كانت " عمارة يعقوبيان " أول رواية قرأناها لعلاء الأسواني في سنة صدورها .ولعل من بين ما تتميز به هذه الرواية أن للمكان حضوره المؤثر فيها بدءاً من عنوانها ، ومروراً بأحداثها المرتبطة به في تواشج يمنح المكان دلالة شموليته فيصبح واضحاً أنه يشير إلى مصر بما تنطوي عليه من واقع سياسي واجتماعي ، وأتيحت لنا مؤخراً فرصة قراءة رواية الأسواني الجديدة " جمهورية كأنّ " الصادرة عن " دار الآداب " عام 2018وهي خامس رواياته بعد : " أوراق عصام عبد العاطي " (1990) و " عمارة يعقوبيان " (2002) و" شيكاغو " (2007) و" نادي السيارات " (2013 ) ، وللمكان ، بتنويعاته ، حضور واضح فيها هي الأخرى لكنه حضور يتناغم مع الفعل الثوري هذه المرة ، وسنتنقل مع الروائي لنتعرف على هذه التنويعات.
تقع هذه الرواية في 519 صفحة موزعة على ثلاثة وسبعين فصلاً منها ما هو قصير، وقصير جداً (جاء الفصل 14 مثلاً في سطر ونصف)، وهي تتناول حدثاً كبيراً تمثل في انتفاضة الشعب المصري التي انطلقت في كانون الثاني 2011(وتعرف بإسم " ثورة يناير ")، وانتهت بتنحي الرئيس حسني مبارك عن الحكم. قد يبدوعنوان الرواية منقوصاً لأول وهلة، غير أن الأسواني عمد، على ما نرى، إلى توظيف حرف التشبيه " كأن " ليوحي بأن ما حدث لم يكتمل فظلت الثورة منقوصة، من وجهة نظره، حتى الآن.
تُستهل الرواية بإلقاء الضوء على شخصية اللواء أحمد علواني رئيس الجهاز (؟)، لتقدم من خلاله نموذجاً لشخصية المسؤول الكبير المتنفذ الموشوم بالفساد، فتعمد إلى إسقاطه. لقد ظهر علواني هذا بشخصيتين متضادتين: شخصية التقي الورع الذي لا تفوته صلاة وقد حج مرتين وأدى العمرة ثلاث مرات ولا تغادر مسبحة الاستغفار أصابع يده (لكنه لا يتردد في مشاهدة الأفلام الجنسية)؛ وشخصية الجلاد الذي يغادر آدميته ويستحيل إلى وحش ينهش لحم ضحاياه وهم أحياء.

 يشكّل ميدان التحرير في القاهرة مكان الأحداث الرئيس، وتتفرع منه أماكن ثانوية على أطرافه أو بعيدة عنه لكنها تظل على ارتباط بأحداثه. تنطلق الرواية من بيت اللواء أحمد علواني وهو يمارس طقوس ازدواجيته. وبيت اللواء " قصر ضخم مقام في التجمع الخامس على مساحة عدة فدادين، يضم حمام سباحة وملعب تنس وحديقة فواكه" (ص 17)، فضلاً على ما يملك من فيلات فاخرة في أماكن متعددة من مصر وفي باريس ولندن ونيويورك. ولعل في هذه الإشارة إلى الأماكن التي يملكها وتعددها وتنوّعها، وربما لا تخلو من مبالغة، ما يشي برغبة الروائي في فضح الفساد المستشري في الدولة. ومن مكان إلى مكان نقيض. يغادر علواني برجه العاجي: بيته، إلى مكان عمله ليكشف عن وجهه الآخر: " أمر عامل المصعد فنزل به إلى غرفة التحقيق. لفحه هواء القبو الرطب العطن، وانفتحت البوابة الحديدية فأصدرت صريراً كئيبا"(ص12)، وللنزول به إلى الأسفل دلالته، ففي هذا المكان تتضح صورة وجهه الحقيقي، يرى معتقلاً يخضع لدورة تعذيب فيأمر بمضاعفة تعذيبه وما يلبث أن يأمر بجلب زوجته ويأمر رجاله باغتصابها أمامه فيضطر المعتقل إلى الاعتراف.
وفي انتقالة ذكية يعطف الأسواني مجرى أحداثه نحو مكان في بيت اللواء: غرفة ابنته " دانية " مدللته التي ندم لأنه استجاب لتوسل زوجته فلم يرسلها للدراسة في جامعة كمبردج" وهاهي تختلط بأولاد الرعاع في جامعة القاهرة " (ص22). كانت غرفة دانية الفسيحة " اشبه بجناح فندقي فاخر، مقسمة إلى حجرة نوم وحجرة مكتب وحمام.. قطع الأثاث والديكورات كلها مستوردة من ايطاليا " (ص 56). لكن هذا المكان الباذخ شهد وجهاً من أوجه تمرد البنت على أبيها حين عاتبها لأنها لم تحضرالمواعظ التي يلقيها رجل الدين المستأجَر الشيخ شامل في الجناح الذي أفردته له أمها في البيت. فاجأته بالقول بأنها تحترم الرجل لكنها لا تتفق معه وصدمه قولها أنها تتعاطف مع الذين يتعرضون الى التعذيب، وسيوجع قلبه أكثر حين يعلم بأنها ستنزل مع المتظاهرين في ميدان التحريروربما بشكل اكبر عندما يكتشف علاقة الحب التي تجمعها بزميلها خالد مدني. لقد جمعت كلية طب القاهرة ، مكاناً ،بين دانية و خالد مدني مع سعة الفارق الطبقي القائم بينهما : هي ابنة اللواء علواني بما يعنيه رجل مثل أبيها ، و هو ابن سائق سيارة فقيركان يقود سيارة مدير مصنع للسمنت، وفي مكان العلم هذا استطاع أن يستقطبها فكرياً وبشجعها على الاشتراك في التظاهرات في الجو السياسي الذي كان ملتهباً آنذاك ، فقررت أن تنزل إلى ميدان التحرير لتسعف الجرحى من المتظاهرين ، وهما في طريقهما إلى المستشفى الميداني في ميدان التحرير" راح المتظاهرون في المسيرة يهتفون "عيش، حرية ، عدالة اجتماعية " وكان الناس في الشرفات والنوافذ يصفقون وأطلقت بعض النساء زغاريد أضفت جواً احتفالياً على التظاهرة ...... كانت دانيا مأخوذة بما يحدث حولها : كأنها تحلم ، كأنها دخلت عالماً سحرياً لم تعرفه من قبل " ( ص 194 ) وفي ميدان التحرير تشهد دانية مصرع خالد برصاصة أطلقها عليه نقيب يدعى هيثم المليجي ربما بايعاز من أبيها وتقرر أن تدلي بشهادتها ضد القاتل برغم اعتراض أسرتها. وكان خالد قبل ذلك قد أقنع أخته هند في شقتهم المتواضعة بأن تضع نفسها في خدمة التظاهرات. وترسم أسماء، إحدى شخصيات الرواية من خلال المكان، في رسالتها إلى زميلها مازن، إحدى صور الواقع المتردي في البلاد آنذاك: " ذهبت إلى التحقيق في العاشرة صباحاً، كما طلبوا مني في ورقة الاستدعاء، مبنى مديرية التعليم، من حيث القذارة والإهمال، معبّر تماماً عن حالة التعليم في مصر "(ص110).
ينتقل الأسواني بأحداثه إلى ميدان التحرير مرة أخرى حيث تندلع التظاهرات المناوئة للرئيس كل يوم، وفيه رأى "أشرف ويصا" الميدان ذلك اليوم " وجده مزدحماً عن آخره. كانوا مصريين عاديين، من مختلف الطبقات، نساء محجبات وسافرات. شباب من الطبقة المتوسطة وأناس شعبيون وريفيون يرتدون جلابيب " (ص 180) فيرسم بذلك صورة التلاحم الشعبي الذي أطّره المكان، و "لم يعد أحد فيهم يخشى الموت، كأنهم اتحدوا جميعاً في إرادة كائن عملاق لن يهدأ قبل أن يحققوا الهدف الذي نزلوا من أجله " (ص 225). وأشرف ويصا هذا قبطي أرستقراطي وضع بنايته الخاصة القريبة من ميدان التحرير في خدمة المتظاهرين، وأقنع شغالته إكرام بأن تجند نفسها لخدمة هذا الهدف، التقى في الميدان " رئيس اللجنة التنسيقية، المسؤول الأول عن الميدان، الدكتور عبد الصمد، وهو استاذ في كلية الطب تجاوز السبعين " (ص240)، وعرض خدماته لمساعدة الثورة. لقد حاول الروائي أن يقدم من خلال هذه الشخصية وارتباطها بالمكان صورة للتلاحم الشعبي ويضع الأقباط في موقع متميز وأن يجمع بين نموذج الأرستقراطي ونموذج الطبقة المسحوقة على صعيد واحد:" سوف يشهد الميدان بعد ذلك، يومياً ، وجود أشرف وإكرام وهما يحملان مئات السندويشات وصناديق المياه المعدنية في السيارة ... ليتولى الشباب توزيعها على المعتصمين " ( ص 240 ) وفضلاً على ذلك ، قام أشرف بفتح شقة الدور الأرضي في عمارته " وضع أشرف في حجرة ثلاثة أسرة لإسعاف المصابين وقام بتخزين المستلزمات الطبية في حجرة أخرى " ( ص244 ) . وتعرضت الشقة الأرضية، وكان فيها، ومعه إكرام، شابان وثلاث فتيات إلى حصار. كانوا " محاصرين من عشرين بلطجياً مسلحين بالسكاكين وبنادق خرطوش، وقد بدأوا فعلياً في اقتحام الشقة بعد أن قذفوها بالحجارة وكسروا زجاج النوافذ " (ص 328)، لكن شباب الميدان هزموهم.
ويتواصل تعدد وتنوع أماكن الرواية : فمن معمل السمنت حيت يطالب العمال بحقوقهم وهم يقفون في وجه عصام شعلان الذي يستغل تعبهم بعد أن باع ماضيه النضالي وارتضى أن يصبح أسير نزوعه الإستغلالي ، إلى شقته التي يمارس فيها ترفه " الصالة الواسعة مفروشة بطقم أثاث أرابيسك، والشرفة مزدانة بأصص الورد " ( ص264) ، ومن المستشفى الميداني في ميدان التحرير إلى مستشفى القصر العيني الذي ينقل إليه الشهداء والجرحى ، إلى بيت الحاج مدني حيث يساومه الشيخ شامل وأحد الضباط لقبول ديّة ابنه والتنازل عن الدعوى ضد الضابط القاتل فيركض، إلى قاعة المحكمة التي تمت فيها لفلفة قضية مقتل خالد مدني وصدر الحكم ببراءة القاتل، إلى مبنى التلفزيون الذي أقام جهاز المخابرات له مكتباً فيه ومارست المذيعة المشبوهة نورهان عملها في تزوير الحقائق وتشويه ما يحدث في ميدان التحرير ، إلى شقة القاتل هيثم المليجي ، التي كان أبوه مدير أمن القاهرة السابق قد أهداها له ، وهي " شقة دوبلكس من دورين في شارع 9 .... حجرة الجلوس والصالة والسفرة في الدور الأرضي، وثلاث حجرات للنوم في الدور الثاني مع أربعة حمامات " (ص 513)، لتنتهي الرواية بمقتل الضابط القاتل في عملية دبرها الحاج مدني ثأراً لابنه واحتجاجاً على براءة القاتل. هذه العملية تمت في مكان بعيد عن ميدان التحرير ومن قبل ثلاثة قتلة محترفين، ولكون المكان الذي تمت فيه خارج ميدان التحرير وعلى أيدي قتلة محترفين دلالته التي تومئ إلى براءة المتظاهرين من مثل هذا الفعل الانتقامي.

عرض مقالات: