عايشت فترات عديدة بعض الشخصيات القيادية في الحزب الشيوعي العراقي، وكانت المعايشة بطريقتين: إما مجاورة في عمل، وإما قراءة لمنجزهم الفكري والثقافي. فأنا أدعي وبحكم ارتباطي لأكثر من نصف قرن بقضية شعبنا العراقي، ومنها إلى القضايا الإنسانية بما فيها قضايا الوطن العربي، أن عديداً من قادة الحزب الشيوعي كانوا في مقدمة من يضع هذه الرؤية الكونية في فهم وتفسير أية قضية وطنية مهما صغر شأنها أو ضعف تأثيرها، فكانوا لا ينظرون لأية قضية بمعزل عن أبعادها وظلالها وما يمكن أن تؤول إليه.
كانت مزاملتي بوجهيها، نوعًا من القراءة للكيفية التي يرتبط الفكر فيها بالتنظيم والممارسة، وكانت حصيلة هذه المزاملة، من عملي في التنظيم وفي الصحافة، استقراءً منهجياً – ولو بحدود قدرات مثقف يفكر وحده في طريقة لفهم الآخر- وهو أن القائد ليس مركزًا، وكرسيًا، بل هو منتجه الفكري ورؤيته، وممارسته، وفهمه لما يجري، ومن ثم يأتي التنظير، للربط بين حركية الواقع والتصور الفكري. وللأمانة، لم أكن أهتم كثيرًا بما يقوله لينين أو ستالين أو ماو تسي تونغ أو غيره خارج منطق أقوالهم الثقافية والفكرية العامة، وكنت أعتبر آراءهم وأفكارهم منطلقة من رؤيتهم لواقعهم الداخلي أكثر من تنظيراتهم عن العالم الخارجي، عدا رؤية ماركس وانجلز التي كانت مبنية على فهم للفلسفة وللممارسة ضمن مجتمعات متطورة نسبيا، أعني: المانيا وانجلترا.
ما نشهده اليوم على مستوى التفكير الفلسفي في العالم، أن من يحرك التاريخ، ويتداخل في بنيته المعرفية الشاملة هو ماركس، وليس أي أحد من قادة ومنظري تلك البلدان والمراحل، بالرغم من حضور البعض منهم، خاصة في ميادين الثقافة مثل غرامشي. وهذا يعني أن ما يحرك العالم، نظرية وممارسة هو الاجتهادات الفلسفية التي تنطلق من الأسس المادية بكل تنوعاتها، لفهم عالم اليوم. فنقرأ اجتهادات فلاسفة ومفكرين عن ماركسية ماركس في تصوراتها لعالم المستقبل، ولم نقرأ عن ممارسات ستالين أو لينين ما ينبئ عن فكر منفتح على عالم الغد.
لست هنا بمحلل للنظرية الماركسية العظيمة، التي انطلقتُ منها لقراءة كل شيء: الحياة، المجتمع، والتاريخ، وبنى الفكر والفلسفة، بالرغم من الغطاء الأيديولوجي السميك الذي تؤسسه النظريات الرأسمالية بتلاوينها الكبيرة والواسعة وما يصرف عليه من مليارات النقود كي تغطي الماركسية أو تضعفها. وجدت أن الماركسية بجذورها وتنوعاتها اللاحقة تنبثق من جديد وباشكال معاصرة، كلما ظهرت أزمة اقتصادية أو اجتماعية أو إنسانية، هذا يعني أن الماركسية كمنهج، لا يمكن تجاوزها في فهم التاريخ وحركة التحرر وبنية الحياة المقبلة.
ضمن هذا التصور، قرأت من جديد بعض كتابات قادة الحزب الشيوعي العراقي، من الشهيد الكوني فهد، وإلى آخر ما تيسر لي من تنظيرات صحفية أو مذكرات، أو كتابات، أو استرجاعات لممارسات كنت فيها مع بعضهم. وأحسست بالحيرة، أن قصورًا نظريًا ملفتاً، ليس في أحزابنا الشيوعية العربية فقط، بل في الحركة الشيوعية العالمية، عن إعادة قراءة تاريخ التجارب قراءة نقدية، أو قراءة محايثة لقراءة الفلسفات الأخرى، لوجود أرضية كونية متغيرة، ووجود اختراقات طبقية جديدة للطبقات الإجتماعية التي بنت الماركسية عليها أسسها النظرية. ومع ذلك، عدت من جديد لقراءة مؤلفات الكبير عالميا، فهد، وقرأت كل مذكرات قادة الحزب الشيوعي العراقي، فوجدت فيها كما هائلا من التنظيرات والاستنتاجات التي نتجت عن رؤيتهم لما يجري في العراق ارتباطًا بما يجري في العالم. وحقيقة استشعرت أهمية القراءة لهذا المنجز الثقافي والفكري. وبدون الإشارة لأسماء معينة من القادة الذين ترافق عملهم مع تنظيراتهم وتجاربهم، وجدت أننا نمتلك أرضية خصبة لرجاحة الرأي الفكري، وأن قادتنا ليسوا مجرد كائنات تدرجت في عملها ووصلت إلى قمة القيادة، بل كانوا تجريبيين، منطلقين من أسس ماركسية رصينة، ولهم اجتهاداتهم-قد يختلف البعض معها اختلافات جزئية-، ولهم طروحات لا يمكن إغفالها في رؤية أية مرحلة من تاريخ العراق.
لذلك، ليس من السهل التفكير بثانوية تفكيرالحزب الشيوعي في أية مرحلة من مراحل تطورنا الإجتماعي والفلسفي، ففي تلك الكتب والمساهمات تجد معنى ان يكون المفكر قائدا ومنظرا، ومتفهمًا للظروف، ونتيجة لقلة القراءات لمنجز القادة الرواد، بل وانعدامها في صحافة الحزب وحلقاته، أجد من الضروري إعادة القراءة لتلك الأوراق التي كتبوها عن خبرة وممارسة، ففيها ما يغني، لأن فهم الشيوعي الشاب لتاريخ حزبه لا يتم من ثقافة الحاضر فقط، بقدر ما يتم من فهم الجذور المتشابكة مع فكر العالم.
هي دعوة لقراءة كل انجازات القادة الذين عبروا عنها بكتابات ومواقف، لإعادتها إلى الواجهة العملية لما فيها من رؤى وافكار وممارسات، تضع الشباب ضمن رؤية استمرارية التفكير العملي، وليس ضمن بقاء المقولات القديمة دون فحص ونقد واجتهاد.