(رواية التاريخ) تمظهر من تمظهرات ما بعد الحداثة، ومصطلح يدلل على نمط من الكتابة السردية غايته ميتا تاريخية، ومحصلته محكي التاريخ الذي لا يتحقق إلا باستثمار التاريخ المدوّن، مع استنهاض الوعي الفكري الذي يخلخل أطر هذا التاريخ المعرفية، ويقوّض أساسات التوثيق فيه، مستعينًا بالتخييل والتخريف والتحريف معًا، باتجاه بناء معمار نصيّ تشفيري، يجرِّد الحدث التاريخي من قيود الزمان والمكان، وبرؤية حاضرة تستشرف المستقبل، بناءً على حقيقة( أنَّ ما تقوله الاخباريات لا يقتصر على أنَّ كذا وكذا حدث في وقت معين، ومن ثم حدث شيء آخر في وقت آخر؛ بل إن التسلسلية هي نمط أو مستوى من تنظيم الحياة المعيشة داخل الزمن)، كما يقول هايدن وايت في كتابه (محتوى الشكل)، ص377.

وهذا ما نجده عند الروائي جهاد مجيد في روايته (حكايات دومة الجندل) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية عام 2004، كرواية تاريخ تريد أن تُشيّد محكي التاريخ من التخييل، الذي به يردم الكاتب هفوات التاريخ الرسمي، بوعي عميق ينفذ إلى المتاهات والكواليس، عارفًا كيف يستحضر المتواري والمضمر، مشككًا في الوثائق، غير آبه بالمدونات والأخبار. وغايته من التشكيك إعادة كتابة التاريخ من جديد، في صورة سردية أهمُّ صورها الرواية، التي فيها يُستثمر التاريخ ليكون موضوعًا سرديًا هو (رواية التاريخ). ومبررات هذا الاستثمار أنَّ الانسان هو الذي يصنع التاريخ وليس العكس، والانسان بحسب الأدبيات الماركسية هو فاعل التاريخ وليس المنفعل به حسب؛ وعن هذا يقول بول ريكور: (إن علينا دائما أن نتاول وجودنا والتأثر بالماضي بتوتر جدلي ايجابي مع أفق توقعنا اليوتوبي).

وقد ابتدأ الروائي جهاد مجيد مشروعه في كتابة محكي التاريخ، بقصته (ليلة منسية من ليالي شهرزاد)  المستوحاة من الموروث الحكائي الشعبي والمنشورة ضمن مجموعة (الشمس في الجهة اليسرى) عام 1972، ثم اتبعها بعد سنوات بقصتين هما (البيت المهجور) و(اليوبيل الذهبي). وفي منتصف الثمانينات نشر ثلاثيته القصصية (الذكرى المئوية) و(خطاب القرون) و(ذكرى القرون) وفيها أعاد الاستاذ جهاد مجيد لمحكي التاريخ حيويته وجعله مفتوحّا على الوجود والزمان، عبر معاينة الواقع بوعي يُنقذ من الوهم في أنَّ التاريخ هو الماضي، كما يعري استبداد الانظمة التوتاليتارية ويفضح زيف المركزيات الابوية وكارثية الاضطهادات الطبقية والعقائدية على مر التاريخ.

والمدهش أن هذا التمثيل السردي في إعادة كتابة التاريخ، بدا مبكرًا بالقياس إلى ما كان يسود الغرب من طروحات لم تتوضح مدياتها النظرية آنذاك بعد، عند بول ريكور وهايدن وايت وغيرهما. ومع ذلك ساهم اهتمام الكتّاب العراقيين بالتاريخ في تمكينهم من الانكباب على قراءته قراءة اليغورية تتخيل الماضي كي تضيء مجاهيل الواقع المعيش، ولقد كشف الاستاذ جهاد مجيد في مقالة بعنوان ( خارطة الوعي ) المنشورة في العدد الاربعين من مجلة الاديب المعاصر عام 1989 عن تشكل ميول مبكرة لديه نحو الاهتمام بالتراث اللغوي والقصة الواقعية وروايات تيار الوعي والرواية الجديدة، دشَّنها بميله نحو شكل من الواقعية سماه الواقعية الايهامية، مدركًا أنَّ سبب محنة الكاتب الواقعي الملتزم هو استنفاد الواقعية لكل معطياتها الممكنة، وهذا ما يجعله يلجأ إلى ما هو خيالي وسحري وخارق.

وفي رواية (حكايات دومة الجندل) يكون السهو والتخريف أساس السرد التاريخي ممثلا بحكايات الجد عن المدينة/ الحلم، بينما يكون الارتياب والتشكيك أساس التخييل السردي ممثلا بالحفيد الباحث عن حقيقة المدينة/ التاريخ، وقد جمع بين تلقي الماضي وتجربة الحاضر وتوقع المستقبل، مفندًا فرضية أنّ التاريخ الرسمي مكتمل الوقائع، دقيق الوثائق، عصي على التغيير.

والثيمة التي تدور حولها الرواية، مكانية هي (دومة الجندل) التي هي ليست مدينة ككل المدن. إنها اليوتوبيا والدستوبيا معا التي منها بدأ التزييف في التاريخ الاسلامي، بينما يكون الميتاسرد هو القالب الذي فيه تصب أحداث الرواية على شكل اطروحة أو بحث كما يذهب ميشيل بوتور، فالبداية هي (مدخل) يحكي فيها الجد سيرة المدينة في ثلاث قصص قصيرة على التوالي، تفصل بينها نجوم صغيرة، ثم تتلو المدخل فصول خمسة مرتبة بحسب الحروف الأبجدية من الالف الى الهاء، وكالبحث الاكاديمي تنتهي بخاتمة يأتي بعدها فهارس الاعلام والوقائع التي كتبها الجد ثم المستدرك من فهارس الحفيد على فهارس الجد.

والبحث خير وسيلة في الكشف عن مخبوءات مكان تاريخي، فيه يتوغل الحفيد ساردًا الاحداث بنسق كابوسي، صانعًا بانوراما ملحمية لمدينة تاريخها أسود بالحروب والغزوات والاغتصاب والظلم؛ لكن متخيلها وردي أبيض، ناصع بجمال الطبيعة وبهجة الانتصارات وروعة الامجاد، ليحفر بمعاول الارتياب، مزيحا الغبار عن المندثر والمتواري من تاريخ هذه المدينة، التي فيها للتاريخ ماض ينبض، وحاضر يعيش، ومستقبل يتوجه إليه.

وما بين التاريخ والمتخيل تتخلخل ثوابت التاريخ الرسمي فيتفتت إلى وحدات صغرى، تتوالى بتعدد سردي ينضوي في شكل سلاسل حكائية. وكل سلسلة عبارة عن وحدات، وكل وحدة هي بمثابة قصة قصيرة يمكن نشرها منفصلة لوحدها. وهذا ما فعله الكاتب فنشر الرواية في شكل قصص قصيرة متتالية في مجلات ودورريات على مدى سبع سنوات بين الاعوام 1988 و1993، معبرًا بذلك عن رغبة ابداعية ووعي نقدي، في أن يقارب الحدود التجنيسية بين الرواية والقصة القصيرة. وهذا تجريب آخر أوحى به التاريخ للكاتب، فوظف الاحداث بطريقة المتوالية السردية التي فيها تجتمع داخل الحكاية الواحدة سلسلة من الأحداث المتصاعدة بالانفصال أو الاتصال والانفراد والاندماج او الاستقلال والاتحاد والتكثيف والامتداد. وكل حكاية هي قصة تلتقي مع القصص الاخرى بخيوط مكانية كي تشكل (رواية التاريخ) التي تتعفف عن ما هو اخباري كما تترفع عما هو متيسر واعتيادي.

ومعضلة التوغل في الرواية هي التخريف الذي بسببه صارت حكايات الجد حديث خرافة حتى أُلصق لقب(آل خرافة) بالعائلة، هذا من جانب ومن جانب آخر هي التشكيك الذي به تقفى الحفيد خطى جده؛ لعله يجد دومة الجندل، مسخرًا كل أساليب البحث من الارتياب في ملاحقة الاحداث إلى التحديق في الحقائق. والغاية إثبات أنّ الخرافة حق، وأن سهو جده وهو يحكي حكاياته عن دومة الجندل كان عن إلهام رباني مكَّنه من أنّ يرى مدينة هي يوتوبيا وردية وليست تخريفًا أو حديث خرافة.

وبالشك فرز الحفيد الواقع عن الحلم فأدرك أنّ التاريخ الرسمي هو الذي زيف المدينة وطمس معالم بهجتها ووارى هيبتها لتكون دستوبيا سوداء. وفي هذا اشارة اليغورية إلى واقع معيش، طَمَسَ الانسان الذي هو صانع التاريخ جوهره النقي الأصيل وحوله إلى مكان مخيف ورهيب كله ظلم وجشع وفساد.

وبهذا يكون في التقارب الشكلي (الميتاسردي) والتلاقي المضموني (الميتا تاريخي) تدليلا واضحا على أنّ فعل الاخبار وفعل السرد مترابطان ومتماهيان يكمل أحدهما الآخر، حتى لا فاصل بينهما. وأنَّ التشابه بين القصص التي يرويها المؤرخون السرديون وتلك التي يرويها كتاب التخييل، أمر طبيعي لأنّ محتواها النهائي كما يرى بول ريكور هو بنى الزمن البشري.

 بمعنى أن ما راود الجد من سهو (قال: حكت لي دومة الجندل حكاية غازيها فاتك بك الذي غزاها معه الجوع والطاعون والفساد) الرواية، ص15، لا يختلف عما راود الحفيد من شك، وأن حلم الجد بوجود مدينة يوتوبية هو الواقع الذي رآه الحفيد مريرًا ومخيفًا غير مرغوب فيه، لتجرده من الانسانية، فسرد لنا صلادة المدينة بالرغم من تفككها وقد جمعت بين سفاحها المغتصب ومطربها المنتحب في حاضر هو أسوأ من الماضي.

وهذا ما حوّل دومة الجندل من حلم وردي إلى كابوس أسود، جعل الحفيد يشعر بالتوتر الذي به أخذ يدافع عن ماضي جده الذي هو ليس ماضيًا منقطعًا ولا منسيًا، محاولا استرداد اليوتوبيا مستنطقا التاريخ بحثا عن حقيقة ضائعة، باستعادتها سيتحقق الحلم.

وما من سبيل لاسترداد الحقيقة إلا بإعادة كتابة التاريخ، كما لا طريق لكتابته سوى بالسرد الذي به تتهشم ثوابت التاريخ وتتنوع الفسحة الابداعية في الكتابة السردية بالميتاسرد والفنتازيا والتغريب والحلم والمفارقة وغيرها، وهذا ما تفرَّدت به (حكايات دومة الجندل) لتكون ريادية كرواية تاريخ، وليست رواية تاريخية تتقيد بالحدث التاريخي، فلا تستطيع من سطوته فكاكًا.

عرض مقالات: