اكتملت الشمعة الأولى في الشاطئ الآخر للإنسان الفذ المناضل الجسور سمير أمين في 12/ آب/ 2018
كتابتي هذه : تحية من أديب عراقي ينتسب الى معتزلة البصرة ...
(*)
الطفل المولود في قرية من قرى دلتا النيل 1931حين بلغ السادسة من عمره، رأى طفلا يبحث في المزابل عن قوت يومه، فهرع متوجعا لأمه يسألها: لماذا...؟!
أجابته أمه الفرنسية: المجتمع رديء ويفرض ذلك على الفقراء.
تأمل الطفل أمه وبكل عفوية الطفولة قال لها : إذن سأقوم بتغيير المجتمع .
مَن الذي في الطفل أنطق الطفل؟ أي فعل استباقي أعلنه الطفل سمير أمين؟
وأي وفاء لدى هذا الطفل الذي سيواصل الإسهام في تغيير العالم بلا توقف حتى الرمق الأخير وهو في منتصف العقد التاسع من عمره الفتي بالمعرفيات والنضالات والكشوفات المعرفية دفاعا عن إنسانية الإنسان في زمن التبادل غير المتكافئ وجحيم فائض القيمة المعولمة والعلاقة الجائرة بين المركز والأطراف ..
(*)
سمير أمين: مثقف عضوي منحدر من سلالة أقامت :(سلطة نافية للسلطة) جذره الثوري هذا، أوصله إلى كينونة شجرة باسقة أيضا في مقبرة بيرلاشيز، التي مازالت تستضيء من دماء كومونة باريس 1871 أبطالٌ واجهوا فرق الإعدام الفرنسية المستعينة بفوهات وجيش ألماني لقمع الحلم الطبقي في عهد لويس بونابرت أبن أخت نابليون
(*)
سمير أمين: شيوعي مصري عضو في حزب الراية، عقل اقتصادي متفوق على عقله وعلى عقل العصر الذي يحلمه، فذاكرته تفكرّ بالمستقبل ويعلنها في كتبه كلها
(لا يمكن أن يكون القرن الواحد والعشرين إحياءً للتاسع عشر، بل تجاوزاً للقرن العشرين. بهذا المعنى ستحتل قضية التنمية موقعاً أكثر مركزية مما كان لها في القرن المنصرم).. ربما لأن أمين من العقول التي ترى البنية الاقتصادية: من الكائنات الحيّة المتطورة، المترافقة للمتغيرات المنتظمة للوجود، إذن يمكننا القول ان سمير أمين من أولئك الداعين إلى (تقليد الجديد) وهو نتاج ثمرة القطيعة الحديثة الشهيرة مع التقليد، الذي دام طويلا بما يكفي – حتى الآن – لكي ينتج تقليدا جديدا قائما بذاته*الخروج من مصر / إيهاب حسن.
(*)
ليس بالاقتصاد وحده يحيا المناضل سمير أمين، فهو السياسي المؤرخ لمرحلة لم يكن فيها السارد العليم بل السارد المشارك حين ألفّ كتابين (الناصرية والشيوعية المصرية) و(قضايا الشيوعية المصرية) ومع اندلاع ما يسمى (الربيع العربي) كان أمين متابعا معرفيا لما يجري، ورأى في الانتفاضات الشعبية علامة أمل ميدانية على تهديم نفق الديكتاتوريات العربية، وترّقبَ نموذجا وطنيا شعبيا، مشروطاً بالركائز الثلاث الواجب توفرها:
• تطبيق الديمقراطية الخلاّقة، مجتمعيا وسياسيا.
• تنفيذ خطوات تقدمية،
• ترصين السيادة الوطنية
أمين يخشى الإجهاز على الانتفاضات الشعبية وحشرها في حيز شمولية الاسلمة، من خلال الدعم الغربي الكامل لمنظمات الإسلام السياسي. ومن خبراته المتنوعة في الاقتصاد والسياسة والنضال، يرى أمين إمكانية ذلك لأن (القوى السياسية الرجعية تقبل ممارسة السلطة في إطار النيوليبيرالية المعولمة والتخلي عن أي احتمال لتحقيق العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني)..ويرى أمين أن الإسلام السياسي نسخةٌ من نسخ الفاشية، خصوصا وأنه يتشارك معها في أهم خصائصها :
• (عدم تحدي جوانب أساسية من النظام الرأسمالي) ومن خلال هذا العدم سيكون الحفاظ على نموذح الرث للتنمية، الذي كان سائدا قبل الانتفاضة الشعبية.
• (اختيار أشكال الدولة البوليسية المناهضة للديمقراطية، في الإدارية السياسية، وفرض الأسلمة القسرية على القيم الأخلاقية)
• (لا يحقق برنامج الإسلاميين، تقدماً إلاّ في سياق حرب أهلية (بين السنة والشيعة على سبيل المثال، ولا ينجم عن ذلك غير الفوضى الدائمة) ويرى أمين وهذا غاية المنشود بالنسبة للعالم الرأسمالي الذي يرى في ذلك (ضمانة لأن تظل المجتمعات المعنية عاجزة تماما عن إثبات نفسها على الساحة العالمية) وهذا الخيار من منتوجات الإدارة الأمريكية والسوق الأوربية، ويرى أمين (أن الولايات المتحدة تخلت عن سعيها الى الحصول على شيء أفضل من، حكومة محلية مستقرة وخاضعة لها).. والمناضل سمير أمين لا يتوقف عند تفكيك الشفرة، بل يطالب قوة التحرر (قدرا أعظم من اليقظة من جانبنا، ومن المتوقع أن تتفاقم الأزمة، وبالتالي، يصبح التهديد باللجوء إلى الحلول الفاشية خطرا حقيقيا...) وموقفه هذا من الإسلام السياسي، هناك من يعده نوعا ً من الجمود العقائدي.
(*)
من وجهة نظر شخصية، أرى أن سمير أمين، تجسد عقلاً اقتصاديا من الطراز الأول في نسقه الرباعي التأليف :
• التراكم على الصعيد العالمي / دار أبن خلدون/ بيروت/ 1973
• التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة/ دار الحقيقة/ بيروت/ 1974
• التطور اللا متكافئ / دار الطليعة/ بيروت/ 1974
• الإمبريالية والتطور اللا متكافئ/ منشورات منتصف الليل/ باريس/ 1976
في هذه الكتب الأربعة، أصلّ سمير أمين بصمة اقتصادية للعالم الثالث وستعرف من خلاله والتي لاقت صدى كبيرا ولا تزال : (نظرية المركز والأطراف) ..
يرى أمين أن التخلف ليس نقصا تنمويا: التخلف هو الوجه البشع للاستغلال الرأسمالي الذي أثري ثراءً فاحشا من خلال نهبه ثروات البلاد التي استعمرها. وهكذا تتكدس في القبضة الرأسمالية العالمية: العسكرتارية، السيطرة على منابع الثروات الطبيعية، غزو الفضاء، السيطرة أيدلوجيا وإعلاميا، ومخالب التكنولوجيا وهكذا يكون ميزان القوى بيد قوة الرأسمال الإمبريالي : التي ستنتج تبادلا غير متكافئ الذي سينتج بدوره : عدم المساواة، حيث تنتج غابة الرأسمال : تقسيما دوليا للعمل.. وبحسب سمير أمين سينشطر العالم شطرين :
• دول المركز الغنية
• دول الأطراف الفقيرة
وبالطريقة هذه :(يعمل النظام العالمي من خلال تقسيم العمل بين الدول. حيث يكون دور دول الأطراف توفير المًدخلات المنخفضة القيمة في المسارات العالمية، بأسعار أقل كلفة من قيمتها الفعلية، فيصبح الطرف متخصصا في إنتاج السلع الاولية، مثل المحاصيل الزراعية والخامات الأولية، التي تصدّر بطريقة أساسية إلى المركز ../ الأستاذة ميسون بكرية/ فك الارتباط مقابل التوسع الرأسمالي/ موقع بدايات لكل الفصول ) إذاً العالم الذي صيّروه ثالثا يعاني الإفقار وليس الفقر، والإفقار سببه الإمبريالية السلاّبة النهّابة لثروات الدول المفقرة .وهذا هو الذي فضحه وواصل فضحه حتى الرمق الأخير : المناضل والمفكّر سمير أمين . وفي كتابه (ما بعد الرأسمالية المتهالكة) يؤكد أمين أن (العالم ينتج والولايات المتحدة تستهلك، والولايات المتحدة تشبه أفضلية قنّاص يغطي عجزه الآخرون طوعا أو قسراً. والوسائل التي تستخدمها واشنطن للتعويض عن عجزها متنوعة : انتهاكات متكررة للمبادئ الليبرالية، والبحث عن أرباح فوق العادة (الدافع الحقيقي للحروب في آسيا الوسطى والعراق) ..ومن جانب أهم يؤكد أمين (يعيش الاقتصاد الأميركي طفيليا على حساب شركائه في النظام) ..أما الديمقراطية الأمريكية فهو يرى فيها النموذج الأمثل لما يسميه (الديمقراطية المنخفضة التوتر) وبرأي أمين أن اشتغال هذه الديمقراطية يشترط الفصل بين : إدارة الحياة السياسية، القائمة على ممارسة الديمقراطية الانتخابية، وإدارة الاقتصاد، المحكومة بقوانين تراكم الرأسمال، ولا يتعرض هذا الفصل لأي تشكيك جذري بل يشكل جزءاً مما يسمى الإجماع العام، في حين أنه يُعدِم الطاقة الخلاقة للديمقراطية السياسية، فهو يخصي مجلس النواب وسواه وهكذا تكون المؤسسات التمثيلية : عاجزة أمام السوق وخاضعة لقسرها، لا أهمية لمن تصوت، لأن مستقبلك لا يتعلق بخيارك الانتخابي بل باحتمالات التغيّر في السوق / 21- سمير أمين/ (ما بعد الرأسمالية المتهالكة ) وللمناضل والمفكر الاقتصادي سمير أمين وجهة نظر تسترعي الانتباه بخصوص الحادي عشر من أيلول 2001 فهو يراه حدثا مهما في التاريخ، ثم يستدرك ويضيف (علماً أنه لم يشكل تحولا تاريخيا، فالحدث في الواقع، لم يخدم إلا إتاحة الفرصة للسلطات الامريكية كي تسرّع تطبيق سياسة جرى تقريرها مسبقا / 10- المصدر السابق) ثم يقارن بين برجيّ التجارة وحريق الرايخستاغ، ذلك الحريق الذي (سمح لهتلر بتشريع سياسة التصفية العنيفة للمعارضة الداخلية..
(*)
إذا انطلقنا من مفاهيم المادية التاريخية، فأن الرأسمالية وحدها من قامت بعلمنة الاقتصاد، فالرأسمالية وهي تستلب فائض القيمة من جهد العامل، فأن هذا الاستلاب وهو الجديد من نوعه وخاص أيضا..( سيتحكم بإعادة إنتاج المجتمع في جملته وليس فقط إعادة الانتاج الاقتصادي) وهذه الخاصية الجديدة متسببة في تصيير الاقتصاد في الرأسمالية إلى علم (أي أن القوانين التي تحكم حركته تفرض نفسها على المجتمعات الحديثة، وعلى الكائنات البشرية، كأنما هي قوانين من الطبيعة. وهنا يتوغل سمير أمين في حفرياته كمعرفي مؤكدا(بمعنى آخر أنه يجري،على مستوى الوعي الاجتماعي إخفاء حقيقة أن هذه القوانين، ليست نتاج طبيعة ما وراء تاريخية، بل من طبيعة تاريخية خاصة: علاقات اجتماعية مميزة وخاصة بالرأسمالي /56- سمير أمين/ م بعد الرأسمالية المتهالكة)..وفي هذا الصدد يرى ألتوسير أن (ماركس غَيَر موضوع الاقتصاد السياسي نفسه، فلم تعد حاجات الناس، كما يرى الاقتصاديون الكلاسيكيون هي ما يحدد موضوع الاقتصاد السياسي. مع ماركس أصبحت علاقات الانتاج وقوى الانتاج هي الموضوع الخاص بالاقتصاد السياسي/20/حيدر دوشي/ القراءة الآثمة/ مشروع ألتوسير الفلسفي)
(*)
في تلك السنوات قرأتُ (واقعية بلا ضفاف) للفيلسوف روجية غارودي، فانشددت ُوأنا أقرأ قراءة جديدة لقصائد (سان جان بيرس) فقد أوصلني غارودي إلى مديات ما بلغتها آنذاك في قراءاتي لروايات كافكا. أما تناوله لبيكاسو فجعلنا نجدد عيوننا في رؤية لوحاته .
(*)
سمير أمين يدعو إلى ماركس بلا ضفاف في كتابه (قانون القيمة المعولمة) وهو يفتتح كتابه بالكلام التالي (ماركس ليس فيلسوفا، ولامؤرخا، ولا عالما في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، بل أنه ليس أستاذا ً من الدرجة الأولى في أي من هذه الفروع. كما أنه ليس أستاذاً بارعا ً حضر طبقا شهيا يشمل جميع هذه المكونات. ويبقى مكان ماركس في التاريخ فوق كل هذا، فماركس هو أول مَن وجّه انتقادا راديكاليا للعالم الحقيقي في زماننا هذا. وهذا الانتقاد الراديكالي للرأسمالية يسمح بل يتطلب، اكتشاف أساس الاستلاب السلعي واستغلال العمل اللصيق به/ 13)، سمير أمين يرى أن ماركس نقطة بداية جديدة للفكر الإنساني، وهذه النقطة تستوجب أن نستوعبها ضمن تاريخيتها، وهذا الكلام يجعلني أسمع، الناقد والمفكر (تيري إيغلتون) وهو يعلن (ينبغي عليّ أن أقدم أفكار ماركس ليس على أنها صحيحة بالكامل، بل على أنها معقولة )..
(*)
سمير أمين يتفرد في قراءة التاريخ قراءة اقتصادية محضة، فيخبرنا في تفكيكه الاقتصادي : أن الرأسمالية طورت القوى المنتجة بوتيرة وأتساع لا مثيل لهما في التاريخ، لكن من جهة ثانية أن الرأسمالية أنتجت هوة ًبين ما كان يمكن أن يسمح به هذا التطور وبين الاستخدام الفعلي لنتائجه وهي هوّة لم يعرفها أي نظام سابق في التاريخ، وأن هذا التطور الرأسمالي الهائل علميا وتقنينا، يمتلك كل مفاتيح المعضلات المادية للبشرية كافة. إلاّ أن جشع الربح والتراكم، له قدرات هائلة في تعطيل هذه المفاتيح، وكقارئ أرى مصداقية هذا الكلام في رواية (عناقيد الغضب) للروائي الامريكي جون شتاينبك، حيث يجري هدر الفائض الانتاجي من المحاصيل في البحر، حفاظا على قوة السوق. وهكذا تنتج الرأسمالية قانونها الاشد شراسة وهو (قانون الإفقار) المؤدي إلى التدمير الذاتي للإنسانية وهنا (يصبح النضال ضد الفقر) واجبا إلزاميا ..

عرض مقالات: