عندما تتعامل مع اللوحة بوصفها مكانًا، عليك أن تفصل مبدئياً بين مكانها الواقعي المعطى، أو أن تخلق مكانها الخاص الذي ستبني عليه بيتها الفني. في الحال الأولى، تحدث المقارنة والتمثيل مع الواقع، ويسقط الفن في المفاهيمية التي تنشدها الغالبية العظمى من متذوقي الفن، فثمة واقع مكاني معطى يؤلف رسالة ما هي محاكاة لهذا الواقع. هذا النوع من الفن يكون مُقَلِدًا وانطباعيا وتقليديًا، ولن يحمل أيَّة رسالة حتى لو كانت ألوانه حارة ومعاصرة، في حين أنه في الطريقة الثانية تخلق اللوحة مكانها الفني الخاص، وهي التي تثير الأسئلة أمام المشاهدين، وتكون طروحاتها مقبولة حتى لو كان التنفيذ لها عاديًا.
لوحة الفنان حامد سعيد في بداية تشكيلها سؤالها المعرفي، تثير مثل هذه العلاقة بين واقع فني مفترض، وواقع تحيل إليه خيالات الصورة، فلوحته عبارة عن خطوات لصياغة المكان الذي يلائم التصور الفني للحداثة، وغالبًا ما يكون السؤال سؤالًا معرفيًا عن دور الفن التجريدي في الكشف عمّا يحدث في واقعنا.
الفنان حامد سعيد له رؤية وثقافة متميزتان، وللوحته انسجام داخلي مقبول يمكن للعين أن تشمله بنظرة كلية كما لو كان لقطة سينمائية كبيرة، فالتشكيل الذاتي للفضاء الفني، يعتمد بالدرجة الأولى على المعطى النفسي الداخلي للفنان نفسه، حيث أنه الغى جملة وتفصيلًا أيَّة علاقة له بالعالم الخارجي، وأعتمد على ما تبوح به مخيلته من تشكيلات قد لا نجدها بكامل عافيتها في الواقع.
تنطلق التكوينات الجمالية للوحات الفنان حامد سعيد كما قلت من أشياء عالمه الداخلي، لترسم حدودها الذاتية بتناغم نفسي يبدو أنه انعكاس لمشاعر خاصة به، تشعر بذلك في التوزيع الهارموني لمساحة اللوحة الداخلية، فتبدو كأنها حلبة لصراع مفترض. حيث أن حدود كتل اللوحة الداخلية حدود متداخلة كما لو أن بنيتها محافظة خشية أن يخترقها العالم الخارجي ويهّد كيانها. فاللوحة ذاتية داخلية البنية وممتلئة بطاقة شعرية تدميرية، وليست طاقة صيانية تراثية، أو مفاهيمية، بمعنى أنَّها شكّلت تكوينًا خاصًا بها لم يوجد له مثيل في العالم الخارجي.
هنا يلعب علم نفس الأشكال دورًا في تنظيم الفعل الداخلي للفنان، بحيث يختار هذه الكتلة وهذا اللون، وهذا التركيب، وهذه الثخانة اللونيَّة، وتلك المساحة الهادئة أو الضّاجة، محاكية الوضع النفسي لاستقبال العالم، فيصبح العالم متضمنا في الأشياء التي اختارها الفنان، بحيث يمكنه أن يؤسس لعالمه الفني هوية خاصة لا تمت بصلة لما نراه خارجيًا أو نتفاعل معه ذاتيًا.

ما قرأته في لوحات حامد سعيد، يحيلني سطحها إلى التجريد بطريقة رومانسية. ثمة تناغم جمالي مع الألوان الهادئة والخطوط المتقطعة كما لو أنَّه لا يربط كتلة بأخرى إلا بحميمية داخلية، بمعنى إنَّ كل شيء مبني نفسيًا وضمن تناغمات ذاتية مع حدث أو حكاية غير مألوفة لنا، لكن ما وراء واجهة سطح اللوحة، ثمَّة عالم آخر يعتمل بالمحتملات والغموض، لأنَّ العمل الفني الذي يواجهنا به حامد سعيد، يحمل رسالة معاصرة غامضة عن واقع هو يحس بوجوده، فحواها يتمثل باضطراب المفاهيم الاجتماعية، وعدم وضوحها، فتعكس اللوحة هذا الاضطراب بطريقتين: مباشرة حين واجهتنا بضبابية وخطوط وكتل مقذوفة إلى العالم، وفنيَّة حين تعامل مع مجرى اللوحة العميق ليشير فيها إلى مرجعيات مضطربة وتواريخ غامضة.
اللوحة في كل تصوراتنا لها علامة توصيل، تحمل رسالة، تشير إلى واقع، أو إلى حدث اجتماعي لا يراه إلا هو، وقد عبَّر عنه بهذه الكتل المتجاورة والخطوط المتقاطعة والتشكيلات التشخيصية لوجوه وأجسام لم تتضح معالمها، هذه البنية الغائمة المُضببة هي واقع فني واجتماعي يعبّر عن اضطراب القيم في هذه المرحلة، ولأن العمل الفني إنتاج غير مباشر للتعبير عن الواقع، فقد حمل رسالة غامضة، تعاملت مع الموضوع الاجتماعي بطريقة تخييلية، فالموضوع الذي يبدو هناك والمشكل بطريقة لا تشير مباشرة إلى ما نحن فيه، يبقى حاضرًا في المخيلة الجماعية فبدت البنية الفنية في صميم العلاقة مع الواقع البعيد، وتدل على ذلك جملة تصورات بنيوية في اللوحة، منها تقسيم اللوحة إلى ثلاث كتل أفقية أو عمودية، تمثل تقاطعات أزمنة وأمكنة، تعني في تشكيلها علاقة ما مع واقع خارجي مبهم كان يباشرنا ثم اختفى، كما لو أن اللوحة تحتمي باللون والخطوط من عنف ذلك الواقع وضراوته. فاللوحة ليست معنية بتسجيل موقف مباشر من العالم، بقدر ما هي معنية بأن تؤلف خطابًا فنيًا مشحونًا بالعلامة الدالة على عنف التاريخ وجبروته، معبرًا عنه بإشارات رياضية وأشكال لآلات صناعية وخطوط وأرقام، مما يعني أنَّها تحاكي العصر الذي تتداخل فيه الروح والعلم معًا، اضافة إلى مركزية بنية الدائرة المغلقة أو نصف المفتوحة، وهي بنية تشكيلية تعيد لنا تصور التشابه والتكرار، وكأن المرحلة تعيد إنتاج نفسها، اضافة إلى مزجه بين مرونة التشكيلات العامة وصلابة الجدران، مما يعني ثمَّة رؤية لمدينة تمارس حضورها في هذه البنية التجريدية. وإذا تمعنت جيدًا في فضاء اللوحة، تجده مقسمًا إلى ثلاثة طوابق أو أعمدة، تعكس البنية الثلاثية استيعابًا لأيَّة فكرة تحمل تصورًا غير محسوم، فالحركة الضاجَّة العنيفة، داخلية أكثر منها خارجية، حركة تقبع خلف اللون والخط والكتلة، وما يواجهنا من ألوان ومساحات مضببة هو أشبه ما يكون بالستائر الشفافة التي تخفي مواقع من الصعوبة التعايش معها. فلوحة حامد سعيد لا تتجه نحو المضمون مباشرة، بل تتجه نحو التعبير عنه، أي أنَّها تتحول إلى علامة فنيَّة يمكن استغلالها خارج نطاق الفن التشكيلي.
للمشاهد العابر الذي يبحث عن المفاهيم المباشرة في اللوحة الفنية، لن تنفعه الرؤية إلى سطح اللوحة، عليه أن يتأمل العلاقات الحادة التي تصنعها الحدود المختفية بين الكتل، بعض الحدود تذوب وتتلاشى برومانسية بعضها ببعض، بينما ثمَّة حدود بينها تفصل الكتل بخطوط عميقة وحادة، بمعنى أن العالم الفني عندما يتشكل نفسيا لا يمكن ان يكون إلا تدميريًا، أي أنَّه يؤكد القلق الوجودي لكتله وألوانه وخطوطه، فتبدو وكأنها تسبح في الفضاء باحثة عن مستقر لم تعثر عليه بعد.

عرض مقالات: