حين ألغى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية في 1924، كان الإلغاء بمثابة بيان وفاة متأخر، فقد اغتيلت الخلافة وهي في الثلاثين من عمرها:
(تكون الخلافة ثلاثين سنة ثم يكون ملكا عضوضا) وما بين الاغتيال والإلغاء كانت الخلافة ما بعد الراشدية تعيش موتا سريريا، فهي ملك عضوض أموياً، وهي حلبة تصفيات دموية عند بني العباس، وتصفيات داخل البيت العباسي وأخرى موجهة ضد الذين ناصروا بني العباس ومع البويهيين والسلاجقة: نفد َ من الخلافة حتى رأسمالها الرمزي
العثمانيون الذين أسسوا إمبراطورية وصلت فينا، كانوا سلاطين ورأوا في السلطنة رنينا مميزا يتفوق على مفردة خلافة ..
الخلافة هناك من يحصرها في الفترة الراشدية، لكن أثناء الخلافة الراشدية نزفت دماء ٌ غزيرة بدءاً من (حروب الردة) وتوقفا عند مقتل ثلاثة خلفاء،
الحكم الأموي، هو من ارتكب مجزرة كربلاء. وموقعة الحرة، ومجازر لا تعد ولا تحصى. أما أهل الذمة، المحتفظون بدينهم، فهم حسب التفسير الفقهي الإسلامي: في عهد أمان، مقابل الضرائب المفروضة عليهم، وهي ضرائب زادتهم رهقا وهناك مهام أخرى (على الذميين تقديم الخل والزيت وضيافة من يمر بهم من المسلمين لمدة ثلاثة أيام/ الطبري – أختلاف الفقهاء- ص217).. الحكم الأموي، حتى في عهد عمر بن عبد العزيز، وهو أنظف الخلفاء الأمويين كان يؤكد على(لا تدعن صليبا ظاهرا إلاّ كُسِر ومحق،ولا يركبن يهودي أو نصراني على سرج، وليركب على أكاف، ولا تركبن امرأة من نسائهم على راحلة، ولا يلبس نصراني قباء ولا ثوب خز.../ ص88 / دكتور حسين قاسم العزيز/ البابكية/مكتبة الفارابي – بيروت/ 1975 ) ..
الآن الأحزاب الأصولية، تتذكر صورة ً للخلافة لا وجود لها خارج مخيالها الأيديولوجي، هذا المخيال يطالبها بإحيائها، على حساب روح العصر ومتغيرات الحياة اليومية التي على ما بها من سوء، أفضل من السير الى الخلف.
(*)
علاقتي مع كتب المفكر وجيه كوثراني منذ (تاريخ التاريخ) استوقفني بأطروحاته الضرورية، التي تفتح أقواسا للتساؤل الحيوي في لحظتنا العربية والإسلامية، هنا في (الفقيه والسلطان) :المفكر وجيه كوثراني يرى(الخلافة مؤسسة مفترضة في كل مراحل التاريخ الإسلامي، أو متخيلة للمستقبل، اكتسبت وظيفتين: الهدف الذي يُسعى إليه حال بعض الأحزاب الإسلامية والمثقفين الإسلاميين . ووظيفة الفزّاعة التي يخشى منها وينفّر ../8).. ثم يسلّط ضوءاً كاشفا عند وجهة نظر: تمحو الفرق الإسلامية وتناحراتها الدموية، ثم تمتلك هذه الممحاة توكيلا مِن لا أحد وتثبّت تصريحا مطلقا (إن هذا الواقع التاريخي لم يعترف به الإسلام ولم يتحول إلى جزء من الدين)! ..متناسيا أن بعد وفاة الرسول(ص) حدثت ثورتان: الثورة المضادة التي جسدتها حروب الردة، والثورة ضد الخليفة عثمان بن عفان.
من منصة المفكر د. حسين مروّه نوّجه سؤالنا الى تلك الممحاة: التنظيمات التكفيرية والقاعدة وداعش : لمن تنتسب للإمبريالية للنصارى أم للحركات الليبرالية ؟ الجواب الحق هو لدى المفكر وجيه كوثراني في قوله (هذا التعالي على التاريخ والواقع يسمح بإنتاج خطاب إسلامي معاصر له وظيفتان : وظيفة أولى إلغاء الصراعات في التاريخ، وإن اعترف بها بخجل فهي من قبيل الانحرافات أو الآفات ووظيفة ثانية مكملة خوض الصراع السياسي القائم والمعاصر من خلال تبني وجهة نظر يراها صاحبها إسلامية صحيحة، متماهيا مع الإسلام الكلي والشمولي، ويشهرها ضد التيارات العلمانية بوصفها قد نشأت في حضن الحضارة الأوربية وهنا كقارئ منتج،أقترضُ عنوانا من عنوانات المفكر د. عبد الرزاق عيد وأصوغه سؤالا : كيف نستوعب التعدد والتغاير والاختلاف، ونحن في قبضتيّ :ذهنية التحريم وثقافة الفتنة ؟ وعلينا أجمعين أن نعي ان بين الدين والسياسة: علاقة انتباذية / انجذابيه، على مر العصور، لكن الغلبة في الغالب للدين، في الصراع السياسي، فالحاكم يستقوي بالدين، ويستقوي بالتكفيرين وهم يستروحون منه، ما يحرمونه ويتشددون في تحريمه على الكافة !! وكذا كان خلفاء الأمويين والعباسيين. وحده سيد البلاغة وإمام نهجها علي الحق - عليه السلام -: (فرّق بين الحاكمية الإلهية التي قال بها الخوارج، ضرورة الإمارة كمهمة اجتماعية سياسية .كما يقول كوثراني )
كوثراني: مفكرٌ يقف في مقدمة أولئك الذين يفركون الصدأ، عن المفاهيم، ومن أجل هذه المسؤولية يغوص بحثا عن مختارات نبوية وصحابية وإمامية(للتأويل العلماني) للتمييز بين الرأي والوحي، الاستشهاد بميثاق أهل المدينة السياسي، وبالمبدأ القرآني(لا إكراه في الدين) ومقولة النبي(أنتم أدرى بأمور دنياكم)، ويشخص العلمانية، في تحذير الإمام علي عليه السلام، بخصوص رفع المصاحف بهدف التحكيم، إذ قال الإمام (القرآن حمّال أوجه).. وفي موقفه هذا يؤكد المفكّر كوثراني على المساواة بين ضرورتين لمجتمعاتنا:
(العلمانية تساوي حاجتنا إلى الديمقراطية للخروج من طبائع الاستبداد على حد تعبير الكواكبي في آخر عام من أعوام القرن التاسع عشر، وللخروج من مسالك التعصّب وأساليب الاستقواء بالدين وخوض صراعتنا السياسية به على حد ما نعانيه ونعاينه الآن ../25 ) إذن العلمانية في جوهرها ليست نقيض الدين، لكنها ضد الاستقواء بالدين سياسيا وثقافيا ومجتمعيا..
قراءة مقترحة، يقدمها كوثراني للتواصل مع فاعلية التلقي بأفق ديمقراطي بلا ضفاف معطيات مفيدة لفهم مسألة الاختلاف والتنوع والتعدد والصراع بين الفقيه والسلطان، وذلك في منظور يتوخى الفهم السليم لتاريخية هذا الاختلاف، وفي منظور مستقبلي يتوخى مقاربة الحقيقة والتطلع إلى أفق توحيدي في الهدف والغاية) والتوجه نحو دراسة تنتج مفاتيح قراءة لتجربتين متجاورتين جغرافيا ومختلفتين في التفاصيل، ومن خلال: الاختلاف/ التجاور... وجدلية: الدين / السياسة ..
عندما يتمكن الديني عسكريا، يستقوي سياسيا، فيتخلص الجانب الديني من ملاينة المرجفين في المدينة، كوثراني،في قوله عن السلطة في التاريخ الإسلامي،إذ(يحتل الحيّز الديني والحيّز مكانة لا يستغني فيها أحدهما عن الآخر وإن تمايزا)..فالدين الإسلامي ليس دعوة للرهبنة والانتباذ بعيداً عن اليومي ومشروطيته، خصوصا بعد توسعاته العسكرية في المدينة، صار الإسلام يكتنز بمتغيرات صادمة لمجتمع صحرواي، مطمئن في ذاته التجارية، إذ فجأة صارت القبائل أمام (معطيات التجربة الإسلامية الجديدة التي انطلقت كدعوة دينية ذات رسالة وتمثلت بمشروع سياسي كبير تجسد في دولة – خلافة وفي فتوحات وتنظيمات استمدت عناصرها من القرآن الكريم والسنة وعناصر التفاعل الثقافي مع حضارات العالم القديم.
ويتوقف كوثراني عند ازدهار الفقه الشيعي، في العهد البويهي في بغداد، فيذكر الكليني وابن بابويه، والشيخ المفيد والشريفين الرضي والمرتضى، وآخر الفقهاء الجهابذة: الطوسي، ومع صعودهم حدثت فتن واضطرابات دموية في بغداد، أثر وفاة السلطان البويهي شرف الدولة .. والفتن تعد من الذخائر الحية بالنسبة لبعض الفقهاء ومنهم (الفقهاء المتحنبلين الذين كانوا يسيطرون في حينه على الشارع في بغداد ويتقنون فن تحريض الجماهير دامغين إياهم بالعصبية و بالإرهاب الغوغائي كما يقول جورج طرابيشي/ العقل المستقيل في الإسلام/ دار الساقي/ بيروت/ ط2/ 2011 ) ..
منذ الأمويين وحتى وصول البويهيين إلى حكم بغداد، كابد المذهب الشيعي من القمع الخارجي ومن التقية، لكن مع البويهيين انتعش التنظير الشيعي واستطاع أن يؤثل وبعمق متطلباته الفكرية وفي الهواء الطلق ، وتكريس الأجيال علنا بمضامين هذا الفكر: وتحديدا (نشأة علم الأصول) ويرى كوثراني وهو يقتبس من المفكر الشهيد محمد باقر الصدر،الكلام التالي : (لعل أهم ما تُعبر عنه تلك النهضة الفكرية الشيعية في العهد البويهي هو ما يشدد عليه محمد باقر الصدر في تاريخه لنشأة علم أصول الفقه، حيث يعتبر تأسيسا على المعتقد الشيعي:(أن تأخر علم الأصول تاريخيّا لم ينتج فقط عن ارتباطه بتطور الفكر الفقهي ونمو الاستنباط، بل هو ناتج أيضا عن طبيعة الحاجة إلى علم الأصول.فإنها حاجة تاريخية توجد وتشتد تبّعا لمدى الابتعاد عن عصر النصوص/ ص54/ محمد باقر الصدر/ المعالم الجديدة للأصول/ ط3/ دار المعارف /بيروت/ 1981/ نقلا عن ص43/ وجيه كوثراني/ الفقيه والسلطان)..إذن هنا نكون أمام ملء معرفي لفجوة زمنية،أعني أن المعرفي سيردم فجوة ً زمنية ً وسيعة وعميقة ، أعني ..لدينا عصرين :
• عصر الأئمة الاثني عشر، وهو عصر النصوص
• يلي ذلك لحظة ضعيفة الانتاج بسب القمع الخارجي والتقية، جعلت مثقفي المذهب ينشغلون بالسرية التنظيم وهذه السرية، ينشط فيها الوعي السياسي، ويتقلص التنظير.
• عصر نهضة المذهب الشيعي، من خلال اعتناق البويهيين له وهؤلاء بيدهم كل مقاليد الامور الرئاسية: هنا نشطت المنظومة الفكرية الشيعية :(فدخل علم الأصول بسرعة دور التصنيف والتأليف، فألف المفيد كتابا في الأصول، وأفرد تلميذه السيد المرتضى كتابا للأصول سماه(الذريعة) وألّف الفقيه المجدد الطوسي (العدة في الأصول) وهكذا انتقل علم الأصول على يده إلى دور جديد من النضج الفكري،كما انتقل الفقه أيضا إلى مستوى أرفع من التفريع والتوسع/
ولقد كانت انشغالات الفكر الشيعي بعيدة فقهيا عن تناول (شرعية السلطة التي تطرحها الإمارة البويهية.. ) وفي هذا السياق منتج ارتكز على رسالة الشريف المرتضى (مسألة في الولاية عن الجائر) وهو مِن عقب الإمام موسى الكاظم – عليه السلام – وقد صار حُجّة الشيعة وفقيههم بغير منازع ببغداد، وكان نقيب نقباء الطالبيين، كما ولي المظالم واحتفظ بعلاقات جيدة مع العباسيين. والسؤال هل كانت رسالته دفاعا عن النفس، بعد ان رضي عنه ثلاثة من خلفاء بني العباس : الطائع والقادر والقائم ؟ لأن العمل مع السلطان غير الشرعي كانت تهمة شخصية. لذا جاءت رسالته لتفكيك التباس القصد بينه وبين مذهبه الشيعي. للرسالة أكثر من دافع، وهذه الاشكالية ليست جديدة، ويمكن أن نلمسها في ما هو أسطع تجربة أعني علاقة علي بن يقطين مع الخلافة العباسية، وكانت هذه العلاقة بموجهات مذهبية من الإمام موسى الكاظم – عليه السلام.
* وجيه كوثراني/ الفقيه والسلطان / جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين العثمانية والصفوية – القاجارية /المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ ط5 / قطر/ 2017.

(الفكر.. كون عقلي مزهر، ومن دونه يصبح الانسان كائناً ضائعاً. من هنا نحرص على تقديم اضاءات فكرية تتسع للحوار الرصين)
المحرر*

عرض مقالات: