من الصعب فصل الثقافة العراقية عن تاريخها، وعن اسئلتها التي ظلت قرينة الافكار التنويرية والاصلاحية، حيث اشتباك هاجس التغيير مع افكار الاصلاح والنهضة، والتي تحولت الى طموح فاعل في صياغة أطر ثقافية وحقوقية لمواجهة تحديات الواقع عبر مظاهر الاستعمار والاستبداد والقهر الاجتماعي.

ومع نشوء الفكر اليساري الثوري تحولت هذه المواقف الى منصات للتعبير عن اسئلة التغيير، وصولا الى التصريح بفكرة الثورة، عبر الايمان بخطابها الوطني والانساني والفكري، وعبر اهمية ابراز دورها في انضاج عوامل واقعية لمديات التحول السياسي والاجتماعي.

اشتباك العامل الثوري اليساري، مع الثوري الرومانسي، اعطى للهوية الثقافية بُعدا أكثر عمقا وغنى، إذ بدت هذه الاشتباكات وكأنها التمثيل التاريخي للعقل المعارض في سياقه الانساني والحقوقي، وفي صياغة مواقف وتجارب كان المثقف التنويري والنقدي حاضرا فيها، عبر مواقفه، وعبر رؤيته، وعبر ايمانه بقضايا النضال من اجل الانسان وحقوقه في الحرية والمعيش والرأي والعمل.

الحديث عن التوصيف الثقافي   لسردية التنوير في التاريخ العراقي يتعالق مع الحديث عن دور المثقف ذاته، في توصيفه النهضوي/ الاصلاحي، أو في توصيفه الثوري الجديد، فالموقف الثقافي من الحرية والديمقراطية والحق ليس بعيدا عن المسؤولية التنويرية، ولا عن اشكالية الوعي بها، بوصفه مجالا مفتوحا لتمثيل الافكار، وللتعبير عنها، وعن  اهمية أن يمارس المثقف من خلالها حقّه في الاشهار عن رأيه، وعن مظاهر وعيه وايمانه ومبادئه، وهذا ماجعل الحركة الثقافية العراقية ومنذ بداية القرن العشرين عميقة الصلة بحركات التنوير والاصلاح، والتي مثلتها في المرحلة النشوئية حلقات الفكر الاشتراكي، إذ حملت هذه الحلقات وعبر رموزها الثقافية ذات التوجهات الاشتراكية(حسين الرحال، محمود احمد السيد، عبد الفتاح ابراهيم وغيرهم) شعارات المناداة بالحرية وبالتغيير، من منطلق التماهي مع الافكار الانسانية الكبرى، وعبر انفتاح المثقف العراقي على تلك الافكار، وأطروحاتها في سرديات الادب الاشتراكي الفلسفي والنقدي، وعلى حركات التجديد في الفنون والعمران، والتي تعالقت منجزاتها مع حركات النهضة والحداثة والتجديد، ومنها الحركات الثورية، والادبية والفنية والفكرية.

لقد شهدت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحولا كبيرا في توصيف الظاهرة الثقافية، وفي توصيف ظاهرة المثقف الثوري، أو المثقف الطليعي، فهذا التوصيف بدا الاكثر تمثيلا للحمولة الايديولوجية، والى الاتجاهات الفلسفية في نزعاتها الجدلية، وكذلك في سياق تأثّرها الواضح بالافكار التي برزت بعد انتصار قوى التقدم والاشتراكية على الفاشية، وهو ما أسهم بشكل واضح على تداولية الثقافة، عبر اتساع التواصل بين المثقفين العراقيين، أو عبر تنامي جماعات وحركات التجديد، على المستوى الفني، حيث نشوء الجماعات الفنية، وعلى المستوى الشعري مع بروز حركة التجديد التي قادها السياب والبياتي ونازك الملائكة، وعبر حركات الانفتاح الثقافي من خلال توسع ظاهرة وصول الكتب والمجلات الثقافية الى العراق، أو عبر اتساع مشاركة المثقفين العراقيين في الحراك الثوري السياسي والنقابي، وتنامي فعاليات العمل المؤسسي من جانب، فضلا عن تصاعد الفعل الثقافي النقدي من جانب آخر، في سياقه الايديولوجي، أو في سياق تجديد خطابه ورسالته الثقافية.

لقد لعب المثقفون الماركسيون دورا مهما في تشكيل الظاهرة الثقافية العراقية، وفي بلورة الكثير من اسئلتها، وفي تبني رؤية واضحة لخطاب التنوير والتجديد، وفي أنسنة هذا الخطاب ليكون أكثر تمثيلا للحاجات الوطنية، ولقيم التحوّل الاجتماعي، ولمواجهة كل مظاهر الاستبداد والقهر والفقر والتخلّف والجهل، فمواجهة الاستعمار والاستبداد والرجعية السياسية لا تقل شأنا عن مواجهة الفقر والفساد والجهل، لأن تداعيات هذه الظواهر هي ما يصيب الجمهور بالعطالة والعجز، وبهيمنة الخرافات والاوهام.

فاعلية الوظيفة الثقافية لم تغب عن فاعلية الدور الذي نهض به المثقف العراقي، إذ بدا الأمر وكأنه متلازم في السياق وفي الفعل، وأن تلازمه يخصّ صناعة الخطاب والموقف، مثلما يخصّ تفعيل المكان الثقافي/ الاجتماعي، مما جعل فعل هذا التلازم الاقرب الى تأطير هوية المشروع الثقافي العراقي، بوصفه مشروعا وطنيا ونقديا، أو بوصفه ممارسة لمواجهة كل تحديات الاستبداد والصراع، لاسيما بعد ثورة تموز 1958، أو في مرحلة مابعد الانقلاب الفاشي عام 1963، فبات المثقف الوطني قريبا من المثقف الادبي، وأن الادب تحول الى قوة دافعة للخطاب الثقافي انسانيا ونضاليا وحتى نقابيا. إنّ ما تأسس عبر سيرة الفعل الثقافي العراقي ظل رهينا بجدوى السؤال الثقافي، وهو يواجه كثيرا من التحديات، بدءا من تحديات السلطة والاستبداد، وليس انتهاء بتحديات العنف الاصولي، وأثر الرجعيات الفكرية والسياسية، التي اصطنعت للمثقف توصيفا ضديا، استعدت معه الكراهية والتمهيش، وهو ما كان دافعا للتعاطي مع اهمية (النضال الثقافي) كإطار للنضال السياسي والاجتماعي، وفي سياق تفعيل اهمية الفكر التنويري والاصلاحي، وبإتجاه مواجهة تحديات كبيرة، تبدأ من تحديات الخطاب السياسي الرث، والخطاب الاجتماعي والتعليمي في مستوياته المتعددة، وتواصلا مع التعاطي مع تحديات البناء المؤسسي، لاسيما مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وابراز مظاهر العقلنة الرشيدة، بمواجهة مظاهر الخرافة والسلفية، فضلا عن تعزيز مصادر الوعي بقيم الديمقراطية، والحقوق العامة، بوصفها ذات حمولات ورموز ثقافية كبيرة،  نجد العديد من مظاهرها في الكتابات الادبية، وفي سياق المواقف الكبيرة التي دأب المثقف العراقي على التعبير عنها تاريخيا وانسانيا ومهنيا..  

 *"بسبب خلل فني نشرنا اول امس (الاحد) جزءاً من هذا المقال، واحتراماً للقارئ وللكاتب الاستاذ علي حسن الفواز نعيد نشر المقال كاملاً مع الاعتذار". ثقافة

عرض مقالات: