قراءة الأثر تتحول الى مجال اركيولوجي للكشف عن المضمر، والمخفي، وعن مافي الصراعات العميقة من اسرار، ومن أنساق ثقافية مُهرّبة، وهذا ما يُعطي للقراءة زخما، وقوة، وفضاء للتمثيل الذي تفترضه تلك القراءة في صياغة المجال السردي، إذ يفتح هذا السردي أفقا لقراءة التاريخ والوثيقة بوصفها أثرا في الواقع وفي التداول، وإذا كان الروائي علي بدر المشغول بسرديات الاثر والوثيقة من أكثر روائينا بحثا عن النسق الثقافي المُهرّب في هذه السرديات، فإنه يبحث ايضا عن التعالقات الحادثة مع السياسي والاجتماعي والأنثروبولوجي.
سردية التعالق هي مجال للتناص، وللتفاعل النصي، ولاستكناه ما يتبدى منه في الواقع/ الحدث، وفي سيرة الشخصيات، وفي طرائق تعبيرها عن ذلك التعالق، عبر تمثلات الهوية السردية، والشخصية السردية وفي الزمن السردي، وهي تمثلات تجد اطارها الداخلي عبر علاقات وصراعات محددة، وتجد اطارها الخارجي عبر ما تستدعيه من شفرات ورموز تشكّل جوهر المادة الحكائية من جانب، وعبر ما تفترضه من مرجعيات يدخل الايديولوجي والانثربولوجي في صياغة تعالقهما ومناصهما.
العلاقة مابين التاريخي والسردي/ الروائي هي جوهر ما يشتغل عليه علي بدر، لأنه يُثير أسئلة إشكالية مفتوحة، مثلما يضع السردي في سياق لعبة البحث عن المخفي والمُهمَل والمقموع، والتي تدفع الروائي الى مواجهة مهيمنات غير مأمونة من التخيّل، وحين تعالجُ هذه العلاقة موضوعاتٍ غامضةً وملتبسةً في حياتنا، وتصطنع لها وقائع مُتخيلة وأقنعة، نجد أنفسنا أمام معطيات من الصعب الإطمئنان لها، والوثوق بمرجعياتها، لكنَّ ذلك- بالمقابل- يتحوّل الى حافز لوظائفية ذلك المتخيل، بوصفه مجالاً تعبيريا يستغرق ماهو وجودي أو غائر في شبكة علاقاته النصية، حيث ينزوي التاريخ بمسكوتاته ورواته ومُخبريه وبصاصيه و(علم رجاله) أمام فاعلية السرد وشراهته..
كتاب الباحث محمد فاضل المشلب (الأنتلجينسيا العراقية في عالم علي بدر الروائي- دراسة في الرؤى والتمثلات) الصادر عن دار الرافدين/ بيروت/ ودار وراقون/ البصرة 2016 يضعنا أمام قراءة مكشوفة لمقاربات على بدر وأطروحاته حول(سردنة التاريخ) والطبائع السرية لمقموعه، ولأنساقه المُضمرة عبر عوالم شخصياته الثقافية والمشوهة والمثيرة للجدل، وعبر رؤيته للتاريخ العراقي بوصفه أحداثا ووثائق وصراعات وتمثلات..
الروائي العراقي علي بدر إختار مقاربة موضوعة الأنتلجنسيا في التاريخ العراقي المعاصر بوصفها مادة حيوية للسرد، فقد انحنى عبر معالجاته الروائية على موضوعات تخص الأنثربولوجيا العراقية وتحولاتها وسرائر صراعاتها في العقود الأخيرة من القرن الماضي، إذ باتت موضوعات الهوية والذات والجنوسة والحرية والسلطة(حيزا) يتسع لقراءاته الثقافية والحفرية، لاسيما عالم الطبقة الوسطى العراقية الحاضنة للجماعات الثقافية، بوصفها الطبقة الأكثر تمثلا للتحول، والصراع والاغتراب..
يضعنا الكاتب المشلب أمام عتبة تمهيدية لتوصيف الأنتلجنسيا من خلال التعريف بظاهرة المثقف تاريخيا، وعبر تحديد التسمية والمفهوم، إذ تحولت حادثة النقيب الفريد درايفوس الى قضية رأي عام هزت المجتمع الفرنسي، وكان من أبرز المدافعين عنه الروائي أميل زولا، فضلا عن إهتمام عدد من رجالات الدين والثقافة العرب مثل رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي، فضلا عن تعالق هذه التمسية بظاهرة المثقف العضوي عند الإيطالي غرامشي، بتوصيف وظيفي لهذا المثقف المنتمي والمناضل، مقابل الصورة النمطية للمثقف التقليدي، كما حاول الكاتب أن يستقرأ صورة المثقف الأنتلجنسوي عبر أطروحات هشام شرابي، وأدوارد سعيد وهادي العلوي وعبد الله إبراهيم، فضلا عن انحنائه على مقاربة الانتلجنسيا في عديد القصص والروايات العراقية، والتي حاولت أن تضع المثقف في سياق اجتماعي وثقافي وسياسي مضطرب ومشوه، وإزاء العديد من التحولات والصراعات التي يجد المثقف نفسه في أتون أسئلتها ومعطياتها أو عند هامشها، كما في قصص عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، أو عند رواية محمود أحمد السيد(جلال خالد) أو عند روايات ذو النون أيوب وروايات غائب طعمة فرمان وغانم الدباغ وعلي الشوك وغيرها.

الرواية وصور المثقف

احتوى الكتاب على ثلاثة فصول تجوهرت حول نظرة الكاتب لمقاربات علي بدر السردية وقراءاته لعلائق المثقف العراقي بالهوية والجماعة والتاريخ، وعبر أنموذج الشخصيات التي يختارها..
الفصل الأول حمل عنوان (الأنتلجنسيا والآخر) وعبر ثلاثة مباحث(المثقف والسلطة، المثقف والمرأة، المثقف والتراث) إذ يضعنا الكاتب عبر رواية(الوليمة العارية) أمام لعبة الروائي علي بدر وهو يحدد ملامح هوية بطله الثقافي في شخصية(منيب أفندي) الباحث عن اسلوب حياة مختلف، وذي طابع أوربي مشوّه، مثلما يضعنا أمام الشخصية الضد، حيث أنموذج(رجل الدين) عبر شخصية الشيخ أمين، والذي يحاول عبره استعارة صورة الشخصية المشوهة في وعيهان والرافضة لقيم ومظاهر الحداثة والغربنة عبر العودة الى فكرة السلف الصالح..
وعلى الرغم من وجود العديد من الروايات التي كتبها علي بدر، والتي يمكن من خلالها استقراء علائق المثقف بالنسق السياسي، إلّا أنّ إختياره الكاتب لرواية (الجريمة، الفن، وقاموس بغداد) يثير تساؤلا حول مرجعيات هذا الإختيار لرواية يشتبك فيها التاريخ السري لمدينة بغداد مع استبداد السلطة ومع أحداث تمسّ العالم العميق لمدينة بغداد التاريخية..
وفي المبحث الثاني (المثقف والمرأة) حاول الكاتب مقاربة موضوعة تعدّ هي الأخطر في روايات علي بدر، إذ أنّ المرأة المتخيلة في هذه الروايات هي امرأة مشوهة، فهي أنموذج للمرأة العاهرة والعشيقة والضحية والخائنة، وأنّ المثقف يمارس وعي بطولته المخذولة والمشوهة من خلال غمار اللذة والخداع، والايهام بالفحولة التعويضية، وهو ما تبدى واضحا في روايات "بابا سارتر" و"الركض وراء الذئاب" و"صخب ونساء وكاتب مغمور" و"حارس التبغ" وغيرها..
وفي مبحث (المثقف والتراث) نجد أكثر إهتمامات الروائي علي بدر حضورا، إذ هو مشغول بالتاريخ السري العراقي، وبفكرة الوثائق التي والمخطوطات تدوّن هذا التاريخ، ولعل ما ورد في موضوعة الوثيقة في رواية بابا سارتر هو ابراز للحمولة الرمزية لوظيفة المثقف الشائهة والمشوهة في هذه الوثيقة، فضلا عن أنّ انشغاله بتاريخ الصراع السياسي ينطلق مهيمنة وهم صدمة الحداثة التي عاشتها الانتلجنسيا العراقية، والطبقة الوسطى عبر التاريخ/ مرحلة الاستبداد التركي والاحتلال الانكليزي، والذي يلتقي مع قراءاته للأنثربولوجيا العراقية ومدوناتها السرية، وهذا ما وجدناه واضحا في روايات (الركض وراء الذئاب) و(حارس التبغ) و(الطريق الى تل المطران) و(الجريمة والفن وقاموس بغداد)
انحنى الفصل الثاني(أنماط الأنتلجنسيا) على موضوعة توصيف المثقف العراقي، عبر تمثلاته لرؤى ووظائف تختلط فيها الكثير من الأقنعة التاريخية والثقافية، حتى تبدو الرواية التي يكتبها بدر وكأنها تبديات سردية لهذه الأقنعة، إذ هو يستقرأ عبرها تاريخ الأمكنة والشخصيات والأحداث، مثلما يستنكر عبرها التوصيف الأخلاقي للشخصيات، نابذا الأيديولوجيا والنزعة الحكواتية، ليقترح مستويات أكثر فاعلية للقراءة، ولمفهوم التخييل الروائي، وضمن سياق فضح العلاقات الثقافية والسسيولوجية التي تعيشها، وعبر ما تتعالق به من تشوهات لها علاقة بـ (الفظائع الكبرى التي عاشها بدءا من فظائع السلطة وانتهاء بضائع المجتمع) كما يقول علي بدر..
انحنت مباحث هذا الفصل على مقاربات لصور(المثقف المسيطر، المثقف الاغترابي، المثقف المهزوم) إذ بدت تمثلات هذه الصور في روايات(بابا سارتر)و(الطريق الى تل المطران)و(أساتذة الوهم)و(والوليمة العارية) و(مصابيح أورشليم)و(ملوك الصحراء) و(صخب ونساء وكاتب مغمور) وكأنه حاول أنْ يجد في تشوهات الأنتلجنسيا العراقية علاقة واضحة بالتاريخ والسلطة والأيديولوجيا، حيث أبطاله غارقون بالأزمة، وباحثون عن الخلاص عبر لعبة(الوعي الشقي) أو حتى عبر الاحتيال والتقنّع والتماهي، حيث يعيشون لذة التقليد المشوه، ورعب الهزيمة عبر أنموذج البطل المخذول كما في رواية(الطريق الى تل المطران)، ورهاب الاستبداد التاريخي عبر أنموذج أبطال رواية ( الجريمة والفن وقاموس بغداد)
وفي الفصل الثالث يواصل الكاتب المشلب مقاربته النقدية للشخصيات الروائية التي حفلت بها روايات علي بدر، إذ يقترح منظورا سيميائيا لمعالجة طبائع هذه الشخصيات وتمثلاتها لأقنعة التاريخ وتشوهاتها وأسرارها، فمن خلال ثلاثة مباحث( الشخصية المرجعية، والشخصية الاشارية، والشخصية الاستذكارية) نجد أنفسنا أمام فضاء مزدحم بالأفكار المرجعية والعلاماتية، حيث تتحول الاشارات الأدبية والشخصيات التاريخية الى علامات فكرية، أو أقنعة تخفي الكثير من المقموع والمسكوت عنه والأوهام والهزائم، فالروائي يستدعي صورة الأنموذج التاريخي كأرسطو والاسكندر المقدوني وخالد بن الوليد والمهلّب ابن ابي صفرة، والأنموذج الإشكالوي كأدورد سعيد وصدام حسين كما في روايات(الوليمة العارية)، و(مصابيح أورشليم) و(الجريمة. الفن. قاموس بغداد) و(بابا سارتر) كما يقترح لوجود شخصيات غائمة ومفارقة، لكنها تمارس سطوتها وتأثيرها في تشظية الواقع والحدث، وفضح الكثير من التباساته وسرائره، مثل شخصية جبار حسين الذي استولى وثائق المخابرات العراقية بعد احتلال بغداد، وشخصية سهيل ادريس الروائي والمترجم، وشخصية آدم الثوري في رواية (الركض وراء الذئاب) وغيرها..

عرض مقالات: