ماذا يعني أن نحتفي بموفق محمد، الذي يحلو لي، دائمًا، وسمه بالكائن الشعريّ،؟ أ ليس الاحتفاء هو إقامة حفلة لاسم المُحتفى به؛ حفلة مشروطة بحضوره جسديًّا، وبقائه، بحسب تقاليد الاحتفال الشرقي، صامتًا. ألا يمكن أن تؤدّي حفلة الاسم، وما يتكدّس فوقه من صفات، إلى الانحراف عن علّة وجود هذه الحفلة، وهو الشعر؟ لا يستحق هذا الكائن الشعريّ أنْ نختصره بصفات جاهزة، ومُكَرَّرة، وكأنّها صارت جزءً من معجمنا النقديّ: (رب الشعر) و (أمير الشعراء) و (شاعر الشعب) و (الشاعر الكبير)، و(شاعر الوتر)، و (شاعر المقاومة)، و(شاعر العقيدة)، و(شاعر الفقراء)...إلخ ليقود تحشيد الصفات، وعينا النقديّ إلى إحلال سيرة الشاعر، ومصادر ثقافته، وأسفاره، ومناسبات قصائده، محل شعره. ما السرّ في ذلك؟ السرّ فيه أنَّ إغداق الأوصاف، يُغني عن رحلة شاقّة داخل أنساق النصوص لاستنطاق لغتها بلغة أخرى. وإنْ كان الجواب أنّ موضع الاحتفاء لا يتحمل ضغط المعرفة النقدية، فيكون الجواب أن الاحتفاء لا ينتهي بانتهاء زمنه، بل يمتدّ فينا، ويُكسبنا عادات يصير، بها، نقدُنا نوعًا من الاحتفاء، إذ يُصبح الممدوح موضوعًا هامشيًّا، لذات المادح. مرّة أخرى إذا كان ثقل المعرفة النقديّة مما لا يحتمله سياق الاحتفاء، أوليس من الأفضل أن يصطحب المُسَجَّلون على لائحة الإلقاء، ورقة نقديّة؛ تتناول منحًى ما مِن أعمال الشاعر؟ ألا يستحق هذا الكائن الشعري أن نجيب، ولو على نحو عابر، عن أسئلة تنبثق ممّا جعله جزءًا من لا وعينا الجمعيّ، وأعني: شعره؟ ما الذي يجعلنا نشهق حين تنهال نصوصه علينا؟ ما سرّ هذه الشرارة التي تجعل هشيم أنفسنا متوقّدًا؟ سأحاول أن أجيب باختصار يستجيب لسياق (الاحتفاء)، ويخرج عليه في آن.
المجاز والحقيقة
أول فصل بين الشعر (الذي يُخفي محتواه)، والنثر (الذي يُبدي محتواه) يمر عبر النوع اللغويّ. فلغة الشعر تنتمي إلى المجاز الذي يعني إفراغ العناصر اللغويّة (الكلمات) من كل ما حملته من معنى، في مجرى تداولها، ومَلْأَها بمعنى جديد، ينبثق عبر إقامة علاقة بينها، في أثناء انغمارها في حالة التبنين المعقّدة. أما لغة النثر فتنتمي إلى الحقيقة، ليس بمعناها الفلسفي ( البحث في معنى الوجود) بل الحقيقة بمعناها اللغوي، وتعني مقتضى مطابقة الكلام للواقع الذي يشتغل فيه.
قلنا إنّ كل ما يفعله الشعراء، منذ فجر الأقوال الشعرية، حتى يومنا هذا، إنما هو تخليص الكلمات من أحمالها الدلاليّة، التي فرضها وضعها في التداول، ومن ثَمّ تصفيرها، وفرض معنى جديد عليها، ناتج من علاقاتها بعضها ببعض، لتكون جُزءًا من عالم المجاز الذي كُلّما نُقّي من شوائب الواقع، صار خالصًا للأدبيّة. أمّا نوع اللغة الحقيقية، فمعيار وجوده مرتبط بقيمته التداوليّة، في بيئة لغوية ما. لِنضربْ مثالين سريعين.
الأول: حين تقول لصديق لك أعمى، وأنتما تسيران في الشارع:
- أنظر مَن جاء
ستُحسّ من فورك أنك أسأت بكلامك إلى هذا الصديق، وكأنك تسخر منه، حين جمعت النظر مع العمى.
فكيف نوجه قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وقد جمع بين النظر والعمى؟
والجواب عن هذا أن قولك لصديقك قد حدث داخل النوع الحقيقي من اللغة، أما قول المتنبي فقد حدث داخل النوع المجازيّ.
حين تضيق رقعة المجاز، جرّاء كرّ الزمان عليه، يلجأ الشعراء إلى البحث عن فضاء آخر له. في القرن الثامن الميلاديّ (العصر العباسيّ)، تم كسر العمود الشعري. في منتصف القرن العشرين تم كسر حاجز التفعيلات (القافية) ليولّد ما سُمي بشعر التفعيلة، أو الشعر الحُرّ. وفي منتصف القرن ذاته تم إقصاء الأوزان، والتحلل من القوافي، لنخرج إلى فضاء قصيدة النثر. وسيظلّ تأريخ الشعر مرتبطًا بنتائج الحرب بين الحقيقة والمجاز التي يختصرها المبدأ النقديّ: كلما وصل الشاعر إلى المجاز الخالص، وأقام أنساقه هناك، بلغ ذروة الشعر. وهو ما عبر عنه تراثنا في بعض مقولاته بشأن الشعر: "أحسن الشعر أكذبه" ليس معنى الكذب هو ما تواضعنا عليه، من مجانبة الصّدق، بل معناه هنا انحراف الكلام عن مطابقة الواقع.
نَزْغ الشيطان
فما وراء استثارة شعر (موفق)، أو نزغ شيطانه الشعري لنا؟
وراءه أنّه لم يذهب إلى المجاز الخالص، بل دمجه بالحقيقة مُستثمرًا جميع مصادرها؛ البيئة، ومسكوكاتها الشعبيّة، والأمثال، وإشاراتها، والتأريخ، وموارده، والشواهد، وحمولتها، واللغة المحكيّة، وعاداتها، واللغة الفصيحة، وتعاليها، ثُمّ استثمر الأنواع النصيّة في الجنس الشعري؛ حتى بات شعره مسرحًا لتداخل النصوص؛ فصيحها، ومحكيّها، موزونها ومنثورها. ولم يكن مردّ هذا التداخل النصي، بناء النصّ الجامع الذي مثّل أحد الاتجاهات الرئيسة في الأدب الحديث، بل مردّه، كما أرى، تمكين الحقيقة من خَلْقه. ولم يكتف بنقل لغة الحقائق الجاهزة، بل توغّل في قعرها، وأخرج منه معجم الكلمات التي لا حًياء لها في التداول، من مثل ( سرسري، مطي، يتمزّز) لينتقل إلى الخطوة الحاسمة في تشكيل ملكوته الشعريّ، وهو تدمير تلك الحقيقة بمعول المجاز. ولفظة تدمير، هنا، تعني كسر سلسلة الحقيقة، في سيرورتها نحو معانيها، بمجازات تأخذ السلسلة إلى كسر توقعنا، وخلخلة أفق انتظارنا، وصولًا إلى فورة الدّهشة فينا.
فلنضرب مثلَيْن على ذلك
يقول في قصيدته ( فتاوى للإيجار):
" مَن رأى منكم (عراقيًّا فَلْيذبحْهُ) بيده فإنْ لمْ يستطِع (فبمدفع هاون) وإنْ لمْ يستطعْ (فبسيارة مفخَّخَة) وذلك أضعف الإيمان.
رواه (القرضاويّ وهو يكرع دماء العراقيين ويتمزّز، منتشيًا بأكبادهم)"
الإحالة على الحديث النبوي الموثّق في كتب الأحاديث. وإذا أزحنا الروابط اللغويّة (التي لها وظائف تتعلق بالتقنية في اللغة، فإن هيكل الحديث قد استعير بتمامه. غير أنه قطع علينا ما انطوى عليه هذا الهيكل من سلسلته اللغوية المسجّلة لدينا، قبلًا، بما وضعناه بين قوسين. فأحدث فينا، نحن متلقيه، تلك الخلخلة التي نسميها لحظة سريان الشعر.
الثاني من قصيدته (ثلاث صور): " ولكي نخفف من سمنة المقابر/ صار لزامًا علينا أنْ نُحرِق موتانا / لنعيد إليها رشاقتها / بأطباق الرماد"
الإحالة على تفشي الموت في العراق، الذي كنّى عنه، بـ (سمنة المقابر) وأزاح فقه الميّت المغروس فينا، في طقوس الدفن، وأحل محله فقه الميّت في طقوس الهندوس وملل أخرى، لترشيق سمنة مقابرنا ذلك هو المفتاح الذي نفتح فيه جميع أقفال شعر موفّق، لا لنستخلص الحقائق منه، بل لننخرط في لعبة الحقيقة والمجاز، أو فنتازيا اليقظة.