في علوم المكان تكون الساحة من أكثر الأمكنة استيعابًا للحركات الثورية، للأقدام المتقاطعة، للأجساد الحرة، للشعارات، لهواء العالم، للأصوات المتداخلة، حركة يحتضنها فضاء الساحة المتصل بالأعالي، وتُعلَّم شعاراتها بضوئها الباهر وهفهفة رياحها، وبفسحتها الفضائية التي تتسع لكل الأعداد، فالساحة أنا في لحظة أن اكون. لا تنتج الساحة متشابهين، كل الذين يتحركون مختلفين، لافتة الغضب تجمعهم مع ضياء الساحة ورياحها واتجاهاتها، بينما تنتج القلاع المتشابهين، وها نحن نرى في ممارسات الجند ومن يأمرهم ممارسات القمع من سبقهم، الأوامر نفسها وان تغيرت الوجوه، فالقلاع السلطوية تلغي هويات أفرادها، وتدمجهم في أتون سلطتها، لا تكون قلاع السلطة إلا مدججة بالسلاح، محددة بالمسافة، مسيجة بالممنوع، خطابها هويات، وهويتها القمع، ولسانها مستعار، وكيانها يحمي من يؤمرها، قلاع بالرغم من متانتها وحرسها وأسلحتها وقوانينها، خائفة، منزوية، تحجبها الحواجز الكونكريتية، ويقف خلفها وأمامها حراس يسألون عنك، ويدققون في أسماء اسرتك ونسبك وعشيرتك وانتمائك، وثقافتك، قلاع خطابها صوت مبحوح، وكلمات لا تعني إلا ما يريدون، قائدها مرتجف الصوت، وساكنها صوت مكرفون، ومواقفها مرهونة بقرارات المختبئ وراء السلطة، وهويتها لا تعرف أن هناك آخر يخالفها.
تمنح الساحة، وعلى مدى تاريخ طويل الحرية للصوت الوطني، ولم تشهد الساحة يومًا خطابًا نشازا إلا وكان فاشلا، لأن الساحة الحرة بفضائها لا تنسجم ومفهوم القلعة مفهوم النوافذ الضيقة. الساحة صنو اللافتة، والحركة، وهوية معلنة لمن يسير بها، فاتجاهاتها اتجاهات رياحها السياسية، يمينها يسار، ويسارها يسار، وامامها وراء، ووراؤها أمام، وجوهها لكل الاتجاهات، ولسانها تكملة لما يقوله الآخر، هذا الدوران يتيح للماشي فيها حرية أن يرى، وان يتعامل مع الريح، وأن يصافح كل الأيدي، وأن يغني وينشد، وكأن لافتة الساحة الفضائية لافتته. يمنح فضاء الساحة حرية للجسد، وامكانية التنويع لخطابه، الجسد نفسه لافتة، مكرفونًا، صوتَا لمتظاهرٍ، أعلامًا ملونة، منشوراتٍ سياسية، مشاركاتٍ مع طيور السماء، ونبات في حدائق الأرض، ونسمة في هواء العالم، ولغة كونية عالية النبرة. بينما لا تتيح القلعة لساكنيها وحراسها أية حرية، وجودهم بأمر، وحركتهم مقيدة، واشكالهم متشابهة ولسانهم لا يعرف الجملة المختلفة، مشيتهم التفات وجلوسهم قلق، خطابهم الذاتي مصادر، لا ينطقون إلا بما يكلفون به، أيديهم تحرس مخاوفهم، أكتافهم تحمل خشية من طارئ مجهول، وسرعان ما يختفون وراء أقنعة القوة، تاركين فوهات بنادقهم ترسم خيط الدم على سفلت وأرصفة الشوارع الوطنية وساحاتها.
في علم المكان كل شيء يحسب بالمسافة، والساحة وحدها تخلق مسافات المناورة والحركة والثبات والقرار، بينما تقيد القلاع الجند بمسار مقيد ضيق، أقدامهم مكبلة واجسادهم محجوزة في أقمطة، كل شيء مرهون بالقدر.
ما يرى في ساحات النضال اليوم، هو أرث متراكم من الفعاليات السياسية عبر تاريخ العراق المعاصر، ليس ثمة ديك يدور فيها إلا ديك اللافتة والصوت الصداح، وعبر ساحات العراق ومعامله وشوارعه، ومدنه، اقترن صوت ديك الفجر بصوت الآذان، معلنا حركة الجموع في الساحات
منذ أربعينيات القرن الماضي علَّم الآباء العراقيون ساحاتنا بأقدامهم، وها هم أبناؤهم يواصلون المسار نفسه، يحدوهم خطاب الوطن بدلا من خطاب الذات، وخطاب الجماعة بدلا من خطاب الأنا، وخطاب المستقبل بدلا من خطاب الماضي، ولم نشهد اية فترة غيبت الساحة صوت الجماعات المقهورة.
وانا اتابع حركة الجماهير الغاضبة في هذه الهبة الجماهيرية، استعير ما كتبته فتاة في لافتة تحملها تقول اللافتة: السياسيون مثل الحيامن، واحد بالمليون منهم يطلع آدمي.!!