الإشكالية الكبرى، التي تعاني منها السلطة الحالية، هي كيفية التعامل مع ثقافة الشباب التغييرية التي تطالب بـ "وطن" او استعادة الوطن، وهي أي السلطة لا تملك الوطن، فقد وزعته إرثاً بين جهات ثلاث، ثم عادت وقسمته حصصا على الورثة، ككتل وأحزاب للسلطة، وهؤلاء الورثة استنفدوا حصصهم، ولم يتبق شيء يمكن تقديمه للشباب. وقبل الدخول في تفاصيل الموضوع، لا بد ان نشير الى مقولة لأبي حيان التوحيدي، عبر فيها عن واقعه المؤلم، ويؤسس حياته وغربته في وطنه وهو يقول:
"اغرب الغرباء من كان غريبا في وطنه
وأبعد البعداء من كان بعيدا في مكانه قربه"
هذه المقولة مضى عليها أكثر من ألف عام وماتت في عصرها، غير ان المفاجأة التي باغتت الجميع، هي ان هؤلاء الشباب المتظاهرين، ثم المنتفضين، ثم الثائرين بعد ان أصبحت انتفاضتهم ثورة اجتماعية وسياسية وثقافية، أحيوا هذه المقولة الخالدة للتوحيدي، ففاجأوا الجميع بمطلبهم الكبير "نريد وطن" او نريد استعادة وطن.
هذا المطلب الذي أدهش أصحاب السلطة لم يأت من نزق شبابي، او غرور فتية صغار كما ينظر إليهم أصحاب العقول المتكلسة، وانما أتى من معاناة قاسية في وطن كوطن التوحيدي ضاعت جميع ملامحه، ثم اقتيد سبيا ليباع في سوق النخاسة، الذي اقامته سلطة لا تعرف معنى السلطة، ومسؤولياتها ولا تعرف وظيفتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولا تعرف حتى معنى الوطن.
لذلك جاء هذا الجيل من الشباب والشابات بانتفاضة اذهلت العالم، انتفاضة لا تعرف الملل او الكلل، انتفاضة مستمرة لا تفرق بين الليل والنهار، لتضع حكام الوطن ومستبديه في قفص ضيق بتهمة بيع الوطن، ولن يفرجوا عنهم الا بعد استعادة وطنهم المباع، ثم تقديمهم الى القضاء. بعدها تنطلق عجلات التغيير والتحرر، والتقدم والتطور في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لبناء وطن، كأي وطن من اوطان العالم المعاصر المتحضر.
ان من يمتلك هذه الرؤية المعاصرة، لا خوف عليه، ولا هو يخشى الموت، او هذا العنف الدامي، الذي يواجه به يوميا من قبل السلطات التي كشفت عن نفسها بانها سلطات استبدادية تلبست بلباس الديمقراطية من اجل الوصول الى السلطة.
ان ما يلفت الانتباه، هو هذا التشبث العجيب بساحة التحرير، وتحت هذا النصب العملاق، الرمز، "نصب الحرية"، الذي انتجته عبقرية فنان عراقي من هذا الشعب، وهو ينشد الحرية والانعتاق من ظلم المستبدين، وهو يعبر عن ذلك من خلال فنه الإبداعي.
والشيء الآخر اللافت في عاصمة الانتفاضة "ساحة التحرير"، ان الابداع الفني قد رافق حركة الشباب وتضحياتهم الفادحة، فقد راحوا يستخدمون مقذوفات موتهم، ومخلفاتها في إنشاء اشكال فنية مبهرة في تعبيراتها ودلالاتها السلمية، مقابل عنف السلطة ودمويتها اللامحدودة.
هذه الحركة البسيطة في شكلها والعميقة في دلالاتها الإنسانية والحضارية، اطلقت العنان للإبداعات الأخرى، وبلا توجيه من احد، تحركوا تلقائياً، فرقة لتنظيف الساحة "الرمز"، وفرقة لطلاء الأرصفة والجدران، وفرقة لتهيئة "المطعم التركي" ليكون مركزاً لاستراحة الثوار ومقرا لبرلمان الشباب وغيروا اسمه ليكون "جبل احد" وزينوه بصور شهدائهم الشباب.. بعدها انتشرت خيم الابداع: خيمة للأدباء وأخرى لجواد سليم، وخيمة أخرى للسينمائيين والمسرحيين، وأخرى للموسيقيين وأخرى للسياسة والفكر وأخرى للمحامين وأخرى للعقل والتنوير وخيم أخرى للأطباء والمسعفين..الخ.
الامر الذي يؤكد بالملموس ان هذه ليست تظاهرات عابرة يمكن قمعها بسهولة، هذه ثورة للتغيير، ثورة اجتماعية وثقافية وعلمية معاصرة، ثورة تريد اللحاق بالعالم في مسيرته التطويرية والعلمية والعقلية والثقافية، ثورة تعبر عن طموح الانسان العراقي وتستجيب لتطلعاته، اذ ان التغيير من هنا يبدأ وليس من عام 2003.
حقا لم اسمع عن حركة ثقافية قد رافقت تجارب الثورات التغييرية الاجتماعية، فما حصل عندنا في العراق ان الثورة الشبابية في تلاحم وتنسيق مع الحركة الثقافية، فالحركة الثقافية تدافع عن الثورة الشبابية، والاثنان يسعيان للوصول الى اهدافهما ومبتغاهما المشروع.
فما حصل في مصر مثلا قديما، ان نابليون حين احتل مصر عام 1798، رغم انه محتل واستعماري، لكنه وضع اللبنات الأولى للنهضة، التي تستجيب للعصر، وكذلك تستجيب لرغبة حاكم مصر الخديوي محمد علي باشا، فقد افتتح مدرستين تنهجان الطرائق الحديثة في التدريس، بدلا من نظام (الكتاتيب) كما انه افتتح لأول مرة جريدتين في مصر، وافتتح مسرحاً للتمثيل. وبهذا يكون قد وضع الأساس للوعي والتنوير وثقافة العصر الحديث والذي تعيشه اوربا وبداية لعصر حديث للامة المصرية، وقد حصل هذا في مصر قبل 220 عاماً.
هذا يعني ان النظام في مصر، هو الذي وضع أسس التحضير الاجتماعي والثقافي والفني، ولاقى هذا المشروع اقبالا اجتماعيا، والسؤال المطروح اليوم، هو هل لسلطتنا الحاكمة اليوم اهتمام بهذا الاتجاه الذي يبني هوية الدولة الحضارية والثقافية؟
وبعد مرور قرن من الزمان على هذه البداية الحضارية، أعلن الشاعر خليل مطران من مصر عام 1900 في بيان نشره في مجلة "المجلة" يدعو فيه الى تحرير الشاعر الذي كان يقف على رأس هرم الثقافة آنذاك، وقد جوبهت دعوته بتساؤلات عديدة. كيف يمكن تحرير الشاعر، وممن؟ اجابهم مطران: من الواقع المصري والعربي عموماً.
الشاعر العربي (المثقف) اسير أصحاب المال والجاه والسلطة، فهو يكتب القصائد الطوال بناء على طلبهم، وفي مناسباتهم الخاصة: الولادة، والممات، والمديح بعظمتهم وكرمهم، يكتب لهم ما يريدون ولا يكتب ما يريد هو، يتغزل نيابة عنهم بما هم يريدون التغزل به. بهذه الطريقة كان الشاعر اسيراً أيام الحكم العثماني، فاقداً لحريته ومشاعره واحاسيسه، يبيع ما يقول لكي يعيش هو وعائلته، فهو لا يملك شيئاً لكي يعيش عليه، لذلك هو اسير وبه حاجة الى التحرير في وطن ينتمي اليه روحيا ولا ينتمي اليه وجودا كمواطن. وهذا هو حال العراقيين اليوم، وخاصة جيل الشباب، الجيل الذي لا يمتلك شيئا في هذا الوطن سوى ارواحهم التي يقدمونها قرباناً لاستعادة الوطن.
هناك ثلاث قضايا يمكن التأكيد عليها:
القضية الأولى: حين سقط نظام الاستبداد عام 2003 كنا نأمل ثلاث سنوات كفترة انتقالية بين تراكم الخراب، وبين احداث نهضة بنائية وحضارية وفكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية بهدف تغيير واقع العراق كوطن للجميع، وعادة ما تحدث مثل هذه التغييرات وهذه النهضات والتطورات بعد ان تمر البلدان بأحداث كبرى.
حقا كانت بعد التغيير عام 2003 حركة دؤوبة للمثقفين والسياسيين المدنيين، تهدف الى احداث نهضة حضارية مدنية وثقافية وتنويرية، فاجتمع المثقفون من داخل العراق وخارجه، واستوزر للثقافة وزير من بينهم، وعقدوا لقاءات ومؤتمرات وأصدروا وثيقة مهمة لإصلاح الثقافة العراقية، التي تعرضت لهزات عنيفة على مدى العقود الماضية. غير ان النوايا الطيبة كانت تسير في واد والسلطة السياسية الجديدة، المعول عليها في رعاية الثقافة كانت تسير في واد آخر، تماماً، مثلما كان مفهوم الادب طيلة القرون الماضية يعني الاخلاق الحسنة والتربية القويمة، ومن يقوم بهذه المهمة يطلق عليه (المؤدب) وبهذا ضاعت الجهود وضاع معها كل مطمح بالنهوض والتغيير.
القضية الثانية: التي بنيت عليها تصوري، أي فترة الثلاث سنوات الانتقالية، فقد انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918 وتشكلت الدولة العراقية الحديثة عام 1921. وفي هذا العام 1921 أصدر محمود احمد السيد أول رواية له بعنوان "في سبيل الزواج" ثم أصدر رواية أخرى بعنوان "مصير الضعفاء" ومجموعة قصص "النكبات"، فقد كانت فترة السنوات الثلاث فترة مهمة ايقظت الجو الثقافي وحركت السيد باتجاه تجريب الكتابة في هذا الفن الادبي الجديد، وعلى الطريقة الواقعية الحديثة بعد اطلاعه على الروايات والقصص القصيرة الروسية وبعض القصص المصرية، وهو شاب في العشرينات من عمره. واستمرت تجربة السيد الأولى تتفاعل وتتطور وأثبتت وجودا ادبيا وثقافيا ونقديا كبيرا قياسا بذلك الواقع المتخلف.
هكذا أثر هذا الحدث العالمي الكبير، حدث الحرب العالمية الأولى في وعي الشباب ودفعهم الى البحث عن كل ما هو جديد في الثقافة العالمية وما حصل فيها من تطور كبير.
أما القضية الثالثة التي حصلت بعد ثلاث سنوات وفي مجال الادب ايضاً، فقد توقفت الحرب العالمية الثانية عام 1945 وهي حرب كونية عظمى راح ضحيتها ملايين البشر، وعزز المستعمرون وجودهم العسكري في البلدان المستعمرة. وبعد توقف الحرب بثلاث سنوات أيضا وفي مطلع عام 1948 صدر ديوان الشاعر الشاب بدر شاكر السياب في القاهرة بعنوان "ازهار ذابلة" وفيه قصيدة بعنوان "هل كان حباً" نظمت على طريقة الشعر الحر او شعر التفعيلة، او الشعر الحديث، وقد تخلى السياب عن القصيدة العمودية او قصيدة الشطرين والقافية الموحدة.
وقبل شهرين من صدور ديوان السياب كانت الشاعرة نازك الملائكة قد نشرت في احدى الصحف المصرية "قصيدة الكوليرا" ونظمتها أيضا بطريقة الشعر الحر، ثم تبع ذلك الشعراء الشباب عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، وبالمناسبة هؤلاء الشعراء الشباب الذين أبدعوا الشعر الحر كانوا من مواليد عام 1926 باستثناء نازك الملائكة التي تكبرهم بقليل، فالسياب والبياتي والحيدري لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين عاماً وقت كتابتهم للشعر الحر.
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 شهدت البلدان العربية المستعمرة وغير العربية، حركات تحررية تطالب بالاستقلال وحرية الشعوب في تقرير مصيرها، وسميت بحركات التحرر. في ذلك الوقت كانت الأجواء الجماهيرية حماسية وثائرة وهي تطالب بحرية الشعوب وبناء دولها المستقلة غير الخاضعة لأي محتل مهما كانت عظمته. وفي ظل هذه الأجواء شهد شباب العراق من الطلاب والعمال ومن مختلف فئات الشعب حركات جماهيرية وهبات وانتفاضات تطالب بكسر القيود الاستعمارية وتحقيق الاستقلال الناجز.
هذه الأجواء جعلت الشعراء الشباب يفكرون بكسر قيود وسائلهم التعبيرية (الشعر) من قوالبها الكلاسيكية المعيقة، وغير الملائمة لموضوعاتهم ولغتهم التي يخاطبون بها الناس شعراً.
ومن الجدير بالذكر ان مثل هذه الحركة ليست بالبسيطة، فقد اثارت غضب الشعراء الكلاسيكيين، حراس القديم، ضد هؤلاء الشباب الذين ينزعون نحو التغيير والتطوير، فقد شهدت صفحات المجلات الأدبية والصحف العربية نقاشات حادة بين مؤيد ومعارض لكن صمود الشعراء الشباب العراقيين استطاع ان يتغلب على جميع هذه السجالات والانتقادات اذ ان صمودهم واستمراريتهم نجحا في تغيير بنية القصيدة العربية منذ العصر الجاهلي وحتى الآن، حيث اصبح شعر التفعيلة او الشعر الحر هو السائد والمألوف لدى شعراء العربية وقرائها، واصبح هؤلاء الشعراء الشباب قوة ثقافية وفكرية وسياسية لكل الانتفاضات والهبات الجماهيرية، التي حصلت في العراق، ولولا صمود هؤلاء الشعراء وثباتهم لما حصل التغيير.
واليوم نجد ان صمود شبابنا الثائر في ساحات الاعتصام هو الضامن الوحيد لوصولهم الى أهدافهم التغييرية التي هي اهداف المجتمع العراقي بأسره. صحيح ان الفارق كبير بين مهمة الشباب في زمنين مختلفين لكن ما يميز حركة الشباب اليوم والامس هو وقوف الاثنين في خندق واحد لتحقيق هدفين متلازمين، هدف بناء الدولة الحديثة، وهدف بناء هوية العراق الثقافية المستجيبة لمتطلبات العصر.

عرض مقالات: