قبل الخروج من البيت وأنا اسلك الطريق المؤدية الى ساحة الحرية، تبادرت الى ذهني عبارة
"
كرنفال وطن ".. وهي تتداخل مع مشاريع كثيرة لأفكار كانت تضج في رأسي.. قبل دخولي حديقة الأمة، تأكدت من علاقة العبارة بما يجري على الارض، إذ كان هناك حقا "كرنفال وطن".. في أول المداخل يقف مجموعة من رجال قوى الامن الداخلي وهم يستقبلونك بالكثيرمن الود، وهناك من تطوع للقيام بخط يعقب خط رجال الامن، شباب بعمر الزهور يؤدون مهمة التفتيش، نقترب قليلا لتواجهني شابات وهن يحملن كارتونات الكمامات، وقربها ثمة من يوزع الشوكلاته وقناني الماء البارد والبيبسي، وهناك اساطيل من عربات "التك تك " التي تحولت الى سيارات اسعاف وتموين ونقل، مهماتها كثيرة منها نقل الجرحى الى مستشفيات بغداد وكذلك المؤن الى المعتصمين في الساحة، حينما تجد نفسك وسط هذه الجموع التي تقدم لك ما تراه تكريما ووقاية لك من روائح الدخان المنبعث من الجسر.. أول الاسئلة التي فرضت نفسها على عقلي : "ما الذي جمع عشرات الالاف ـ بل تقترب من الملايين ـ على مطالب واحدة، بحياة حرة شريفة وكريمة. وفي برهة، ربما هي امتداد لماضٍ عميق عشته أو قرأت عنه تجد نفسك امام ما لم تستطع الكلمات المكتوبة على هيئة قصائد أن توثقه إلا ما ندر، ربما رأيت طيف الجواهري العظيم وهو يحدث الجموع بما يشبه النبوءة :
سَينهضُ مِنْ صميم اليأس جيلٌ
عَنيد البأسِ جَبار عنيدُ
يقايضُ مايَكون بِما يُرَجى
ويعطف ما يُرادُ لما يُرٍيدُ
ربما كان يتحدث عن هذا الجيل الذي أراه وهو يرسخ ما عجزت عنه أجيال وأجيال، هكذا فكرت وتخيلت الأمر وأنا أشق الصفوف تلو الصفوف وسط ساحة التحرير، كانت قبلتي المطعم العملاق الذي تحول الى شاشة وذاكرة هائلة وسعت الكثيرمن فتية حدثتنا عنهم نبوءة الجواهري، جيل أنقى من النقاء في ساحة التحرير، أجمعت الالاف على عبارة كنت أسمعها تتردد من الجميع
"
نريد وطن" الله أكبر، كم هي كبيرة هذه العبارة! وكم هي عميقة. يقترب مني شاب في العشرينات من عمره يرتدي سترة بيضاء ويحمل بيده معدات طبية كثيرة يدس بعضها في جيوب سترته الناصعة البياض، يسألني وابتسامة كبيرة على محياه: " كنت قريبا منك يا عماه. ورأيتك تسير ببطء وانت ساهم.. هل بك حاجة الى شيء، هل تريد مني أن أقيس لك ضغطك، بماذا تشعر؟" اكتفيت بتحيته وقلت له انها لعنة المفاصل تجعلني اسير ببطء، ومن هناك وفي البعيد، كانت تلوح اطياف سواد تشبه البياض تكاد تلامس السماء في أعلى المطعم التركي، الكثير من الرايات ، وحول المطعم وفي شوارع مقتربات الجسر انتشر شباب مهمتهم تتمثل في إطفاء عبوات الدخان ومسيل الدموع، يتناقلونها كما يتناقل اللاعبون الكرة في الملاعب، وحينما تلتقي بشاب وهو يحدثك عن شهداء الحرية، يقول لك "أنهم غادرونا الى البرزخ، ليس دفاعاً عن حزبٍ او مذهبٍ او دين أو قومية بل من أجل الحرية"، الصراخ يتصاعد.. معززاً بيافطة عملاقة تبدأ من أعلى المطعم وتصل إلى الأرض مكتوب عليها بخط عملاق "نُريد وطنْ " وقفت وفي عقلي تضج الاسئلة: هل هذا هو ما ذهبت اليه النظريات التي تتحدث عن الظروف الموضوعية والتاريخية ؟ وهل حانت الان هذه الظروف التي رسخها الفقر والبطالة وسوء الخدمات والفساد والمحاصصات والامتيازات التي ينالها من لايستحقها ؟.. أجل لقد " دقت ساعة الشعب " وإلا من يفسر لي هذا الاجماع الكلي من طبقات الشعب "عدا القلة المنتفعة" إجماعا على التغيير، إجماعا على الإقتراب من الحقائق التي ناضلت من اجلها الشعوب .. حيث ـ الحرية تحت نصب الحرية ـ مع الاعتذار للشاعر موفق محمد ـ الحرية بكل ما تعنيه الكلمة وهي مرسومة تحت نصب الحرية ليس في بغداد فقط، بل في كل ساحات الوطن.

عرض مقالات: