شاعر عذب بروحه الذابلة بالمحبة والتسامح غادرنا قبل أيام وتركنا في صدمة وذهول ، بكاه العراق بنخيله وجباله وبكته دجلة الثكلى والفرات المعذب ، بكته مدينة البرتقال التي انجبته وكتب لها أجمل القصائد في حبها وحب العراق وظلت اشجار تلك المدينة علامته المميزة في شعره وكتاباته التي كرس أغلبها للمحبة والإخلاص والوفاء النادر والطيبة والأصالة ودماثة أخلاقه إنه الشاعر ابراهيم الخياط الذي فجعنا برحيله والذي احدث جرحا نازفا لمحبيه وخسارة كبيرة للثقافة العراقية تضاف الى الخسارات والفقدان التي منيت بها الأوساط الثقافية داخل وخارج العراق .لم يحصل اجماع على شخصية أدبية ومناضلة مثلما حصل من حب وألم اعتصرنا برحيل ابراهيم الخياط الشاعر والمثقف والمناضل الذي انتمى الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي منذ بدايات شبابه الأولى وتعرض للاعتقال من قبل اجهزة النظام السابق منذ عام 1979 ولمرات عدة لكنه ظل صامدا مؤمنا بمبادئه من أجل نصرة الفقراء والمظلومين داخل العراق ، سجن ابراهيم في سجون نظام البعث لكنه لم يساوم وتكررت اعتقالاته حتى سقط النظام عام 2003 ليعود بنشاطه الثقافي والسياسي شاعرا ومناضلا من طراز فريد لم تعرف مثله الساحة الثقافية وساحة التحرير عند نصب جواد سليم ، وعندما أصبح أميناً عاما لاتحاد الأدباء كانت خسارة الأدباء برحيله كبيرة فهو المرحب بالجميع والفاتح لهم أجنحة حنانه وحبه وملبي حوائجهم وكل متطلباتهم ولا يفرق ما بين أدباء الداخل والخارج التي رقص لها الكثيرون لإحداث الشرخ والفرقة داخل الجسد الثقافي العراقي ، بينما ابراهيم الخياط كان يقف بابتسامته العريضة أمام القادمين من دول المهجر ويعدهم ثروة البلاد الثقافية المهاجرة ، لقد كان عونا للجميع بإخلاصه وتفانيه ، انه انسان وشاعر لا يشبهه احد . ابراهيم الخياط صاحب القلب النادر بطيبته وحنينه في هذا الزمن لا يعرفها إلا الذين يملوك قلبا يشبه قلب ابراهيم .في كل أربعاء كان يكتب ابراهيم مقالته الأسبوعية والتي كانت بعنوان ،"تغريدة الأربعاء" وهو يتحدث فيها عن اشياء من الماضي والحاضر والمستقبل ويستذكر فيها تاريخ الحب والنضال والموت والحياة ومواقف مشرفة مرت بتاريخ العراق وبتاريخ العرب وينتقد فيها كل من هو ضد العراق وشعبه ، كنتُ احرص على قراءة تغريدة الأربعاء بلغته السلسة والممتعة ويا للمفارقة العجيبة التي جاءت منيته بيوم الأربعاء المصادف 28 /08/2019 سيسجل هذا اليوم الحزين في تاريخ العراق وتاريخ ثقافته وساحات نضاله . وكان ابراهيم الذي عمل مديرا للإعلام في وزارة الثقافة عام 2005 ، ولعفته ونزاهته قدم استقالته احتجاجا على الوزير ورفضه لسياساته لأنه ابن العراق وابن الحزب الشيوعي الذي لا يعرف إلا النضال من أجل الفقراء ونصرتهم ومن أجل بناء الوطن الحر وشعبه السعيد بعيداً عن الفساد والسياسات العرجاء والمصالح الفئوية والحزبية التي عادة ما تفضل على الوطن من قبل اضعاف النفوس ، فترك وظيفته في الوزارة لينال عضوية المكتب التنفيذي للاتحاد العام للكتاب والأدباء في العراق ثم انتخب اميناً عاما لدورتين وفي كل دورة يحصل على أعلى نسبة من الأصوات في الإنتخابات كان ابراهيم الخياط اميناً على الأدباء بقوة الحب والنبل ورقي أخلاقه ، اميناً على محبتهم وابداعهم ، واميناً على المحبة كلها قبل ان يكون اميناً عام في المنصب الذي يليق به بقوة حبه وطيبته وثقافته . الأمين العام ابراهيم الخياط كان أول الحاضرين في عزاءات وفقدان ذوي الأدباء فمن الموصل الى البصرة واربيل والرمادي والناصرية والعمارة وكل مدن العراق كان يحضر أفراحهم واحزانهم وأماسيهم واحتفالاتهم وكان رحيله بسبب هذا الوفاء الذي يقدمه فكان يلبي دعوة في دهوك مع صديقه ورفيقه الشاعر عمر السراي الذي اصيب بحادث السير المروع وظل يرافقه الحزن لهذا الفقدان المرّ، وكان ابراهيم الخياط شهيد الواجب وشهيد النبل الإنساني والمواقف المشرفة. ابراهيم الخياط أصدر مجموعة شعرية واحدة قبل سنوات بعنوان ( جمهورية البرتقال ) كتعبير عن حبه مدينته التي ولد وترعرع فيها عام 1959 وله العديد من المخطوطات في الشعر والاعلام والدراسات وآخر ما كان ينتظره هو مناقشته لأطروحته في الدكتوراه عن الإعلام .ابراهيم ينضم الى سجل الخالدين الذين هم قلة يحفظهم التاريخ ويسجل اسماءهم بحروف من ذهب .فخلود الإنسان بعد الرحيل يكون عبر نتاجه وما تركه من إرث ينفع البشرية سواء كان في ساحات النضال واعلاء كلمة الحق او في الأدب والفن أو العلوم ، وقلة من وصلوا الى مرتبة الخلود الذي يستعصي دوما على الموت وكما يقول شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري : ( يموت الخالدون بكلِّ فجٍّ ..ويستعصي على الموتِ الخلودُ). لقد شكل رحيل ابراهيم الخياط المفاجئ آلاما في نفوس وضمائر كل الذين عرفوه وحتى الذين لم يعرفوه ، وبخاصة نحن الذين نعيش في المنافي فكنا ننظر الى نعشه الملفوف بالعلم العراقي وهو ينطلق من مقر اتحاد الأدباء في ساحة الأندلس وهو المكان الذي يذكرني دوما به كلما أزور بغداد ، من مقره الى مثواه الأخير في مدينة النجف الأشرف التي أقامت له تشييعا رسميا وكان نعش ابراهيم مثل الحلم السريع الذي خطفه منا على عجلٍ وعلى غفلة من الزمن ، أنه حلم ما زلت أصر على ان رحيل ابراهيم هو حلم أخذ منا ابراهيم وترك لنا اليوم الحزين ، ان رحيل ابراهيم هو يوم حزين في تاريخ العراق ..
في وداعك يا ابراهيم الذي لم نحضره، نحن المنفيين، أصبح المنفى أشد قساوة، وأرواحنا ثكلى، يا لعزاءاتنا التي لا تنتهي..