يعد أهم شكل نثري ظهر في "أدب ما بعد الحرب" كان هو "القصة القصيرة". حيث استثمرت بشكل نافع من كثير من المؤلفين وبخاصة من بورشرت وشنورا. وكمثال يحتذى به كانت القصة الأمريكية القصيرة وأيضًا المؤلفين وفوكنر، همنغواي وأدجر ألن بو. وتضم أشهر القصص القصيرة لبورشرت كل من "ساعة المطبخ"، "في ذلك الثلاثاء" و"الكرز".
ولا يكاد يكون كاتب عربي من المحيط إلى الخليج إلا وتأثر بالحروب التي عانت منها الأمة بدءًا من الاحتلال الأوروبي، ووصولاً إلى الحروب ضد إسرائيل، حيث كانت هُناك العديد من الأعمال التي تناولت الحرب، مثل "في الصيف السابع والستين" للروائي إبراهيم عبد المجيد، ومجيد طوبيا الذي كتب "أبناء الصمت" وكذلك كتابات جمال الغيطاني عندما كان مراسلًا حربيًّا، وسجّل في روايتيه القصيرتين "الغريب" و"الرفاعي" بطولات من حرب أكتوبر؛ أيضًا كتبت الروائية السورية غادة السمان مذكراتها التي وصفت فيها وقائع ومجريات الحرب الأهلية اللبنانية التي عايشتها تحت اسم "كوابيس بيروت".
إن أول الخاسرين من ويلات الحروب هن النساء، فالنساء أحزان وهموم وشجون وأوجاع في القلب، ومسؤوليات جسام نحو الأبناء والآباء والأمهات إن ذهب الرجال في الحرب. فتحت سطوة الاحتلال يخرج الرجال وتحمل النساء كل الهموم، وهذا ما لمسته الكاتبة العراقية د. نجاة صادق الجشعمي وسطرته في كتابها (حكايات نساء بغداد والبصرة)، والذي صدر بالقاهرة عن دار الوطن العربي للنشر والإعلام (رؤيا)، وقد شمل ستا وستين حكاية تتناول جحيم ما بعد الحرب لملايين النساء وليس لست وستين امرأة فقط، وأكدت عليه الكاتبة حيث تناولت كل القصص حكايات للنساء كما يبدو من عنوان الكتاب ومن عناوين القصص التي حملت كلها بلا استثناء أسماء نساء مثل: نورة فوزية خيرية أم حاتم سوسن لطيفة الست عزيزة، وهكذا، فنحن إذن أمام نوع من الكتابة قد يسمى الأدب النسائي والذي تكتبه المرأة عن أحوال المرأة لتطرح فيه قضاياها ومشكلاتها النسوية والتي مهما تناولها الرجل فلن يفلح (إلا فيما ندر) في غور خباياها مثل كاتبة أنثى تكتب عن قريناتها.
ونحن هنا في كتاب (حكايات نساء بغداد والبصرة)، نتوقف أمام مأساة واقعية من خلال مجموعة من القصص، هي مأساة شعب بل أمة بأكملها تؤثر في الوجدان والمشاعر تأثيرا مهولا أكبر من تأثير القصص والروايات التي ينسجها الأدباء من مخيلتهم. هي مأساة تعرضنا كلنا لها واحترقنا بنارها كشعوب عربية بل ونحن كمصريين -على الأخص- بعد الشعب العراقي مباشرة نظرا للترابط الشديد بين الشعبين مع تواجد واندماج آلاف بل ملايين المصريين في العراق حتى صاروا من أبنائه.
وقد آثرت الدكتورة نجاة صادق نقل تلك التجربة والمآسي رغبة في أن نتعايش تعايشا كاملا مع بلد شقيق في ويلات وآثار الحروب والاحتلال والتي نشك أن نكون قد نسيناها بعد أن عانينا منها أيضا على مدار سنوات طوال، وقد يكون الباعث لدى الدكتورة نجاة لهذا ليس فقط من منطلق كونها تقص القصص وتغزل الشعر بحسها الفني ولكن أعتقد ايضا من كونها في الأصل باحثة في التاريخ ، فمن باب التسجيل والتأريخ أيضا لأجيال قادمة، حتى لا يطوي النسيان تلك الأحداث لتعطى الفرصة لأجيال قادمة للاستفادة والتعلم من مأساة شعب أرهقته الحروب المؤامرات والدسائس.
نحن أمام نوع خاص من الكتابة لا ينتمي لأدب الحرب كما قد يظن البعض ولكن هو أدب ما بعد الحرب، وهو الذي يتناول النتائج السلبية للحروب والدمار الاجتماعي والنفسي الناتج عنها. ودائمًا ما يُرمز لأدب "ما بعد الحرب" بـ "أدب الأطلال " و"أدب الدمار". والذي يعبر عن القيم والمثاليات المنهارة، وحقيقة الحرب والتجربة بين الموت والبقاء داخل تلك الأطلال. ومن بين الدول التي عاشت ويلات الحروب خرج علينا كتاب ومبدعون يكتبون وجهة نظرهم، ينتصرون للإنسانية، وليس للحدود الإقليمية الفاصلة بين الدول، ولكن الملاحظة الغريبة في الأمر أن كل هؤلاء الكتاب ينتمون إلى دول عاشت الحروب، سواء كانت منتصرة أو مهزومة، تملكهم الإحباط واليأس بين سطور كتاباتهم، رافضين الحياة وسط هذا الدمار.
ومن أهم نماذج أدب ما بعد الحرب الرواية الألمانية الغربية بعد الحرب فإن أبرز الأسماء هي هاينرش بول، وغونتر غراس، وزجفريد لينتس، ومارتن فالسر. ويتناول الفن القصصي في مجمله الدمار الروحي والدَّمار المادي الذين تسببت النازية فيهما. كما يُعد كل من فريدريتش دورينمات وماكس فرتش السويسريين من أبرز المسرحيين الذين كتبوا بالألمانية. وهناك روولف هوخهوت وبيتر فايس في مجال المسرحية.
وفي رحاب "حكايات نساء بغداد والبصرة" تصفها في المقدمة (هذه القصص لم تكتب بشكل تقليدي للقصة القصيرة المعروفة وليس بأسلوب حداثي ولكنها قصص وحكايات خرجت من القلب والذاكرة بشكل تلقائي بسيط) فهي حكايات ليست بها حاجة للتزين الأدبي، فقد كتبت بحروف من دموع وسطرت بجمل من مشاعر مذبوحة، وتشابكت حبكتها من دماء الحزن والألم، عن بلد هوى من أعالي التقدم والازدهار إلى أسفل منحدر الخراب والدمار، بلد قهرت شعبه الشجون. تميزت كلها باللغة البسيطة السهلة التي لا عوج فيها وتورية أو كناية أو تشبيهات بلاغية، لا تحمل أي دلالات أو رموز غامضة في كلماتها لكن تفجر لنا الكثير من الدلالات الدرامية في مضمونها ومعانيها الموضوعية.
تحدثنا في قصتها الأولى (نورة) عن فقدان الكرامة وإهانة الإنسان والذل الذي يمكن أن يعيشه بسبب الفقر الذي سببته الحرب، فتعرض لنا ذلك من خلال البطلة نورة، التي كما تصفها الكاتبة هي معلمة ناجحة وأم ممتازة وزوجة تعيسة وقد أبت أن تتعرض لتلك المهانة، تحكي فيها عن اعتزازها بنفسها وحفاظها على كرامتها ورفض الإهانة من موظف الجمعية التعاونية، وأصرت على الاحتفاظ بكبريائها حتى وإن لم تحصل على علبة اللبن غذاء أطفالها، فآثرت الجوع على المهانة.
أما في حكاية (الساحرة زينو) تطرح فيها أزمة الرغبة المدفونة للمرأة نتيجة غياب الرجل عن حياتها ومقاومتها لتلك الرغبة حفاظا على أخلاقها ودينها وشرفها فتعبر عن صراع الأنوثة داخل المرأة ومقاومة سحر الشهوة والنزوات لإبقاء المرأة على شرفها دون أن يتلوث. أما في قصة (جنان) فتطرح مسألة الخنوع والخضوع للمحتل الذي يحاول دائما إذلال أصحاب الوطن حتى ليقضي على حياتهم إمعانا في جبروته وإرضاءً لساديته، فتتناول معاناة المرأة العراقية التي فقدت أسرتها كلها وأبناءها في الحرب وفيما بعد الحرب.
وتتوالى الحكايات ما بين الفقر والمرض وصرخات الثكالى ومشاكل الصحة والتعليم والزواج، ففي قصة (بهية) التي تدور حول امرأة مسنة قتل زوجها أمامها وتجاهد من أجل لقمة العيش وعلاج ابنها المريض. ثم نتعرف في قصة (صديقة) على المرأة التي صدمت في زوجها بعد وفاته حيث علمت أنه عاش معها متزوجا عليها من امرأة أخرى. أما قصة (حميدة) فتحكي عن القهر الذي تتعرض له مقابل الاغتصاب والمهانة الاجتماعية للمرأة أمام شهوات الذكور في مجتمع متفكك وحتى والدها لم يرحمها وقتلها في النهاية مع أنها مجني عليها.
وها هي قصة (سوزان) الفتاة ذات السبعة عشر ربيعا حيث تعاني من الحرمان العاطفي لوفاة أمها وعيشها مع زوجة أبيها وتنفعل وتتفاعل مع مرارة هزيمة الوطن ودماء الشهداء حتى تستشهد بقذيفة غدر من طائرة الأعداء.
ولا يفوتنا أن نمر بينها على قصة (عزيزة) التي تناولت فيها طرحا سياسيا يتعلق بالديكتاتورية والظلم الذي تعيشه البلاد اثناء حكم نظام صدام من خلال لجنة للانتخابات اكتشف فيها مسؤول وموظفو اللجنة أن أحد الناخبين كتب في ورقة الانتخاب كلمة (لا) لرفضه انتخاب صدام، فكانت أشبه بالصاعقة عليهم جميعا، فتوضح لنا الكاتبة أن جميع الحضور سينزل عليهم اشد العقاب، في حبكة جيدة وتصاعد درامي شيق نحو ذروة الحدث باكتشاف صاحب كلمة الرفض حتى يأتي الحل في النهاية بابتلاع الست عزيزة للورقة وتأكلها ماحية وجودها واستبدالها بورقة أخرى كتب فيها (نعم)، هنا تلمس الكاتبة وترا شديد الحساسية حول النظام المستبد الذي يسيطر على كل مقاليد الأمور مغلقا نوافذ الديمقراطية بأكملها جاثما على أنفاس مواطنيه. فنلاحظ هنا أن الحل جاء على يد سيدة وهي أبسطهم لكنها أكثرهم رجاحة وحسن تفكير وتدبير من وجهة نظر الكاتبة مما يضع المرأة في موقف تقدير لحسن تفكيرها وتصرفها عن الرجال. وتعد تلك القصة من أفضل قصص المجموعة.
إذن نخلص إلى أن الكاتبة قد انتصرت للأنثى فتحدثت عنها بصدق وواقعية واستطاعت أن تعبر عن معاناتها وكفاحها وصبرها وألمها وعذاباتها وكل أوجاعها، فقد نقلت لنا بشكل فني بسيط من خلال القصص القصيرة أو الحكايات كل مشاعر الأنثى المختلفة باختلاف واقعها وانتمائها في بلد ينطوي على عشرات الاتجاهات الدينية والسياسية والعقائدية، لكن الأنثى في النهاية يجمع شتاتها الألم والمعاناة والكفاح، ولعل الكاتبة تشير في مقدمة الكتاب قائلة (هذه القصص ليست من الخيال ولكنه واقع الحال ما جرى للنساء في البصرة وبغداد من مصائب وأهوال لم ينهزم العراق فقط أمام أمريكا وقوات التحالف عسكريا بل انهزم إنسانيا، صرنا مِلَلاً ونحلاً وصار للمرأة العراقية النصيب الأكبر لتحمل اسم زوجة شهيد أو مفقود أو جريح وأصبحت من تزوجت سنيا أو من عشقت كرديا أو من تزوجت بعثيا أو شيوعيا أو شيعياً ضحية الغباء الذى استشرى في المجتمع العراقي الذى كان عظيما ذات يوم تحت علم ونفس واحد هو العراق فسامحوني على قول الحقيقة من دون رتوش أو تزييف أو خداع فهل تتحملون الحقيقة حتى نواجه أنفسنا لنغيرها؟).