قاص ورسام صاحب روح عالية في عشقها وطيبتها وحبها ونبلها وحنينها وجمالها ووداعتها وكرمها وعزة نفسها ، ويمكن إدراجه ضمن قائمة صعاليك بغداد في فترة التسعينيات لكنه صعلوك مختلف فهو أنيق ووسيم جداً ، لم يعر للمال أهمية في حياته وكل ما بجيبه ينفقه على أصدقائه ولا يفكر بالعودة الى البيت كيف ستكون وهو لا يملك ثمن أجرة التكسي التي ستقله الى بيته في آخر الليل ، أنه القاص والرسام الراحل ( زهير المالكي ) المولود في مدينة البصرة عام 1956 والتي تركها ليعيش حياته في بغداد بعد دخول الجيش العراقي الى الكويت الذي تسبب في كارثة كبيرة للوطن والشعب مازالت آثارها شاخصة حتى هذه اللحظة ولكثرة المطاردات التي تلاحقه من رجالات الأمن بسبب انتمائه الى اليسار العراقي وطروحاته المشاكسة للسلطة .جاء القاص الراحل زهير المالكي الى العاصمة بغداد منتصف عام 1990 مع بدء الحصار الظالم آنذاك على الشعب العراقي بعد ان ترك مدينته وعائلته وأطفاله ليعش حياة جديدة لكنه صدم بالواقع المزري الذي يعيشه البغداديون في أيام الحصار الأولى وكان يعمل من أجل ان يبعث المال لعائلته وينفق كل ما في جيبه على اصدقائه والفقراء الذين يصادفهم في الشوارع ليلا ونهارا ، جلساته في نادي اتحاد الأدباء مع جان دمو وآخرين لها آثارها التي مازلنا نتذكرها ولن يمحوها الزمن ، ففي سنوات الحصار الأولى نهض من كرسيه زهير المالكي في المائدة التي يشاركها مع بعض الأصدقاء وانا منهم في حديقة الاتحاد ليستعجل ( ابو مايكل ) في احضار المزات فدخل المطبخ وشاهد قدرا كبيراً للحمص جاهز ومكتمل طبخه فتذكر زهير عائلته الفقيرة وعوائل الجيران الذين كانوا يرزحون تحت طائلة الجوع في تلك الأيام الصعبة فخلع قميصه الصيفي وأمسك بالقدر الكبير الساخن جدا وأخذه وهرب به وقبل خروجه من باب نادي اتحاد الأدباء لحق به اصحاب النادي وأمسكوا به بالجرم المشهود ثم جاء الشاعر خالد مطلك الذي كان رئيسا للنادي في ذلك الوقت ليحول السرقة ويبررها لزهير بطريقة جميلة لم ينقطع ضحكنا على تلك الحادثة لسنوات طويلة حتى ونحن في منافينا . شخصية زهير المالكي المبدعة والطيبة أصيبت بعطب روحي اسمه العوز والفقر والخوف لكه كان شجاعاً ولا يخاف في قول كلمة الحق في أصعب وأحلك الظروف والمواقف ، وعندما أشتدت على زهير ايام الحصار ومطاردات رجال الأمن أختبأ في مدينة الثورة بواحد من القطاعات عند صديقه كريم الأسدي الذي تعرف على زهير عن طريق اخي الأكبر ستار والشاعر رياض ابراهيم والذي تربطه علاقة صداقة متينة بزهير ، وكريم يمتلك محلا لتصليح السيارات وهو ميكانيكي ماهر في السيارات وفي قراءة الروايات العالمية وخاصة دوستويفسكي وكان معجبا بثلاثية الاخوة كروموزوف بعد ان قرأ الجريمة والعقاب وانبهر بها ، كان محل كريم وفيه استوديو صغير للنوم ومسجل لاشرطة فيروز وهكذا كانوا يقضون الليالي محصنين من عيون الرقيب في أيام الحصار ، وقبل ان اغادر العراق اوآخر عام 1994 ألتقيت بزهير في مقهى حسن عجمي وقال لي انه يعمل مع مقاول في نقطة الحدود العراقية الأردنية ( طريبيل ) وحين جاء سفري مررت بتلك النقطة وذهبت اسأل عن زهير المالكي وسط مجموعة من العمال والفنيين الذين كانوا يقومون ببناء اضافات لمبنى طريبيل في ذلك الوقت ، كان لقائي بزهير قد اعانني على تخطي الحدود التي كان قلبي يرتجف من الخوف لو عبرتها بالرغم من أني قد حصلت على ختم الخروج ، وكانت دموع زهير المالكي وانا اودعه تشعرني بالوداع الأخير لكني وبعد اكثر من عقد من الزمان وحين عدت الى بغداد بعد سقوط النظام التقيت بزهير في مقهى الشاهبندر عند شارع المتنبي كان ذلك عام 2004 وكان اللقاء الأخير . وحين سألته عن عمله ووضعه اجابني بانه بخير ويعمل كرجل حماية في مستشفى الكاظمية ويشرب ويضحك كل يوم وهو السعيد بسقوط النظام والحالم بعراق جديد بعيداً عن الدكتاتورية التي تسلطت على رقاب الشعب العراقي لسنوات طويلة، وفي ايام الطائفية الأولى كانت هجمات كثيرة تشن من الأرهابيين والميليشيات على المشفى الذي يعمل فيه وكان زهير شديدا في تعامله مع الإرهابيين والطائفيين الذي كانوا يحاولون ان يذهبوا بالعراق الى اعلى درجات الموت. وفي ليلة ظلماء لم يكتمل بدرها جاءت ثلة من ثلل القاعدة والبعث لتقوم بإغتيال زهير المالكي في النقطة التي يحرس فيها داخل المشفى. كان ذلك عام 2005 وعندما سمعنا بخبر رحيل زهير كانت صدمة كبيرة للذين عرفوا زهير الإنسان الوديع والقاص الثاقب في رؤياه بالقصة التي كان يكتبها والتي تقترب كثيرا من الشعر فله اسلوبه الخاص وله حبكته الدرامية التي يصور احداثها بطريقة مشوقة تشد القارئ داخل كل قصة يكتبها وينشرها في بعض الصحف والمجلات وعلى نطاق ضيق فهو لا يحب النشر إلا ما ندر ولم يطبع كتابا لكن اعماله الأدبية في القصة كلها موجودة لدى عائلته ، ولزهير باع طويل في فن الرسم وخبرة لعقود من الزمن لكنه العبثي الذي يكتب ويرسم لنفسه .ان اغتيال زهير المالكي في تلك الظروف الغامضة كان بمثابة الخسارة التي تضاف الى خساراتنا فهو الصعلوك الوحيد الذي كان يعمل ويضيّف الصعاليك وينام معهم في حديقة الاتحاد او ساحة الاندلس او أي مكان آخر واحيانا كان يأتي مع أخي ستار وينام في بيتنا ويجعل من اهلنا يبتسمون للحياة رغم مرارة الحصار والحرب . كان زهير المالكي يشبه الملاك في سلوكه مع الآخرين بالرغم من صعلكته الوسيمة والأنيقة. انه آخر صعاليك بغداد النبلاء الذي رحلوا بطريقة مأساوية.
من أوسلو.. آخر صعاليك بغداد النبلاء
- التفاصيل
- هادي الحسيني
- ادب وفن
- 2048