ان التصورات البصرية الأولى لا تقدم سوى الشيء اليسير عن تلك الأرض النائية المتمادية في القدم، لما تحفل به تلك الأنحاء من آفاق مطبوعة بالصمت، وملأى بالوعود والكشوفات الصامتة انها متكتمة دوما وما تبوح به غير مناط بالكلمات ان المرء لتأخذه الرغبة في الكشف عن أسرارها المجهولة والماثلة في خبايا العالم النائي، وعبر تلك المسافات الممتدة في الأعماق الفسيحة والشاسعة التي من بينها ما يظاهر مدينة (الطوَيِّل) التي لا تقف امتداداتها عند حد صريح مرئي، لم تكن المدينة بمعزل عن تقلبات هذه الارض، ولم تصبح ممكنة الوجود الا بعد خيارات شتى، فهي ثمرة لظروف بيئية دائمة التغير لذا طاب لها التقنع خلف أسماء متعددة، كـ (الطويل) و(الحمل) و(المجر الصغير) واخيرا عينت وجودها على ضفاف نهر (البتيرة) وتفرعاته المسماة بالتركية و(أبو جصانة) و(أم العظام) ولم تستكمل حضورها العياني الا بعد وقت طويل من نشأتها اما سكانها فلا شيء يفوق اهتمامهم أكثر من شدة تذوقهم (للقصص الاسطوري الشعبي) لقد ظلت ذخائر الماضي في هذه الأرض مصدرا دائما لدهشة القادمين إليها وعبر ما يشاع حول كوكبة (التلال المتشابهة) فيها، وتشير المخططات المتوفرة إلا أن ثمة مدنا طمرت هنا في عهد بعيد من التاريخ وما برحت ساكنة تحت الأرض خلال عمرها الطويل، ان البعض يسوق براهينه عبر معطيات المأثور الشفاهي الشعبي فيفيد : بان هذه الحصون الصحراوية كانت بمثابة نقاط اتصال لتعزيز خطوط التمويل ومراكز الإمداد وإدارتها ويستدلون على ذلك من أسلوب إعدادها لهذا الغرض الذي يخص المواصلات الحربية لمن يتلقاها، بسرعة فائقة ومما يدل على ذلك ما توحي لنا به تلك المسافات المتساوية بين تل وآخر وبالمقار الذي يسمح لفارس بالإغارة على ظهر جواده لمرة واحدة، حيث يكون بمقدوره الالتقاء بفارس آخر ينتظره عند أقدام التل الذي يليه مباشرة، حيث تتم عملية تسليم وتسلم البريد العاجل بينهما، قبل ان تضعف طاقة جواديهما عن العدو السريع وهكذا دواليك ومن شأن هذه الآلية التي تقوم بوظيفة تسريعية وهي آلية مبتكرة ومرهونة بسجال متكرر، أن تضفي على المفهوم المكاني الثابت للتلال أدوارا تعجيلية متحركة، لبلوغ الهدف المنشود بسرعة تراسلية قياسية يندر وجودها في ذلك الزمان وتلعب دورا مشابها لعلامة سير الطرق وإشارات المرور في وقتنا الراهن ان تل (الهفة) الذي يقع على مقربة من كوكبة (التلال المتشابهة) يبوح لنا ببعض اسرار معالمه، نلتقط مفتاحا من لوحة المغالق السحرية، ونصغي صامتين : يراود الناس هنا إحساس طاغ بوجود معالم آثارية لمدينة كبيرة ذات اهمية تجارية مؤثرة، وقد فقدت تلك المدينة أهميتها فجأة وضاعت في مجاهل العصور الفانية، ومنذ ان تخلت ملكتها (هيفاء) عن حكم رعاياها الذين انقادوا لقوى الشر وتفشت بينهم مظاهر الخطيئة وسوء التنعم بالخيرات الأرضية وعقابا على عدم امتثالهم للأمر (الالهي) بالكف عن ذلك فقد امطرت السماء عليهم وابلا من غبار، وفي أثناء التهاطل الغامض لزخات الغبار، كان احد صيادي الاسماك يصيد صيده في برك البطائح القريبة المجاورة، فآثر المكوث مكانه كملاذ امن من محنة كهذه، وحينما لف المدينة صمت فاجع وبدت غير مأهولة بالسكان خرج واستطاع بمعونة سحرية غامضة انتزاع الملكة من أعماق الغبار الأرضي وهي حية معافاة ليتزوجها بعدئذ لقد عانت تلك المدينة في زمن نجهله من ذلك المصير الاسود كقدر محتوم وهي ترقد اليوم تحت اعماق هذا المنظر الخرب لتل (الهفة) الذي كانت تحيطه المياه من كل جانب فيواصل تراسله الخادع بأعجوبة مع الناظرين لا سيما في الليالي المقمرة ليوهمهم بحركة دائبة من التطواف المتهادي ان حركاته الضمنية تلك التي كانت توحي بالعوم الدائم فوق المياه إنما هي علامات تراسلية غامضة تتراءى عبر (وهم الحركة لشيء ثابت) وقدرتها اللامتناهية على الخداع البصري .
ووسط الابعاد الشاسعة للبيئة وفي قلب الفضاءات الجرداء التي لا يجوبها سوى البدو والرحالة الرعاة حيث الاماكن القصية صعبة البلوغ، التي تمتد الى أبعد مما تراه العين، وحيث لا يلوح في الأفق سوى بيت البداوة الوبري وفي صمت السكون الشامل لذلك المنأى المكاني، يكون بوسعنا الكشف شيئا فشيئا عن مستودعات الأسرار القابعة في أعماق تلال (ام التنانير) و(امهات الأرانب) و(جدر أم عاكول) و(العالية والطويلة) متأملين فيها تقلبات الأيام وصروف الزمن، في وسط هذه العزلة التي تمثل ضربا من الاختلاء القاسي، لكنها في الآن نفسه، عزلة مشاركة عبر استكناه أوجه التراسل الخفي بين تلك التلال والتلال النائية الأخرى، التي توحي بحضور أزمنة سحيقة ظلت شاهدا على هذا النتاج المشترك لتجربة الأرض والانسان إنه ضرب من الاتصال المتواري خلف المرئيات العامرة بالإشارات والنداءات السرية وما الشفرات التي تبثها الامكنة هنا الا تعبيرا عن روحها المتنقلة في الأرجاء، فهي ليست فسحا معزولة او بقعا عمياء فاقدة لاتجاهها إنها تمضي في أنساق متراسلة لتنقل إشاراتها بعيدا، فتلامس التلال المحيطة بمدينة (كميت) وسفوحها الملأى بالقبور التي تجاوزت أسوارها أو تتجه شمالا حتى تصل إلى مدينة (باذبين) وتواصل إيغالاتها التراسلية قاصدة مدينة (فم الصلح) الآثارية، التي أخلاها الزمن وهو يتقدم برحلته ولم يترك غير المعالم العمرانية الفخمة لقصر الخليفة المأمون الذي أمر بتشييده إبان زواجه بـ (بوران) بنت الحسن بن سهل، وتدل الوحدات البنائية لهذا الصرح والبهاء الذي يميزه بأنه من مآثر ذلك العصر، فسعته وتكويناته توحي بأنه من القصور العباسية المترفة، أما البيوت الأخرى في هذه المدينة فتتحاذى متساندة ظهرا لظهر لتوحي بتراسل غريب او بوح متقارب فيما بينها.
1 الاسم البدئي لمدينة السلام والتي تقع جنوب محافظة ميسان حالياً.
2 أسماء تدل على المدينة ذاتها عبر حقب تاريخية متغايرة وهي بمثابة تنويعات إشارية تحيل الى مدينة واحدة وتتراءى بأقنعة شتى.
3 نهر يتفرع من دجلة وبدوره يتفرع الى ثلاثة تفرعات ثانوية تتلوها تفرعات أخرى ويمثل نسغ المدينة المائي وتشجيرا لعلامات النماء فيها.
4 تلال متناثرة في جزيرة (بغيلات) النائية ويفهم الناس المحليون اشاراتها عبر شعلات النيران التي تعلو قممها ليلا.
5 مدينة تقع شمال محافظة ميسان وتضم سفوح تلالها رفاة الشاعر كميت بن زيد الاسدي.
6- الاسم السوراني القديم لمدينة علي الغربي التي تقع شمال مدينة كميت آنفة الذكر وترجمتها عن السورانية تعني مدينة البيادر او صوامع الغلال.
7 فم الصلح مدينة آثارية تقع الى الشرق من مدينة علي الغربي.

عرض مقالات: