بابتسامته العريضة التي تطرز وجهه الأسمر الذي يشبه تراب العراق كان يشكل لوحاته ويغني أغنيات قديمة تعيده الى زمن الحنين والطفولة والصبا والحب، هو من جيل الثمانينات وينتمي الى التجريدية في فنه أكثر من الواقعية، فمن بغداد الى عمّان وصولا الى منفاه الدانماركي كان يحمل الغربة بكل آلامها الثقيلة ويجسدها عبر لوحاته ومعارضه وهمومه الواضحة في ألوانه داخل اللوحة او منحنياته وسطوحه التي يشكلها، أنه الفنان التشكيلي الشهيد ياسن عطية المولود في بغداد عام 1963 وهو خريج معهد الفنون الجميلة منتصف الثمانينيات، وما أن فكر بزيارة وطنه العراق بعد عشرين عاما من المنفى ما بين عمّان وكوبنهاغن حتى ذهب ضحية سيارة مفخخة في حي البنوك ببغداد في واحد من صباحاتها الدامية عندما كان يتناول فطوره في مطعم يدعى ( الركن الأخضر ) كان ذلك في شهر مايس من عام 2013 ،صدمة كبيرة كان خبر رحيله وهو يزور اهله واصدقاءه بعد معاناة كبيرة بسبب الغربة . استشهد ياسين عطية في بغداد التي أحبها وأخلص لها وقدم كل ما بوسعه تقديمه لبلده الذي سجن فيه ايام نظام البعث لست سنوات بسبب انتمائه لليسار العراقي ورفضه الذهاب الى جبهات القتال في الحرب العراقية الإيرانية، اعتقله جهاز المخابرات العراقي اوآخر عقد الثمانينيات ونجا من الإعدام بأعجوبة . وتربطني علاقة صداقة طيبة مع ياسين وأذكر ونحن في عمّان كان دائما يأتي الى غرفتنا ويستمع لأخبار الفن التشكيلي ومعارضه الأخيرة خاصة من الصديقين الناقد كفاح الحبيب والشاعر هادي ياسين علي الذي كان يجيد التحدث عن لوحات ياسين بصورة مفصلة الأمر الذي كان يسعد ياسين كثيراً، فكانت لقاءات ومعارض كثيرة ومستمرة ما بين فنانين عراقيين وفلسطينيين وأردنيين وعرب في فترة التسعينيات التي عشناها في عمّان وكانت متوهجة ثقافيا وفنياً، وفي كل معرض كانت لوحات ياسين عطية تبرز كأعمال باهرة في جمالها وموضوعتها من خلال اشتراكه بمعارض عديدة في اوروبا وامريكا ودول اخرى . وذات يوم جاء ياسين الى غرفتنا وهو مرتبك قلق، قال أريد ان تساعدني في أمر ما، وتبين ان مفوضية اللاجئين قد رفضت طلب لجوئه! فضحكتُ على خيبة المفوضية التي رفضت مبدعا مثل ياسين قضى سنوات من عمره في سجن ابي غريب سيئ الصيت، فقلت له لا تحزن سوف أجري معك حوار حول تجربتك الفنية والسياسية وأريدك ان تحدثني عن فترة سجنك وما تعرضت له من تعذيب وظلم، وأثناء واحدة من جلساتنا الليلية كان يشرح لي وانا أكتب وفي اليوم الثاني طلبت منه ان يأتيني بصورة شخصية له فكتبت عنه مقدمة رائعة وارسلت بالحوار الى جريدة الوفاق المعارضة في لندن كان ذلك في بداية عام 1997 وبعد ايام نشر الحوار وكانت صورة ياسين عطية تطرز الصفحة الثقافية للجريدة وعلى الفور ذهب بالجريدة الى مكتب المفوضية لشؤون اللاجئين وسلمهم نسخة منها ليقوموا بفتح ملفه من جديد وبعد مقابلة تم قبوله وسافر الى الدانمارك . وكان قبل سفره بفترة قصيرة قد تزوج من سيدة أردنية واصطحبها معه الى الدانمارك ثم انجبت له بنتا. ياسين عانى الكثير في غربته داخل الدانمارك وكان يعيش يومه بصعوبة على الرغم من توفر الكثير من الاشياء له لكن حنينه الى بغداد ولهفة الشوق جعلته يعكس كل ذلك في لوحاته وألوانه التي تدلل على الغربة، تماما مثلما يكتب الشاعر قصيدته من منفاه وهو ينادي وطنه أو مدينته او حبيبته، ياسين عطية يصور المشهد عبر اللون وتشكيلاته التي يتقنها بمهارة عالية، إلا انه لم يتخلص من سطوة وتأثير استاذه الفنان الكبير محمد مهر الدين الذي درسه في معهد الفنون الجميلة وأخذ منه تشكيلات السطوح بنفس مهارة مهر الدين، فكنت أحيانا حين أرى ياسين في مرسمه وهو يرسم ويغني ودائما ما يستمتع بالغناء اثناء الرسم فأقول له كأنك متأثر بمهر الدين فيقول نعم انه استاذي، لكن ياسين عطية استطاع ان يخط لنفسه منحى تجريديا جديدا من خلال غربته الطويلة فالحنين والبعد والحلم بالعودة الى بغداد شكلت له هاجسا مهما عكسه بقوة في اعماله في السنوات الخمس عشرة الأخيرة التي أقامها داخل الدانمارك بعد ان قضى خمس سنوات داخل العاصمة الأردنية عمّان . وكانت الفترة العمّانية على الرغم من الظروف الصعبة التي مررنا بها إلا ان الحراك الثقافي والفني كان في قمة العطاء. في أعمال الشهيد ياسين عطية ثمة بحث من أجل الخروج الى فضاءات أخرى فكمن يكون داخل سجن حقيقي فيشكل ألوانه من ناحية الشكل والتقنية والتكنيك الذي يبدع فيه وقدرته على استخدام اللون، لكن ياسين عطية في تجربته الفنية التشكيلية تحول عدة تحولات على صعيد الشكل واللون خاصة بعد سفره الى اوروبا، فخضرة الأرض التي تطغي على الطبيعة في الصيف وبياض الثلج في الشتاء وكذلك البحار وزرقتها والناس والشوارع وكل شيء من حوله ساهم بشكل فعلي في تغيير تجربة ياسين على الصعيدين التشكيل واللون وكما يقول هو: (ان الطبيعة هي بوابة اكتشاف الألوان ومصدر تأمل، لذا تغيرت كل ألواني في أوروبا)..

عرض مقالات: