في احدى حكايات الاحلام ان زهرة تميل على زهرة بيضاء بجوارها لتسلب بياضها، وعبثا يفسر حلم كهذا انه اغتصاب، كما لو ان فارسا يغتصب عذرية فتاة كما يقول تودوروف، ولكن الحكاية تعرف طريقها لإبلاغ رسالة ما، قد تكون واقعية او حلمية، وعندئذ لا يمكن ان نقف بوجه تيار الحكاية مهما كنا نمتلك من القوة، الحكاية تيار ماء كوني، يأتيك عبر امواج البحر، او تدفقات المد والجزر او عبر المطر والعواصف او عبر الينابيع والسواقي والأنهار، او عبر الكلام حيث أن الكلام ماء يجري في الألسن وفي الجسد، لذلك لا يمكن القول من دون ان يكون هناك سبب لأن تحكي،
الفطر الروحي هو تلك الطاقة الأولية التي تصاحب اية فكرة تكتشف حكايتها، وعندما يتاح لها الرحلة نحو بداياتها ستكون الحكاية عبارة عن فكرة لفطرة كونية استوطنت نبتة او فارسا او شجرة او صخرة أو إنسانا، ومن داخل مستوطناتها اعادت تشكيل نفسها فنمت في مكانها واتسعت شعابها وامتدت حيث يجب ان تستمد نسغ حياتها، فتجد الفطر الحجري يحتاج الماء والفطر الروحي يحتاج الفطر المادي، ومن في السماء يحتاج من في الأرض، ومن في الأعالي يحتاج من في الأعماق، وهكذا تدير فطريات الكائنات تكويناتها ضمن عالم تشكله هي بعلاقاتها، وتوطنه كياناتها ورغباتها، ويتمظهر هذا العالم لنا بصور واقعية وخيالية ، بهيئات بشرية وحيوانية وبلغات مختلفة ،وبطريقة كلام او صمت، فنحن في حلم دائم لا يفصلنا عن فهم انفسنا إلا اليقظة والنوم، لذلك نجد ان كل الكائنات التي نكونها تحمل افكارا وممارسات حياتية لا شكل لها من أشكال الفطر الروحي الذي ينمو في اللغة كما ينمو في تلافيف وطيات الأحداث وقد يظهر لهيئاتنا وقد يختفي، وقد تأتي به الاحلام وقد تأتي به القصيدة. هذه الشعرية الكونية للأشياء تتمظهر لنا بأشكال حكائية لا عدَّ لأشكالها، ولا لغة واحدة تستوعبها، ولعلنا نشير هنا إلى ان الحكاية تكوين كوني تنطقها كل اللغات لتبلغ نهايتها او تكشف بدايتها، ومع تعدد هذه اللغات وبلبلة الالسن منذ القدم، لن تستوعب البشرية ما تبغيه الحكاية.
لماذا مالت احدى الأزهار على الزهرة البيضاء لتسلب بياضها؟ قد يكون السؤال مجرد الرغبة الدفينة في الاستيلاء والاغتصاب وممارسة العنف والغاء الآخر، ولكن جوهر الحكاية يقول لنا: أن الزهرة السالبة عجزت عن مواصلة الحكاية، فقررت أن تسلب الزهرة البيضاء حكايتها وتدعيها لنفسها، فالبياض طاقة كونية منفتحة، بينما تلك الزهرة المغتصبة قد نما في بنيتها كائن السواد والظلام والعنف.
في الحقول المعرفية لا يمكن معرفة كيف تفكر الاشياء، نحن فقط من نرى ولكننا لا يمكننا أن نتصور، أن هذه الرؤية قاصرة، فما دمنا نتوسم بعقولنا ان تكتشف مساحات لم تكتشف، علينا أن نصغي لما تقوله الأشياء في الطبيعة، فثمة نغمات كونية لا نسمعها، تحاول دائمًا أن تهيمن على رؤيتنا، زهرة سوداء وأخرى بيضاء وثالثة حمراء، ونعتقد أن حكاية هذه الألوان واحدة، في حين أن لكل لون حكايته، ولكل كائن حي حكايته، ولكل فكرة مستقر لها، ولكل حكاية مدى تبلغه دون أن تنتهي إلى قرار. فالروائي لا يعرف من حكايته الا القليل، بينما حكايته تعرف عن نفسها الكثير، لذلك يأتي روائي آخر، ويكتشف ما لم تقله الحكاية في الرواية الاولى ليبدأ معها رحلة جديدة، هكذا نحن مجرد كيانات نعيش بين حكاية ابتدأت بالولادة، وانتهت بالموت، هذه حكايتنا، اما الحكاية الكونية نفسها، فتبقى مستمرة، لأنها لا تعرف الولادة ولا الموت.