على مر القرون، واصلت النساء، كما الرجال، حمل شعلة الحب الصوفي، لكن بشكل عام بقين ولأسباب كثيرة أقل ظهورًا وأقل صراحة من الرجال، لكنهن مع ذلك كنّ مشاركات ناشطات في الكثير من الدوائر الصوفية، وكرس بعضهنّ حياته لتلك الممارسات الروحيّة بصرف النظر عن التقاليد المجتمعيّة السائدة، فكنّ المعلمات والصديقات الروحيات اللواتي أثرّن بشكل كبير على حياة الكثيرين بواسطة رحلتهنّ نحو الاتحاد مع الحبيب الإلهي.
ولم يقتصر الأمر على الإسلام وحسب، بل أن الكثير من الكنائس الأرثوذكسية والرومانية الكاثوليكية، تجسد ما بات يُعرف بـ”آيا صوفيا”، أو الحكمة المقدّسة، وهو تعبير الثالوث الأقدس كما هو موضح في سفر الأمثال 9: 1، الذي يصف قوّة صوفيا وتأثيرها على الأرض وفي النفس البشرية.
وحسب النص القديم للأقنوم الذي وجد في نجع حمادي، فإنّها -صوفيا- تتابع الضوء في منطقة “الفوضى” وتجسد قوّتها “أنا الطبيعة، الأم العالمية، عشيقة جميع العناصر، الطفل البدائي من الزمن، وسيادة جميع الأبعاد الروحية، ملكة الموتى، ملكة الخالدين، عقدي يحكم مرتفعات مشرقة من السماء، نسائم البحر، صمت الأسى العارفة بدورات النمو والتفسخ”.
لقد تم اشتقاق مفهوم صوفيا في اللاهوت القديم من مفهوم الأم العظمى، 25.000 إلى 5000 قبل الميلاد، الذي يستند إلى رؤية الترابط بين الطبيعة والروح ومفارقة الحياة والموت في صورة المؤنث العظيم.
ويعتقد محيي الدين بن عربي أنّ المرأة هي أقوى الرموز المقدّسة، لأنّها ألهمت الحب للرجال، ذلك الحبّ الذي يجب أن يتوجه في نهاية المطاف إلى الله، وهو الهدف الحقيقي الوحيد من الحب. ذلك لأنّ الإنسان، من وجهة نظر ابن عربي، يتوجب عليه سبر طريق الخيال الخلاق الذي يخرق الخارجي الناقص للواقع الدنيوي إلى الإلهي كلّي الخيال المرتبط عادة بالمؤنث الإلهي. فالشِّعر الصوفيّ يجسد الصفات الأنثوية من الفرح والحب والحنان والتضحية بالنفس على طريق المعرفة الحقيقية المستمدة من الروح.
إن إعادة الولادة الروحية للفرد لا تختلف عن محاكمة ومحنة الولادة الجسدية، بحسب الصوفية. أنها تأخذ مبدأ الحب الإلهي وتستخدمه لتسهيل عملية التحوّل الكيميائي من الإنسان الدنيوي إلى الوجود الروحي. لكن على الرغم من ذلك بقي مفهوم الصوفية ملتبسًا لدى الغرب ومقتصرًا على المستشرقين والمهتمين بثقافة الشرق الروحية، يقول هيرمان هسه بهذا الصدد في كتاب “شوق عصرنا لرؤية العالم 1920: نحن -في الغرب- نفهم التصوف، مثل مجموعة من الرجال المكفوفين الذين يتلمسون فيلًا لمعرفة ماهيته، كل واحد يتحسس جزءًا مختلفًا منه ويصفه، ثم يقارنون الملاحظات فيدركون أنهم على خلاف كامل.
أما في الشرق فيعدّ إدريس شاه التصوف كشكل من أشكال الحكمة الخالدة التي سبقت الإسلام، ذلك لأن الصوفية من وجهة نظره مرتبطة بالجنس المقدّس ودور المؤنث الإلهي الذي لا يختلف عن ذلك الطفل (الصوفي) وأمّه (الله) أو العروس (الصوفيّة) والزوج (الله).
لكن على الرغم من ذلك ظل المؤنث الصوفي مهمشًا في الإسلام، لاسيّما ما بعد عصر الفورة الفكرية وسقوط الدولة العربية في الأندلس.
وباستثناء بعض أبرز المتصوفات اللواتي ظهرن في القرن الثامن، من أمثال رابعة العدوية ونفيسة بنت الحسن وفاطمة النيسابورية، ظل التصوف الأنثوي غائبًا لقرون طويلة، كما انحسر النقد والمتابعة والبحث عن عطاء المتصوفات، حتى ظهرت في دمشق منتصف القرن الخامس عشر عائشة الباعونية التي كانت أكثر جرأة وحضورًا وعطاءً فكريًا وشعريًا وإثارة للجدل، على الرغم من أنّها هي الأخرى لم تحظ بالدراسة والبحث والاستقصاء.

عرض مقالات: