نداء أصدرته ساحة التحرير، فغنِّ بذكره يا بلادي، نداء بشاهدة نصبها العظيم، وبصوت أجيال بما فيهم صوتنا نحن الحرس القديم، نداء استجمع في حروفه كل النداءات السابقة وخط لافتة الزمن العراقي الجديد، ليس النداء وليد الساعة كما يتصوره ساسة المحمية الغبراء، بل تمتد جذوره إلى عشرات السنين، مستجمعة في اختلاطاته تراث وتاريخ قوى التحدي، نداء كأنه خرير ماء كوني، يتجمع في قاع زمننا العراقي ليسقي بما يمليه عليه عطش الثورة. نداء قلَّ أن سمعنا نداء بوضوح كلماته، ومشروعية صبواته، وشمولية مقاصده، فالقائمون عليه نبتٌ بري ولد في تاريخ المحن، هؤلاء الذين يرددون نداءات ساحة التحرير ونصبها: "ارحلوا"  هم حطب هذه البلاد ووجارها المستعر، لقد اكتووا بالتغييب والتجاهل والاستغلال والإهمال والتعطيل، حتى أصبحت شرائح الشباب منهم مجرد شهادات بلا عمل، وتحول الخريجون إلى عمال مساطر الصباح، ومن ملك من المال قليلًا اشترى تكتكا، أما الفئة الواسعة، فقد سكنت ذواتها، واقتعدت تتأمل مستقبلها عند ملالي التعويذات، وقراء مفاتيح الجنان، ومستحبات الجنة والنار، مصحوبة بحبوب المخدرات الإيرانية.

صوت يصدر من قاعة ساحة التحرير، هلم أيها العراقيون، صوت يستحث الماشين كونوا ثوارًا ، كونوا ابناء بلادكم لا ابناء بلدان الجوار، فبعض الشبيبة منهم لا يعرف معنى أن يكون ثائرًا، ولو عرف لوجد نفسه ضمن ركب الثوار، ثم استمال لنفسه، فكان نداء الساحة نداؤه، فالثورة لا تحتاج إلى قاموس تلقين، ولا إلى لافتات تلصق بمؤخرة العربة العراقية، تنبت الثورة كأي نبت فوق متراكمات المحن، هي تلك النداءات التي تجمعت في ساحة التحرير، نداءات امتزجت بحليب ثدي الرافدين، فتغذت الأرض منه والناس، ومن يعيد انتاج تصورنا عن الظلم والعطالة والتهميش، يجده سنّة لإذلال هذا الشعب وتراكمًا لثقافة من سبقوهم، وإلا، كيف يكون العراق الذي يبيع من نفطه شهريًا بستة مليارات دولار، وثلاثة أرباع شعبه ينتظر خطبة الجمعة كي يقول له السيد الفلاني: إن الفقر في الدنيا غنى في الآخرة؟. هل يعقل أن زمنًا كهذا يمكنه أن يجيب عن أسئلة الشباب؟ هل يمكننا تصور الغد ونحن معطلون عن التفكير؟ هل يمكن الدفاع عن الوطن وثلاثة أرباع العراقيين يعيشون حالة التبعية؟ أية ثقافة هذه التي أسستها أحزاب الإسلام السياسي الكارتونية التي لا تعرف من أين ينبع نهرا دجلة والفرات، فاستبدلوا تركيا بإيران، كما قال الجعفري عبقري الغباء السياسي في العراق.

لا أحد بعد الآن يستطيع أن يغلق أذنيه عن صوت ساحة التحرير الهادر، ارحلوا، فقد ملَّ العراقيون صفاقتكم، وألعابكم، وتبعياتكم، ارحلوا مع اسمالكم البالية، فلن تنفعكم الأسلحة المحرمة، ولا الخطب المخدرة، ولا بحبحات البرلمانيين الجوف. ارحلوا، فأنتم لستم جديرين بأن تكونوا أمناء على ثروات البلاد وتاريخه وحضارته وأرضه وهويته، فكيف تكونون أمناء على شعب العراق؟ ارحلوا فالمدى جد قصير، والمسافة إلى النار خط مستقيم، واللجوء إلى المماطلة والتسويف تزيدكم جهالة. فنداء ساحة التحرير ليس نداءً مؤقتًا، دبجته فتية آمنت بالعراق من أجل ان تتسيده بدلًا عنكم، بل هو نداء متجذر في أرضه وجباله وانهاره ونخيله وثرواته، نداء يردده الصغار بألسن متلعثمة، وتردده النساء كجزء من رجولتهن المخفية، ويردده الشباب لأنهم الجديرون بتجديد لافتته، ارحلوا، ودعوا العراقيين يتنفسون هواء العالم، فهم جديرون أكثر منكم بخيرات بلادهم.

عرض مقالات: