كأنني اشعر بإن الروائي (خالد الوادي) يكثر من العقد السردية، فهل هو قادرعلى حل كل العقد المطروحة في السرد بشكل مقنع؟، كل عقدة سردية بحاجة الى التخريج ولعل هذا ما يجعل بعض الروايات تبدو في البداية قوية ومقنعة لكن كثرة المشاكل السردية التي لا تجد لها حلولا مقنعة في نهاية الرواية جعلت بعض الكتاب يختفون بما يصطلح عليه مفهوم (النهاية المفتوحة).

رواية (منفى الزارزير) الصادرة من دار لارسا سنة 2019 تكشف لنا القدرة التي يملكها الكاتب في تطويع اسلوبه المرن وخياله الخصب القادر على التعبير عن المعاني والمشاعر والاحاسيس، هي التي جعلته يضخ مجموعة من البؤر السردية في بداية الرواية.

ليس سهلا الدخول للنص لأن الكاتب يشاكس الزمن ويتلاعب بالامكنة، وسط بطل (معوق) يحب العزلة كما يحب السينما ويحلم بالجنس مع سعاد حسني، ويعمل في شركة من أوربا الاشتراكية لتكون له علاقات مع الاجانب الاوربين ! ويصادق الثائر المجنون (الممثل شاكر) الذي يملك شجاعة التصريح في زمن الصمت وهو على خشبة المسرح يدعو الى ثورة المجانين"انا دون كيشوت الحالم بالعدل، كيف لي نشره بذلك السيف الخشبي، اذاً انا مجنون. لكن في الحقيقة أحلم بوطن يشبه تلك العدالة التي افهمها جيدا. العقلاء خائفون لا يقتربون من الجنون. هل بنا بحاجة الى ثورة مجانين؟ أن كان كذلك فلينضم الي كل مجنون لنعلنها ثورة يقودها المجنون دون كيشوت هذا الذي واقف أمامكم".

العوق والعزلة

بؤرة سردية وضعنا فيها الكاتب وهي ان بطله معاق، بقدم واحدة، والاعاقة ليست دائما تأتي بسبب الحروب" إعاقتي ليست بالجديدة أنا لست معاقا بسبب الحرب، لقد ولدت بهذا الشكل رجلا بساق واحدة" ومع ان العوق يولد الحزن لكنه يولد ايضا الحسد، لأنه ينقذ صاحبه من الذهاب الى الحرب العبثية "هل تعلمون أصدقائي؟ أن الكثير من الناس يحسدونني على اعاقتي تلك ...أعرف الكثير من القصص رواها جنود عائدون من المعركة أقدموا على تدمير أطرافهم لينجوا من جحيم القتال"، ولكن للنقص ضريبته الاجتماعية والعاطفية خاصة في المناطق الشعبية التي يصعب ذوبان المعاق في المجتمع (عروجه تي تي هذه أهزوجة بمثابة إهانة وإستهزاء بعوقه تستخدم على نحو واسع في المناطق الشعبية) كما ان العوق من هذا النوع يمنعه من ممارسة اللعب مع الصبيان العاب (الركيضة والختيلة).

حب السينما

بما أن السينما تشكل عالما مثيرا يشحن فينا الخيال ويعوضنا عن الحرمان فقد احبها صاحبنا المعاق ووجد فيها السعادة واصبحت عنده عادة وادمان، وتظهر صداقاته القوية برواد صالات العرض حتى وان كانوا من الاجانب (الاوربين) – ناسكو- الذي يعمل في الشركة السوفيتية (شركة كروكوبلكت لاستصلاح الاراضي) والتي ايضا يعمل فيها صاحبنا المعاق حارسا!، بعد ان استطاع صديقه قيس ان يجد له عملا معه في الشركة، ومن عرض الفيلم يستطيع الكاتب ضخ المعاني الانسانية "تدور احداث الفيلم عن لحظة مهمة من تاريخ الإنسانية أجمع، إنها لحظة سقوط برلين وانهيار النازية، إنها نهاية الحرب العالمية الثانية" كما ان للسينما دورا في خلق الوعي لديه بعد ان تعرف على الممثل شاكر الذي تحدث اليه "السينما أختيار يجعلك تحلق فوق الواقع، تنظر الى ما هو أسفلك بشكل مختلف، بعين تشخص الخطأ عن الصواب، السينما صنعت الشعوب".

حيوية السرد

لم تفلت الامور من الكاتب وهو يرسم شخصيات روايته المتعددة، والتي تمثل جميع الاتجاهات السردية، وفي لغة تحمل الغنى والعمق يقدم لنا الاحداث المتعاقبة السارد (المعاق) كما يحلو للكاتب ان يطلق عليه محتفظا بأسمه الحقيقي وقد يكون ذلك متعمدا لكي لا يمثل نفسه فقط بل الاجيال المتعاقبة منذ الحرب الاولى (العراقية – الايرانية) حتى زمن (الاحتلال الأمريكي -الديموقراطية الفوضوية).

لم يقتصر الكاتب على نوع واحد من السرد في روايته بل استخدم احيانا (الحكايات الشعبية) و(الحكايات الخرافية) وشيئا من الادوات السحرية، فهناك علاقة البطل المعاق بالجنيات، وبالزازير، وبالحيات، وعمل امه التعاويذ بالخرز المؤثرة صحيا، ويتجلى ذلك في اكثر من مكان سردي  يوصف فيه تجمع وعادات الزرازير وكذلك صداقته للحية وهو يطعمها السمكات، وحينما تطلب منه زوجة (ساشو) – فيلا- خرزة تساعدها للشفاء من الطمث المستمر، يسافر الى حيث امه "تذكرت أمي، تلك السيدة الحريصة دائما على ارتداء شالها الاسود الخشن، ذلك الشال الذي تتدلى من طرفه مجموعة من الخرز الملونة" هو يستغرب ان تطلب امرأة اوربية منه هذا الطلب لا سيما وهي من بلد (شيوعي) بعد ان عجز الطب من إيجاد علاج لها .

- هل الخرزة المنشودة معك؟ يسأل امه

- نعم معي وسأمنحها لتلك السيدة مجانا، أوصيها بني بأن تحافظ عليها، وتعلقها بدبوس بمكان مناسب، وتنزعها ما أن ينقطع الطمث، انها صدقة جارية، لتمنحها تلك السيدة لكل امرأة تحتاجها"،

الرواية فيها انتقال نوعي للاحداث والشخصيات، ومراحل تاريخية متعاقبة، فيها توصيف لمرحلة القمع لأجهزة الامن على كل شخص بمجرد الشبهة ويعد البطل موضع أشتباه لصداقته الممثل (شاكر) المعارض الذي هرب من المعتقل، ولأنه يعمل مع شركة تعود الى بلد شيوعي،

رد المقموع

 بعد ان تزداد مضايقات الامن للبطل المعاق يضطر الى الهجرة والهرب لتنتقل الرواية بإحداثها الى اوربا، ومن ثم تعود الى العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري، عندما يرى البطل المعاق صديقه (شاكر) أصبح وزيرا للمعرفة، يقرر الرجوع الى الوطن، فيرى الفوضى والانفجارات والقتل ووصف للبلد في منتهى الدقة والتشخيص والتحولات التي اصابت دور السينما والمقاهي ووضع الارصفة وحتى البشر قد تغير كثيرا.

عرض مقالات: