من الجائز للمبدع في معظم الحقول الفنية ان يحول سيرته الذاتية ويومياته الى عمل إبداعي او عصف ذهني للكتابة الفنية طالما أن هذه السيرة تحوي تحولات ومحطات عنيفة وجدلية حادة في أحداثها ومواقفها، ويعصف بذهن المؤلف/المخرج (د. جواد الاسدي) منذ مغادرته البلاد نزيف الذاكرة بتجلياتها واحلامها وتداعياتها حين يعزف على اوتارها بطريقة حبلى بالمرارات والمسرات والاوجاع، ان فعل الذاكرة هو صورة حاضرة وليست ماضية فقط، صورة لمدينة الماضي والحاضر والحلم، صورة ينتابها شغف الحنين وكما تقول (سوزان سونتاغ)(حين ينتابنا الخوف نطلق الرصاص وحين ينتابنا الحنين نطلق الصور) وها هو في مسرحيته (حنين حار) يطلق صور الذاكرة ليس هياما وحبا فيها انما هو يتصدى للماضي من اجل الحاضر فالحاضر لديه اهم من الماضي في صيرورته وتشكلاته، حين يكتب عن اللحظة الحاضرة بتمظهرات الماضي القريب (اليوتوبيا) العراقية الحلم، انه يكتب الان عن ذاكرة المدينة من خلال نعي الذات بعكس مسرحيته السابقة (تقاسيم على الحياة) حين يكتب عن ذاكرة المدينة من خلال نعي المجتمع.
في عرضه الجديد يكشف (الاسدي) الذات (كاشفا او مكاشفا جراحها منفتحا على اسرار الروح الرفيعة، والذاتية الحقة وهي تتلاطم مع الفصول المريعة لوقائع العنف التي تدمغ وجودها، وتكاد تشكل سيرتها كذات ) ـ كما يقول المخرج رعد مشتت ـ فالشرخ الذي يصيب نسيج العلاقة بين (شوقية) وزوجها الفنان التشكيلي (جبار) هو استعاضة عن العلاقة المجدبة بين (الانتلجنسيا)(النخب المثقفة) وحراك القاع الاجتماعي الثوري، فلوحات (جبار) من وجهة نظر (شوقية ) لوحات فاترة لا انعكاس فيها للوقائع انما هي لوحات مهادنة مواربة جبانة، والطفل الموؤود الذي اجهضته (شوقية) هو طفل الحروب والصراعات طفل نما في بطن امه على اصوات قرقعة الرصاص والغارات الليلية، لا تريد له ان يخرج للدنيا لعالم اهوج بربري، وهي ايضا لا تريد لزوجها ان يكون ابا يعيد انتاج العلاقة التي كانت بينها وبين ابيها والتي سنبينها لاحقا، ان علاقة الزوجين وكل منغصاتها هي جزء من العلاقة الزوجية التي عاشها الاسدي في حياته، وهي ترميز لدور الزوجة في وأد حياة الفنان الفنية او الارتقاء بها في شكل من نكران الذات، وكذلك استدعاء الشهيد (عبد الله) اخو (جبار) هو استدعاء لآلاف الشهداء المغدورين واستدعاء لشقيق المخرج نفسه الذي طالته يد الارهاب، لذلك جاء شكل العرض وحبكته بوحا ذاتيا متعالقا بين (السيرة الشخصية)و(الوقائع) اليومية فاذا بها مكررة ذات شكل مأساوي دائري.
اما شخصية (شوقية) فهي كناية واستعارة لعقدة (الكترا) في التحليل النفسي بحبها الجارف لأبيها الموسيقي الذي كان ايقونتها ورمزها الذي اهانته السلطة واطاحت بمجده وهو تعويض عن غياب (جبار) نفسه في علاقته الحميمة معها فرجل الطفولة (الاب)هو الذي يغذي غريزة (شوقية) وعطشها الجنسي وكبتها، لذلك جاءت استرجاعات الاحداث الزمنية لـ (شوقية) في ذاكرتها مبررة دراميا فهي تحكي مناقب ومآثر والدها العازف ومعلم الموسيقى الذي علمها الغناء بـ(ميلوديات) (سليمة مراد) وحتى اختيار اغنية (هذا مو انصاف منك) جاء متوائما مع فلسفة الغياب حين يحرف المخرج بوصلته نحو الموصل حيث يقبع الاب المريض ومحاولة (شوقية) السفر اليه لعلاجه في اشارة ذكية لضرورة التوجه نحو هذا الجزء من الوطن والاهتمام به، اما (عمار) العازف المهووس بالموسيقى فهو نتاج الذاكرة ايضا فـ(الموسيقى ذاكرة) واحد تبدياتها ـ ممثلا لحلقة التواصل بين الاجيال واهمية التواصل بينها وهو الشاهد الوحيد الذي سيبقى ماثلا على تراجيديا الرعب والموت ومتواليتها التي تسحق البلاد الى اليوم .
اما الفضاء المسرحي وتأثيثه فقد جاء متوائما مع خطاب البوح الذاتي الذي تعيشه الشخصيات حيث المنصات والطاولة والكنبة الخلفية ذات المستوى المرتفع، فضلا عن اشتراع المخرج لستارة تفصل جزأي خشبة المسرح امامي وخلفي، الامامي جسد عليه الخطاب الاعترافي (الجواني) للشخصيات، اما الخلفي مثل ذاكرة (الحلم )وانتظار اليوتوبيا المؤجلة، وجاء المبرر الواقعي لاحتساء الشراب ـ لدفع حالات التداعي والارهاص لدى شخصية (جبار) لتعبر عما يجول في لا وعيها او استنهاض وشحذ الذاكرة لديه ـ سلسا معبرا ولم يغرقه الممثل بحالات السكر الشديد وتعتعتها المفتعلة انما قدم شكلا متوازنا بين حالات الصحو والسكر .. وبقيت الاشارة لفعل السينوغرافيا ودلالاتها البصرية التي تشكلت في ضوء تقنية المسرح داخل مسرح وهي طريقة قديمة جديدة يوظفها (الاسدي) كثيرا لتبرير المواجهة المباشرة بين ممثله والجمهور من جهة والممثلين وتحولهم الى متلقين من جهة اخرى بالاضافة الى اثراء القيم العقلية الواعية لدى المتلقي وليس الاستهلاكية الزائفة. بتنبيه وجودنا في المسرح . بجماليات الصورة السينمائية وابعادها ذات العمق التشكيلي والنحتي المؤثر بالخط واللون والحركة البطيئة المتوثبة بلا ثرثرة واطناب حركي مشوش.. اما الاداء التمثيلي للممثلين فجاء متباينا في جودته حيث استطاعت الممثلة (الاء نجم) ان تلعب شخصية (شوقية) بوضوح صوتي وتلوين لفظي وايقاعي متفرد، خصوصا في لحظات التمثيل الثنائية مع قرينها، اذ من الصعب على الممثل الحصول على تفرد ادائي (صولو) مع المخرج (جواد الاسدي) اذا لم يشتغل معه بأكثر من عرض ليتشرب اسلوبه وطريقته، في حين تجلى الممثل (مناضل داوود) في شخصية (جبار) ليضطلع بأداء حالات نفسية غاية في الصعوبة بين الضحك والبكاء بين الكوميديا المرة والغروتسك بين العمى والبصيرة بين الصحو والسكر، بتبديات عززت من نصاعة البومات اداءاته الباهرة سابقا بل وقفزت في احيان عليها .. والممثل العازف (امين مقداد ) بدور (عامر) اجاد في عزف مقطوعات موسيقية مؤثرة جاءت خلفية موسيقية للمشهدية المسرحية ودخوله كممثل يبدو انه جاء مضافا في مرحلة متأخرة من التمارين ـ اضاع عليه ضعف صوته وتشنجه بعضا من مناطق التألق والابداع التي كان عليها العرض بشكل عام .