لم يؤثر آرثر رامبو في الحركة الشعرية العراقية كتأثير الشاعرة الانكليزية أديث سيتويل في قصائد السياب، والشاعر التركي ناظم حكمت في مسيرة البياتي، والشاعر فدريكو غارسيا لوركا في نهايات سعدي يوسف الافريقية.
ربما كان تأثير رامبو محدوداً في هذه الحركة، شأن مواطنه شارل بودلير لا يتعدى البعض من دواوين بلند الحيدري وحسين مردان، ولكن سيرة رامبو الحياتية ما زال تأثيرها مقروءاً من كافة المثقفين في العالم، فهي سيرة تستدعي التعليق كما اظن اكثر مما يستدعيه نتاجه الشعري المحدود والمتألق في دواوينه المعروفة: "الاشراقات" و"فصل من الجحيم" و"المركب السكران" فضلا عن قصائده الشهيرة المتفرقة امثال: "عاشقاتي الصغيرات، فقراء في الكنيسة، وداع، حروف العلة، كيمياء الفعل". وهي على العموم سيرة غرائبية تدعو الى العجب حقاً، خصوصا في طلاق رامبو للشعر بشكل نهائي وهو في قمة مجده الشعري، وتحوله الى تاجر مرتحل بين عدن اليمنية وهرر الاثيوبية ورأس الرجاء الصالح والقرن الافريقي.
اسماء كثيرة تناولت هذه السيرة وبأقلام تخلع على رامبو صفات "الاسطورة، الشاعر الملعون، الرجل الذي ينتعل الريح، العابر المحترم، الشهيد الكاثوليكي، اللا اخلاقي الملحد، الشاعر الذي عاش في زمن التقلة" وغيرها الكثير كما جاء في اقلام إيتامبل وفرلين وملارميه وكلوديل وباتيرون بيرشون واندريه بريتون وهنري ميلر.
واليوم او قبل اكثر من عام تقريباً، اتحفنا المترجم العراقي كامل عويد العامري بترجمته لكتاب شقيقة رامبو الذي حمل عنوان "شقيقي آرثر" الذي يعد الكتاب الثاني والثلاثين في سلسلة اعمال هذا المترجم، بعد ترجماته المعروفة للكثير من الادباء العالميين، امثال مارغريت دورا وغابريل ماركيز وميشيل بوتور وامبرتو ايكو، من خلال تخصصه المعروف في اللغة الفرنسية المعقدة ذات الجذور الهيلينية واللاتينية والنورماندية معاً، التي قد تختلف عن لغة الجرمان الالمانية والمخصبة ايضا باللهجات النمساوية والمجرية والسويسرية، على العكس من لغة آل ساكسون الانكليزية ذات الرنين الساحر بفعل انتشارها الكوزموبولوتي المعروف في كافة قارات العالم ومن خلال صداها الكولنيالي المعلن منذ اواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم.
وهذا ما يثبت حصافة المترجم وحسن درايته في كل ما ينتج من آداب العالم، ولعل التقاطه لسيرة رامبو من خلال قلم شقيقته ايزابيل رامبو يعد ضربا من الابداع وجرعة "ترجمية" لاذعة لكل الاضابير المهملة او الشوارد التائهة في حياة اشهر شاعر فرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومدى قربه او ابتعاده عن المشهد الثقافي العام في باريس، بالاضافة الى صلات رامبو بشخصيات وادباء فرنسا في ذلك الوقت، ومنهم ألفريد باردي، رب عمله في عدن، مع ملارميه وبودلير واندريه جيد وآخرين ممن شهدوا مراسيم نصب تمثاله في احدى ساحات "شارفيل" حينما كرم رامبو كشاعر ومستعمر، شأنه في ذلك شأن سلفه الشاعر لامارتين الذي اوفد الى فلسطين وسوريا ولبنان في العام 1832 وكتب مجلدا ضخما تحت عنوان "رحلة الى الشرق" وكشف فيه انه جاسوس معلن للمصالح الفرنسية في الشرق الاوسط.
وعلى اية حال، كانت سيرة رامبو بقلم شقيقته ايزابيل مدعاة للتحفظ والدهشة في آن، خصوصا في ما يتعلق بمغامراته الايروتيكية ذات الطابع "المثلي" المعروف مع صديقه الشاعر فرلين. إذ هي ترى في شقيقها قديسا كاثوليكيا لا يأتيه الباطل الا في حالات السكر او التعتعة، اذ يمضي به الانفلات الى دروب موحشة بعيدة عن مسلك الفن والدين والحياة. بل انها تسوغ لشقيقها كافة اللذائذ الحسية ذات الصفة "البيقورية" وتجعل من سيرته موغلة في الصوفية المسيحية، ضمن اشراقات هذا الشقيق الشاعر خصوصا في تجلياته الاثيرة اثناء احتضاره السريري المؤلم.
ومما سيدعو الى الاستغراب حقا، انها تعرض العلاقة بين فرلين ورامبو طيلة السنوات الممتدة بين "1871- 1875" معززة بالرسائل والوثائق، حيث نجد فيها رحلة الشاعرين من باريس الى بلجيكا، والتحاق ماتيلد فرلين بزوجها حيث تبذل المستحيل من اجل استعادة بيت الزوجية، ثم سفر الاثنين الى لندن عبر ميناء دوفر، وملازمة رامبو لفرلين "الذي يبلغ في مرضه" ثم سفراتهما الاخرى المتعاقبة بين روش ولندن وبركسيل طيلة الاعوام المذكورة، وصولا الى اليوم الذي يطلق فرلين فيه الرصاص صوب رامبو فيصيبه في معصمه فيحكم عليه بالسجن لمدة عامين في سجن مون البلجيكي، على الرغم من تنازل رامبو الموثق ايضا في هذه السيرة من دون جدوى، وتستمر التوثيقات الخاصة بفرلين حتى عام 1886 على الرغم من القطيعة الحاسمة بين الصديقين منذ اعوام خلت.
اذن، ما الذي يدعو هذه الشقيقة الى مجانبة هذه الوقائع لتظهر رامبو وكأنه قدس اقداس شعراء فرنسا، بعد ان يئس هؤلاء الشعراء من مسلكه الشائن اثناء فتوته، ثم نظروا اليه في ما بعد بعيون الشك والريبة حينما ترك الشعر الى الابد واصبح تاجرا غامضا في سواحل القرن الافريقي، كما تؤكد السير والحكايات الاخرى المتضاربة حول هذا الشاعر الاسطوري؟
حسنا, لقد جاء في مقدمة هذه السيرة "التي كتبت بقلم شخص ثالث" ما يلي: "يميط هذا الكتاب الجديد اللثام عن دور ايزابيل رامبو، شقيقة الشاعر في تخليد ذكرى شقيقها، فهذه السيدة المؤمنة الريفية التي ترتدي اثوابا صلبة الاقمشة، يزمها عند الخصر مشد ضيق، كانت شاهدة لحظات اخيها الاخيرة، ومعاناته الرهيبة اثناء احتضاره، بمرسيليا، فكتبت ان شقيقها يشبه "قديساً" تقرب من الخالق قبل ان يلفظ انفاسه الاخيرة. وهذه اول اسطورة نسجت في رامبو وبعثت حيرة في اصدقائه، ولكن ايزابيل لم تأل جهدا لترويج الاسطورة هذه، في وقت انتشرت اشاعات تتهم الشاعر الراحل بانه دهمائي خليع، ودرج على تخريب منازل اصدقائه الباريسيين، وبالغ في معاقرة الخمرة وتاجر رقيق وتسوّد على مجموعة من العبيد في افريقيا".
وسرعان ما ينسف كاتب هذه المقدمة انطباعه الاول عن السيدة الريفية المؤمنةن إذ يقول: " ولم تتراجع ايزابيل امام الحملة هذه، وانكرت صحة الاشاعات ودحضتها، وقاضت ناشر نسخة مقرصنة من اعمال شقيقها صدرت يوم وفاته، فاضطر الناشر الى مغادرة فرنسا، ونظمت احتفالات دينية على روح شقيقها في الكنائس، وطالبت بحصة اخيها من شحنة "بطاريات مطبخ" كان يتولى رامبو بيعها في الصحراء، واهملت وتركت نهبا للجرذان والصدأ. وتزوجت ايزابيل بباترن بيريشون، وهو مثقف من كبار المعجبين بشقيقها، وطلب يدها قبل مقابلتها، فهي شقيقة رامبو وبهية الطلعة بالتأكيد، فخشيت والدة رامبو "فيتالي" ان تكون ميول العريس الجنسية غير سوية، فسألت عنه "امير الشعراء" ملارميه الذي سكن مخاوفها..".
واثر عقد قرانهما – كما جاء في خاتمة هذه المقدمة – واصلت ايزابيل وزوجها حملة تلميع صيت آرثر فبرزت صورته تاجراً اميناً ادى دورا دبلوماسياً بارزاً في مفاوضات بين الزنوج والانكليز في القرن الافريقي.
هذا ما جاء في مقدمة الكتاب التي خلت من ذكر اسم كاتبها. والآن دعونا نتفحص محتويات الكتاب التي تضمنت 17 عنواناً، سبعة منها حملت ما يلي: "آرثر رامبو، مقدمات الاسطورة، شقيق آرثر، رامبو الرحلة الاخيرة، وثائق الايام الاخيرة لآرثر رامبو، الرسالة الاخيرة، العلاقات بين بول فرلين ورامبو، عقد تنازل رامبو". بينما جاء ترتيب بقية العناوين بالشكل التالي: "قراءة في بعض قصائد رامبو، عاشقاتي الصغيرات، قصيدة فقراء في الكنيسة، الانسياق الرامبوي، السقوط والانفتاح، بداية ساطعة، التطابقات الرامبوية، التحولات الشعرية، الاختلال الشعري، النبوءة الرامبوية".
ويلاحظ ان جميع العناوين المذكورة قد رتبت بشكل اعتباطي ملموس، وليست مبوبة بالشكل المتعارف عليه في أية سيرة اخرى. وهذا خلل –كما اظن- تقع مسؤوليته على الناشر الفرنسي الاصلي، وليس من مسؤولية او مهام المترجم الذي تقتضيه الامانة ان يقدم ثريده في الصحن نفسه، وليس الى جانبه. كان من الاولى لهذا الناشر ان يبوب الكتاب الى قسمين او فصلين حاسمين، الاول يتضمن العناوين السبعة الاولى فضلا عن مقدمته المذكورة، والثاني يكون اضمامة لقصائد راميو التسع بتعريفاتها النقدية البارعة.
الملاحظة الاخرى حول هذا الكتاب ايضا تتعلق بذات القصائد التسعة، فهي وان عززت بمقدمات نقدية ذكية تفصح عن قراءة حداثوية مبهرة لقصائد رامبو الشهيرة، فهي بالمقابل لا تفصح عن قلم كاتبها الحقيقي، ومن غير الممكن بالمرة، اعتبار هذه المقدمات النقدية هي من تقولات ايزابيل رامبو او تقف وراءها، بعد ان اعلنت في احد العناوين السابقة، بانها لم تقرأ يوما قصائد اخيها، وانما عاشت ضمن رغبتها الشديدة في شفائه، بأي ثمن. والسؤال، هل هي من تقولات الناشر الاصلي القديم، ام من تفوهات الزوج المعجب المثقف الكبير؟!
وبعد، فان مثل هذه الاستذكارات لا تقلل من قيمة المبادرة للمترجم الاستاذ كامل عويد العامري، وجهده الملموس في اعداد هذه السيرة وتقديمها حريفة طازجة، وفاء لشاعر طليعي كثر الحديث عن سيرته او حياته الشخصية على حساب المكانة التي تستحقها موهبته الشعرية ويؤهله لها وعيه الشعري المبكر.