تمنحنا حركة الشباب الديناميكية حقيقة مباشرة الرؤية، وهي أن العراق بعد نهضة الشباب في اكتوبر، ليس كما كان، ولايجب أن يكون كما هو في المستقبل أيضًا، بل العراق الحديث جسد حي، ينتقل بين لحظة وأخرى إلى حقيقة أخرى، هكذا تعلمنا البايولوجيا كما تعلمنا حركة التاريخ والجغرافيا والمجتمع. ما يحدث الآن في العراق هو التصور الشكلي الذي يبقي العراق كما هو منذ إن كان في عصر الخلفاء وما بعدهم تحكمه قوانين الآلهة بعيدة عن حاجات الناس ومتطلبات العيش وأمكانية التعرف على ثقافات العالم وأفكاره، الذين حكموا العراق منذ عام 2003، وما زالوا متشبثين بالحكم على الرغم من الرفض الشعبي، أردوا أن يبقى العراق كما هو، في حين أن جدلية العراق بكل مكوناته ترفض البقاء ضمن تصور متحجر متمثل بعراق يصنعونه على مقاساتهم الدينية.

المشكل ليس في وجود مجموعات متسيدة الحكم تستطيع تكميم الأفواه وتلقينها جملًا جاهزة لم يتعبوا حتى في تفسيرها، المشكل أنهم هم لا يقبلون أن يتطوروا في مجتمع يتململ يوميًا في داخله كي يشق الشرنقة الحديدية والدينية التي وضعوا فيهاعقول الشباب والعامة من الناس. ما يحدث اليوم أكبر من تصوراتهم، عندما وجدوا أنهم أمام أسئلة أبنائهم قبل غيرهم، من أن الشباب في العالم يبحث عن تحقيق إرادته عبر العلم والتقنية والتقدم والعمل والثقافة والحياة اليومية، وأن عينيه تبحث الآن عن ألعاب وتقنية تمكنه من مشاركة الآخر ليحقق جزءا من أحلام طفولته، بينما يقنن السادة المتحكمون عقول ابنائهم على وفق سياقات اقل ما فيها صناعة الحروب والمخاوف، وعليهم أن يؤدي لهم صلوات اضافية.

ما يحدث الآن، امام العالم من نهوض لشريحة الشباب مسندة من قطاعات واسعة، ليس غريبًا على العراقيين الذين يختزنون اشكالًا من الثورات والممارسات النضالية، فضلا عن تقنيات الحروب التي خبروها، فمفاجأة السلطة بهذا الحراك الشامل والسلمي والقوي والشعبي، كبيرة بل وافقدتهم عقولهم، وما كانوا يتصورن حجم طاقة الرفض في بنية الشباب. الأمر الذي جعلهم يستدعون كل التعاويذ والأفكار التي تقيد حرية الشباب إلى المجهول. فما داموا يتحكمون باسم الدين؛ تعد اي حركة للشباب مروقا وتحديا ولذلك ضغطوا على الشباب وقتلوا المئات منهم. اليوم، بدأت رؤية جديدة للحياة، لن يستطيع أحد أن يقف في تيارها الجارف، وهي أن للشباب صوتًا استدعوا به انفسهم، واستدعوا من هو أكبر منهم ومن هو اصغر، وأن ارادتهم في التغيير ليس كساء ومعدة، إنما وضع جديد لشعب عرف النظام والقانون والحضارة والعدل والزراعة والفلك قبل غيره. فهم ورثة تاريخ من العلوم والثقافة، وليسوا مجموعات قطعان تلقن باصوات قائدها "المرواع"، اليوم وجد الشباب أنهم ورثة تقاليد ثورية عراقية وعالمية، ولذلك يتخوف الحاكمون امتدادهم في شرائح اجتماعية متنوعة، كما تتخوف القوى منهم، الرجعية المستشرية بالفساد في المحيط الأقليمي، والتي بدأت تسكب الماء على لحاها القذرة.

في الساحة/ الحرية،اكتشف الشباب أنفسهم، فانطلقت إراداتهم وأجسادهم وألسنتهم وعفوياتهم، أن يقينا مفقودًا كانوا قد لقنوا به من قبل المنابر، وهو أن العدالة السماوية سوف تقتص من السراق والفاسدين والعملاء والمزورين والأغبياء، والمحاصصاتيين، ولكن تبين أن هذه العدالة على الرغم من وجودها في القوانين الإلهية والقوانين الوضعية، مفقودة في ظل حكومات الإسلام السياسي، فبدأ الشك يتسع ، والسؤال يزداد قوة وتنوعًا، ومع ذلك لا تجد في ثورة الشباب أية خروقات لمفهوم العدالة، إن لم يكن مطلبهم الأساس هو أن تعم العدالة، وها نحن نعيش معهم لنجد أن الساحة بحريتها وسعتها قد حققت الكثير من مبادئ العدالة الإجتماعية ، فألغيت الطائفية إن لم تكن قد سقطت تحت أحذيتهم، والغيت القوى المختفية التي هيمنت على عقولهم، لتصبح قوى مسلحة تلقي عليهم قنابل محرمة، والغيت الوصاية التي تعلمهم كيف يلبسون أويأكولون أو يقولون أو يحبون أو يتصرفون. العراق بعد ساحات الشباب لن يكون كما هو، وعلينا كمثقفين أن نرى حقيقة لغة العراق الجديد من الآن، على أنه عراق آخر، وليس عراق السلاطين.

عرض مقالات: