلزامية بسببها عدَّة مَرَّات، وتشرَّدْتُ و"شُفْتُ الضيم". رَبحْتُ كتابة مجموعة عَن حُبّها العاثر. في صَيْف السَنَة 1996 بالعاصمة الأردنية، عَملتُ مَع فصيل عراقي معارض لنظام صدام حسين. كانت مُهمَّتي هي كتابة التحليلات الاخبارية التي تُذاع مِن الاذاعة الخاصَّة به، وتنطلقُ مِن عمَّان، وكتابة ريبورتاج كُلّ اسبوع في الصحيفة التي تصدر مِن لندن، والمساهمة في مقاطع تمثيلية تفضح بعض الظواهر في زمن صدام حسين، مَع البعض مِن الأَصدقاء الفنَّانين المسرحيين. باعتباري نصيف الغجري، لا علاقة لي في السياسة ولا التزم بِما "يَتَحوَّطُ منه السياسي الحقير" كُنْتُ على خلاف دائم مَع الجَميع بسبب الغباء ورعونتهم وطائفيتهم والخ. طردوني بعد 6 شهور . لا علاقة لي في الدولة الماضية ولَم أَعْمل في دوائرها، ولا الدولة الراهنة التي لَم أَعْملُ في دوائرها أَيْضاً. أَعملُ في التنْظيف 6 ساعات، ومِن ثُمَّ أَعْملُ على إدارة ماكنة القهوة، وفي الطابق الأَوَّل للدائرة التي أَعملُ بها. 58 غُرْفة للموظّفين. لازم قَبْل نَهاية الدوام،أَروح أَخرجُ كؤوس الماء، وأَكواب القهْوة والصحون مِن هذه الغُرف اللعينة.أَغسلها وأَعيدها بالعَربة الى المَطْبَخ.
أَنجزْتُ ليلة البارحة الجزء السادس مِن كتابي "الكرم خلف حائطه". أَبيات. مُقطَّعات مِن الشعر العربي القديم". في المُجلَّد الجديد 500 صفحة، اخترتُ الكثير مِن القصائد التي اعتبرتها مُهمّة، وغفلت عَنها كُتب النقد لأَسباب كثيرة. قصائد مِن عصر ما قبل الاسلام. العصر الأموي. العبَّاسي. الفاطمي. المملوكي. مِن المفروض أَن أَنشر كتابي، الجزء الأَوَّل "ديوان الجنس في الشعر العربي" ولأنَّني أَحتاج الوقت، فقد تعذَّر عليّ كتابة المُقدِّمة. الكتاب أَنجزْته قَبل 6 شهور. أَنجزت بعده ديواني الجديد ال 45 ب 50 قصيدة. أَذهب الى العَمل الساعة 7 صباحاً، وأَعود الى البيت. الساعة 7 مساء. الالتزامات الاجتماعية مع الشفيعة، والحياة الصعبة والخ. آملُ أَن أشرع بهمّة في إنجاز هذه الأَعمال ونشرها قبل نهاية السَنَة
يعي الشاعر العربي في عصر ما قبل الاسلام، مسألة قِصر العُمر ووجوده العابر في الحياة بأسى وحسرة، ويحاول وهو يحيا في بيئة قاحلة. لا تتوفَّرُ فيها الموارد الاقتصادية للعيش الكريم، أن يحيا حياته بكلّ الامتلاء قبل أن يحين أجله. يرتبط الحُبّ بالموت على الدوام عنده، وهو يعلم أن الارتواء مِن الحُبّ، يُخفِّف عنه ولو قليلاً صدمة زواله عَن العالم. كذلك يلجأ الكثير مِن الشُعراء الى الخمرة ويبذلون مِن أجلها أموالهم، وطبعاً هي قليلة. يلجأون الى اللعب والصيد. الرغبة في حياة اللذَّة تبدو واضحة في الكثير مِن النصوص التي خلَّفها لَنا هؤلاء الشُعراء. فعل الكرم واستقبال الضيف بسخاء ومحبَّة، فرضته الظروف القاسية للبيئة، وكان البخل أكثر الأشياء المذمومة لدى أولئك الناس. التأمّل والغوص في أعماق الذات والطبيعة وما وراء الوجود، مفاهيم اعتاد الكثير مِن الشُعراء على اكتناه أسرار العالم مِن خلالها. يظهر التأمّل لدى امرؤ القيس. عمر بن قميئة. طرفة بن العبد. أميَّة بن أبي الصلت. تأمّل مشبوب بعاطفة قويَّة حول الحياة والزَمن وسرعة مفارقة العالم.
في الصفحة 260 والصفحة 261 مِن كتاب " الحوادث الجامعة " لمؤلف من القرن الثامن الهجري، وهو المُسمى ب "الحوادث الجامعة والتجارب النافعة " ويُنسب لابن الفوطي. يتحدث المؤلف عن حوادث السنة 645 هجرية، في خلافة المستعصم الذي قتله المغول حين غزو بغداد. يورد هذه الكارثة التي حدثت في تلك السنة.
" وفيها، حدث بأَكثر أَهل بغداد أَمراض في حُلُوقهم وخوانيق، ومات بذلك خلق كثير، وذكرت امرأةٌ: انها رأت ف المنام امرأةً مِن الجِن تُكنى "أم عُنقُود " قالت لها، إِن ابني مات في هذه البئر، وأشارت الى بئر داخل سوق السلطان، ولم يعزّني فيه أَحدٌ، فلهذا أخنقكم. فشاع ذلك في الناس، فقصد البئر المذكورة جماعةٌ مِن العوام والنِّساء والصِّبيان ونصبوا عند البئر خيمة، وأقاموا هناك العزاء، وكان النساء ينُحن ويقلن:
إيّ أمّ عُنقُود ألا اعذرينا
قد مات عنقود وما درينا
لما درينا كلنا قد جينا
لا تحردي منا فتخنقينا.
وألقى الناس فيها الثياب والحُلي والدَّراهم، والخُبز واللحم المطبوخ والدَّجاج وأنواع الحلواء، وأشعلوا عندها الشموع. فلما أكثروا من ذلك عابه العُقلاء والأكابر وأنكره، فأمر الخليفة بمنع الناس من ذلك، فحضر الشحنة الى هناك وقال:" إن الديوان* قد أقام أم عنقود من العزاء"، وأمر بسدّ البئر، فتفرَّق الناس عنها.
* الديوان، ديوان الخليفة.
عُدْتُ صَباح هذا اليَوْم مِن مدينة "فورتسلاف" البولندية مَعَ الشفيعة، بَعد أَن أَمضَينا في بَيت أُمّها، وفي بَيت أَخيها 6 أَيَّام. احتفلْنا بالعيد ال 80 لميلاد العَمَّة الطيّبة أُمّها "باولا"، وقَدَّمْنا لَها الهَدايا وشربنا ورقصنا معها في بيتها العامر. أَطال الله في عُمرها. هَبَطت بِنا الطائرة في مَطار مدينة "مالمو" الساعة السادسة و 20 دقيقة. أَنا لازم أَروح الى العَمل وأَبدأَ الدَوام الساعة الثامنة. رَكبْنا الباص ومِن ثًمَّ أَوصلتني الشَفيعة الى مكان عَملي بَعد أَن رميَنا الحقائب في بيتها بسيّارتها. رَغبَت آنَّا كما في المرَّات السابقة حين نزور المدينة التي وُلدت بها، أَن تطلعني على بعض معالم تاريخها. زرْنا المُتْحف العسكري للمدينة، وراحت تشرح لي عَن احتلال جيوش جنكيزخان ل"فورتسلاف"، والاحتلال النابوليوني، والاحتلال البروسي، والاحتلال الالماني في الحرب العالمية الثانية. كُلّ مبنى يتمَّ تدميره مِن قبل الغزاة، يقوم الشعب البولندي بعد أَن يطردهم مِن أَرضه باعادته الى أَصله كَما كان. الكنيسة في هذه البلاد تُحوِّل بعض أَملاكها الى ملاعب رياضية. صالات للرقص. مستشفيات. مسارح. عمارات سكنية. تُقدِّمُ الكثير مِن الخدمات للنَّاس. ستزورنا العمَّة "باولا" بعد شَهرين، وبعد أَن تمضي في بيت الشفيعة وفي بيتي مُدَّة زيارتها. تُسافر وحدها الى نيويورك حيث أَمضت 21 سَنة مِن شبابها هُناك. تبقى شَهر تموز كُلّه ومِن ثُمَّ تعود الى بيتها في "فورتسلاف". تقول انّها ترْغب باستعادة ذكريات أَيَّام الشباب.

عرض مقالات: